يعتبر العلاج الدوائي أحد أهم ركائز الممارسة الطبية، لهذا فالأمور المتعلقة به من القضايا المهمة، التي تستحق البحث والمعالجة. سنحاول في هذه المقالة إلقاء بعض الضوء على القضايا المهمة المتعلقة بالعلاج الدوائي، من أجل ثقافة دوائية أفضل.
أول هذه القضايا، قضية الدواء المبتكر (Brand drug) والدواء الجنيس (generic drug). الدواء المبتكر هو ذلك الدواء الجديد الذي تبتكره الشركة الصانعة الأم في المختبرات، ولا يكون ذلك إلا بعد سلسلة طويلة من الأبحاث والدراسات في المختبرات، على الأنسجة والحيوانات، ومن بعدها الدراسات الأكلينيكية، وتأتي بعدها مهمة التسجيل عند الجهات الرقابية والدعاية والإعلان.
لذلك، فقد يستغرق تطوير دواء مبتكر واحد حوالي ١٠ سنوات، ويكلف مئات الملايين من الدولارات، قيمة الدراسات بشتى أنواعها وتكاليف التسجيل لدى الجهات الصحية والدعاية والإعلان. ومن أجل حماية الحقوق الفكرية والمادية للشركة الصانعة للدواء المبتكر؛ فإنها تُمنح فترة حقوق ملكية (patency) لمدة قد تصل لخمسة عشر سنة أو أكثر، حسب القوانين الناظمة للعملية، تحتكر فيه الشركة الصانعة للدواء المبتكر حقوق صنع الدواء. وعند قرب انتهاء فترة الحماية القانونية، تبدأ الشركات المنافِسة بطلب تسجيل الدواء الجنيس لدى هيئة الغذاء والدواء لطرحه في الأسواق.
تعريف الدواء الجنيس: هو الدواء المكافئ للدواء المبتكر، بحيث يحتوي على نفس تركيز المادة الفعالة ونفس الأثر العلاجي، ولكنه يختلف عن الدواء المبتكر في الاسم التجاري والمظهر العام مثل اللون والطعم والرائحة والمواد غير الفعالة، وكذلك في السعر، حيث يكون عادة أقل سعرا من الدواء المبتكر؛ لأن الشركة المنتجة للدواء الجنيس لم تتحمل تكاليف التطوير والدعاية والإعلان.
من هذا نعرف أن الدواء المبتكر والجنيس يُفترض بهما أن يكونا متساويين في الأثر الدوائي، ولذلك يُختبر الدواء الجنيس مقارنة بالمبتكر باختبارات التكافؤ الحيوي (Bioequevelence). عرّفت إدارة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة، التكافؤ الدوائي، بانه عدم وجود اختلاف كبير في المواد المتكافئة صيدلانياً أو البدائل الصيدلانية والتي تصبح متوافرة في مكان تأثير الدواء في المعدل والمدى من العناصر الدوائية الفعالة عندما تؤخذ تحت نفس الظروف.
مشكلة ضعف الثقة في الدواء الجنيس
لكن من خلال الواقع العملي الذي نعايشه، لا نجد هذه الحالة المثالية من التكافؤ والتطابق بين الدواء المبتكر والجنيس، بل نجد مشكلة عدم الرضا أو “الثقة” في الدواء الجنيس في مقابل الدواء المبتكر، فالكثير من الناس يكرر الدعوى بأن الدواء الجنيس أقل جودة وكفاءة من المبتكر؛ كونه أرخص ثمناً ولا يملك نفس التأثير العلاجي للدواء المبتكر. هذه الدعوى منتشرة كثيراً في الأذهان إن لم تكن هي النظرة السائدة، وهذا الاعتقاد السائد يتسبب في مشاكل عديدة منها:
١/ رفض المريض للدواء الجنيس بحجة عدم فعاليته أو تسببه في أعراض جانبية، وهذا قد يسبب خللاً كبيرا في علاج المريض وربما في تدهور صحته.
٢/ ارتفاع تكلفة العلاج الدوائي كثيراً؛ بسبب الإصرار على الدواء المبتكر، والذي يكون مرتفع الثمن عادة، ما يؤدي إلى إرهاق كبير لميزانية الدولة والمؤسسات والفرد على حد سواء.
