ومن المفترض أن نقول خض الحليب وذلك لتحويله إلى اللبن ولكن جرت العادة أن يستخدم هذا المصطلح في القطيف وهو خض اللبن وليس الحليب ففي الفلكلور الشعبي يقولون: (يا ام حسن خضي اللبن…)
لعلها المرة الثالثة التي أتطرق فيها إلى طريقة خض اللبن في القطيف في مجال التوثيق وذلك لما يتفاجأ منه الكثيرون حول الطريقة القطيفيه، أما مادعاني هذي المرة إلى الكتابة عنها فهو اكتشافي مؤخرا بأنه ليس أهالي هذه المنطقة وحدهم من يستعملون هذه الطريقة وان اختلف الاسلوب نوعا ما!
في معرض الكتاب التاسع الذي أقامته لجنة التنمية الإجتماعية الرئيسية بالقطيف في رجب عام ١٤١٧ الموافق ١٩٩٦ ديسمبر حيث كنت أحد أعضاء تلك اللجنة آنذاك وقد كلفت بالقيام بأحد الأنشطة الجانبية بالإضافة إلى أنشطة اللجنة العامة حيث قمت بتصميم وإنشاء معرضا اثنوغرافيا تجسيديا للبيئه القطيفيه أطلق عليه إسم “البيت القطيفي”.
كان من ضمن المعروضات مجسما لامرأة تخض اللبن وقد كتبت في مقدمة مقصورتها لوحة تعريفيه باللغتين العربية والانجليزيه خض اللبن (churning the milk). كانت تلك المقصورة ضمن ١٦ مقصورة وفي كل واحدة تصميم لمحتوى تجسيدي يبرز عرضا تراثيا لعادة أو مهنة أو مجموعة أدوات تمثل شيئا من البيئة القطيفيه التقليدية القديمه، غير أن مقصورة خض اللبن كانت أكثرهم تميزا عن غيرها فهي أول المقصورات التي تلفت أنظار الزائر عند دخوله المعرض لكون أن البعض لم يرونها من قبل ولكونها تضفي معلومة جديدة لم يسبق للكثير معرفتها قبل ذلك وخصوصا النشء الجديد. وكما أتذكر- كان أول من ظهرت على وجهها علامات التعجب من خض اللبن بالطريقة القطيفية كانت مذيعة القناة السعودية الثانيه (channel 2) وكانت أمريكية الجنسية فكانت تسألني بتعجب عن هذه الطريقة وتطلب مني المزيد من الشروح والتفاصيل أمام الكاميره.
بعد ذلك تلى هذا الكثير من تساؤلات الناس واستغراباتهم حول هذه الطريقة ومن أهالي القطيف نفسها ،وخصوصا أبناء الجيل الحديث. والغريب في الأمر أن الكثير من أهالي المنطقة الذين عاصروا تلك الفترة ليس لديهم أي فكرة بأن اللبن القطيفي يصنع عن طريق صبه في أوان فخاريه تشبه الجرار والتي تعرف بالمنخضه، وفي بعض قرى ومدن القطيف الجنوبيه كأم الحمام والجش والملاحه وبعض اهالي عنك وكذلك أهالي سيهات كانوا يسمونها القمامه، وتجمع عندهم بالقمام والقمامات على أنها من أصل عربي فقد حورت من كلمة القمقم (مفرد) وجمعها قماقم لتسهيل النطق حيث نقول -كما هو مشهور- خرج فلان أو العفريت من القمقم ، فهو كما ذكره المعجم المعاصر والمعجم الوسيط والمعجم الغني ومعجم الفقهاء والرائد وغيرهم بأنه إناء صغير من نحاس أو فضة يجعل فيه ماء الورد وماء الزهر ونحوه ويرش منه على الضيوف ويكون ضيق الرأس، ويضيفوا أيضا أنه وعاء خرافي يحبس فيه المارد، ويضيف الوسيط أنه وعاء فضه أو خزف صيني، ويُفصل الرائد أن من معانيه: جرة وحلقوم ومن هنا قد أعطى المعنى المباشر لتسميتها قمامه.
لعل السبب في عدم معرفة الكثير من الناس بهذه الطريقة وخصوصا أهل المدن هو أنهم لم يشاهدوا النساء الفلاحات وهن يقمن بخض اللبن لكون هؤلاء الناس يسكنون المدينة فلم يتسنى لهم رؤية منظر لخض اللبن في أوان فخاريه ، كما ساعد على ذلك مؤخرا تعود الناس على مشاهدتهم مناظر خض اللبن في الإعلام العام المتمثل في الصور والمجلات والجرائد وكذلك في الأفلام والتلفزيون فقد تعودوا على رؤية خض اللبن بالطريقة البدوية وهي وضع اللبن في سعن أو قرب من جلد الماعز أو الخراف ومن ثم تعلق بالحبل على مايعرف بالكبش أو السباي (وهو ثلاث عصي سميكة تركز أطرافها السفلية في الأرض وأما أطرافها العلوية فتلتقي جميعها لتشبك مع بعضها بحبل وتكون على شكل قمعي أو هرمي يشبه حامل الكاميره)، ثم تحرك المرأة تلك القربة بشكل متواصل.