٣/ حصول حالة من الانقطاعات ونقص متكررة في إمدادات الأدوية؛ بسبب استعمال دواء تحت اسم تجاري بعينه من شركة معينة.
بالمقابل يمكن ذكر عدة فوائد لوجود الدواء الجنيس إلى جانب الدواء المبتكر، منها:
١/ تحقيق حالة من الأمن الدوائي في البلد، بحيث تقوم المصانع الوطنية بتصنيع الأدوية المهمة والضرورية محلياً، وتوفيرها بكميات تكفي لمدة طويلة نسبياً، حتى لا يحصل انقطاع مفاجئ وطارئ، يسبّب حالة من الأزمة والمشاكل للمرضى المحتاجين للأدوية الضرورية بصورة دورية.
٢/ توفير خيارات متعددة من الدواء الواحد، بحيث يمكن الاختيار من الأدوية والمقارنة بين الأسعار.
٣/ تخفيض فاتورة العلاج الدوائي، سواء على مستوى الدول أو الأفراد، وهذه ميزة اقتصادية مهمة جداً خصوصاً مع الارتفاع الكبير في أسعار الأدوية الجديدة.
جهود هيئة الغذاء والدواء في ضبط سوق الدواء
في بلادنا، تقع مسؤولية التأكد من صلاحية وجودة الدواء الجنيس وتكافؤه مع الدواء المبتكر، على عاتق هيئة الغذاء والدواء السعودية، وهي مهمة صعبة بلاشك، فهي تتطلب التأكد من سلامة البيانات التفصيلية المقدمة من الشركة المنتجة للدواء وفحصها بدقة، حيث تقوم الهيئة بالتأكد من مصدر المواد الفعالة المستوردة (Active pharmaceuticals Ingredients API) ، ولبيان مقدار دقة وتتبّع الهيئة؛ أنه في حالة تغيير مصدر المادة الفعالة يحتاج المصنع لإذن جديد من الهيئة، بل أن الهيئة تقوم بزيارة ميدانية تفقدية للمصنع المنتج للدواء الجنيس، للتأكد من التزامه بأسس التصنيع الجيد (GMP) ، كل هذا حرصاً من الهيئة على جودة وسلامة الدواء الجنيس ومدى تكافؤه مع الدواء المبتكر.
تقوم الهيئة ، ممثلة في المركز السعودي للتيقظ والسلامة الدوائية، بفحص دوري على الأدوية الجنيسة ، وقد تسحب الأدوية التي تفشل في اختبارات الجودة، وتعلن عن الاجراء المتخذ في قنواتها الرسمية.
ولأن سعر الأدوية له علاقة كبيرة بموضوعنا، فقد اقتبست هذه الأسئلة وأجوبتها من موقع هيئة الغذاء والدواء السعودية:
لماذا تسعر الأدوية؟
تحرص غالبية الدول ومنها المملكة العربية السعودية ممثلة بالهيئة العامة للغذاء والدواء على تحديد أسعار الأدوية؛ لضمان أن تكون متاحة لجميع المواطنين بأسعار مناسبة، وذلك بعد تسجيلها والتأكد من فاعليتها ومأمونيتها.
على الجانب الاقتصادي، تقوم الحكومات بتسعير الدواء، لكون الأدوية ليست سلعة اقتصادية عادية، تختلف عن بقية البضائع المتوفرة في الأسواق، حيث أنها تباع من الطرف الثاني (الشركات الدوائية) إلى الطرف الأول (المريض) بطلب من طرف ثالث (الطبيب المعالج)، لذلك لا تخضع لأبجديات الاقتصادية المعروفة المعتادة والمبنية على مقياس العرض والطلب في المنتجات العادية.
إذاً كيف يسعر الدواء في المملكة العربية السعودية؟
يتم تسعير الأدوية في المملكة بناء على قواعد وأسس علمية معتمدة، ولمبدأ الشفافية منشورة على موقع الهيئة. وهذه تضمن الحصول على أقل سعر ممكن أن يوفر الدواء في السوق المحلي، كذلك يضمن متابعة تغير السعر عالميا بحيث ينعكس إيجابا في السوق المحلي السعودي. ومن أبرز معطيات المعتمد عليها في تسعير الأدوية:
1- سعر الدواء في جميع الدول المسوق بها عالميا، قرابة ثلاثين دولة معتمدة.