فلو سألنا مجموعة أطفال مثلا أو شباب عن طريقة خض اللبن التقليديه القديمة فستكون أغلب إجاباتهم -بلا ريب- (حسب ما يرونها في الافلام البدويه). من المعروف أن المجتمع يتأثر بمحيط بيئته وما تحتويه من مواد خامه فالمجتمعات الحضرية قد تعلموا منذ القدم كيفية تكوين الأواني من الطين ثم اهتدوا بعد ذلك إلى حرقها لتصبح أوان فخاريه.
إن تلك المناخض الفخارية تكون على شكل جرار خاصه بخظ اللبن ولها أشكال شبه بيضاوية وانسيابيه بحيث يوضع فيها الحليب وتغطى فوهتها بقطعة جلد حيواني تحكم بحبل رقيق وعند فوهتها التي يبلغ قطرها 12سم تقريبا عروة صغيرة تمسك عند الخض بعد وضعها على الأرض ويتم تحريكها إلى الأسفل والأعلى بسهولة و بشكل متواصل إذ أن شكلها البيضاوي الأنسيابي يساعد على تلك الحركة بسهولة ويسر، وبجانب العروة يوجد ثقب قطره 3 ملم تقريبا يسمى السر والبعض يسميه الفساره تدخل من خلاله أسلة بطول الأصبع لتكون بمثابة مسبار لقياس كثافة الزبده التي تكونت في داخل المنخضه حيث أنه بالإمكان نزعها بسهولة من الثقب وإرجاعها بعد التأكد من مقدار ماعلق بها من الزبده وكثافتها فإذا ما وصلت إلى المستوى المعين المطلوب من الكثافة فذلك يعني أن عملية التحويل قد تمت بنجاح.
يستخدم أهالي القطيف مصطلحات عديده حول خض اللبن فعلى سبيل المثال يستحدم أهالي القديح مصطلح يعبر عن تكوين الزبده كإشارة لإتمام عملية التحويل من الحليب إلى اللبن حيث يقال: (ورودت اللبنه) وكذلك (تورود اللبن).
لقد استمر أهالي القطيف في استعمال المنخضةالفخارية (وبالأخص أهالي القرى) حتى منتصف سبعينيات قرن العشرين الماضي ومن ثم حلت محلها منخضة كهربائيه معدنيه مرتفعة الثمن. والظريف في الأمر أن أهالي بعض المناطق كالجش وأم الحمام اهتدوا إلى طريقة سريعة ورخيضة جدا ونظيفة لخض الألبان حيث استخدموا غسالة ملابس الأطفال التي كانت تباع آن ذاك بثمانين ريالا وهي غسالة صغيرة جدا ارتفاعها 60 سم تقريبا وطول كل ضلع من أضلاعها الأربعة 40 سم تقريبا وهي سريعة جدا في إنجاز خض اللبن ولذلك فقد انتشر استعمالها في كل مكان كمنخضة لبن. وأما الأواني الفخارية فقد اضمحلت وتوارت عن الأذهان والأسماع.
قرأ أحد المهتمين والمتابعين للتراث آخر ماكتبته حول طريقة خض اللبن في القطيف فتفاعل معه كثيرا واستعلم حوله، فأخبرته بأننا لسنا الوحيدون في استعمال الجرة كمنخضة للبن فهي تستعمل في المجتمعات التي تربي الأبقار أي المناطق الزراعيه وهذا يعني انها تستعمل في المجتمعات الريفية الحضريه.
بعدها أرسل لي مقطع فيديو يؤكد ذلك. من تلك المجتمعات الريفية التي تتبع نفس الطريقه المجتمع الفلسطيني والسوري والتركي واللبناني ومن المؤكد أنها متبعة في العراق أيضا، اما في البحرين فهو من المسلم به حيث أن كل ماهو في القطيف هو في البحرين والعكس صحيح أيضا.
قواك الله استاذنا الفنان
خض اللبن هو الأصول بلاغيا
لان الجملة موجزة جدا و بأفصح عبارة ، و توضح الطريق النتيجة و هو الحصول على اللبن، فليس كل خض للحليب يؤدي إلى الحصول على نفس النتيجة.
يعطيك العافية ابو محمد على هذا الشرح الوافي والمفصل لهذه العملية التي كانت سائدة في المنطقة لتزيدنا اطلاعا متعمقا عن خض اللبن ويطلع النشىء الجديد على جانب مهم من تاريخ منطقة القطيف الباهر.
زادكم الله علما وتوفيقا .
مبدع استاذنا العزيز ابو محمد في احتواء المواضيع وايصال المعلومات بطرق سلسه وممتعه لمن يريد التعرف على تراث الاجداد
بارك الله فيك وفي علمك واهتمامك ، نسال الله لكم طول العمر مصحوب بالصحة والعافية