2- سعر الأدوية المشابهة المسجلة في المملكة.
3- أهمية الدواء العلاجية ومدى توفر بدائل علاجية أخرى.
4- الدراسات الاقتصادية الحديثة للدواء الجديد.
وغيرها من القواعد والمعطيات العلمية. والتي تتم عبر لجان فنية غالبية أعضائها من خارج الهيئة لضمان الحيادية في اتخاذ القرار.
بعض الأدوية الخاصة تحتاج إلى إشراف طبي قبل تغييرها
بطبيعة الحال، ليس كل الأدوية يمكن الحكم بالتكافؤ التام بين الدواء الجنيس والمبتكر، فهناك أدوية ذات طبيعة خاصة تجعل منها استثناء للقاعدة، ففي مثل هذه الحالات ينبغي للمريض استشارة طبيبه المعالج في حالة تغيير الدواء من شركة لأخرى ، وأبرز مثال على تلك الأدوية المثبطة للمناعة والأدوية البيولوجية عموماً، ويمكن إلحاق الأدوية ذات المؤشر العلاجي الضيق (narrow therapeutic index drugs) مثل {digoxin, thyroxine , phenytoin ، warfarin}. ويقصد بها تلك الأدوية التي تتميز بالهامش الضيق بين الجرعة العلاجية والسامة ، لذلك ينبغي في حال استعمال هذه الأدوية المحافظة على نوع معين من الدواء، وأن لا يحصل التغيير إلا بعد موافقة الطبيب وإشراف منه، حيث أنه قد تتطلب بعض حالات التغيير في أنواع الأدوية إجراء بعض فحوصات الدم للتأكد من مستواها في الجسم.
أصدرت هيئة الغذاء والدواء بعض التطبيقات النافعة للمرضى للاستخدام الأمثل للأدوية، مثل تطبيق “بك نهتم” الالكتروني للهواتف الذكية، تتيح التعرّف على البدائل المتطابقة للأدوية، في المادة الفعّالة، التركيز، الجودة، والأمان، مع اختلاف السعر والشركة المصنّعة.
يمكن الدخول على تطبيق “بك نهتم”، وفتح أيقونة “خدمات”، ثم اختيار أيقونة “الدواء”، ثم “الأدوية المسجلة”، لتظهر صفحة “كتابة اسم الدواء في محرك البحث”، ومنها يتم تحديد الدواء المناسب، ليظهر المنتج والبدائل المتاحة.
ظاهرة تعدد الأدوية والازدواج الدوائي
توجد بعض المفاهيم والظواهر في عالم العلاج الدوائي تستحق التفصيل والنقاش بل وإفرادها بمقال مستقل، ولكن سنذكرها باختصار لصلتها الوثيقة بموضوع الأدوية الجنيسة والمبتكرة، الظاهرة الاولى هي ظاهرة التعدد الدوائي أو ما يعرف ب (polypharmacy) وتعرف باستخدام المریض لخمسة أدویة أو أكثر، عادة ما تحصل ھذه الحالة عند كبار السن الذین تجاوز سنھم 65 سنة. كما أن 21% من البالغین الذین یعانون من تخلف عقلي معرضون لتعدید الأدویة.
رغم أن “تعدید الأدویة” يحتاجه الكثیر من المرضى بسبب تعدد أمراضهم، إلا أنه غیر ملائم للكثیرین، بسبب مشاكل تتعلق بالتفاعلات الدوائیة الضارة والتداخل الدوائي والتكالیف المرتفعة. تعدید الأدویة مرتبط بانخفاض جودة الحیاة وانخفاض سلامة المریض.
لذلك ينبغي على الذين يقومون برعاية المريض كبير السن أن يلاحظوا الأدوية المستخدمة وأي تغيير يطرأ في الأسماء التجارية لمنع الازدواج الدوائي (therapeutic duplication) وهو الظاهرة الثانية، وهي مشكلة خطيرة قد تحدث بسبب تعدد مصادر تقديم الرعاية الصحية، لأن المريض يراجع في عدة مستشفيات او مراكز صحية مما يسبب إزدواجية الأدوية وصرف العلاج نفسه بعدة أسماء تجارية، أو أدوية شبيهة من نفس المجموعة الدوائية، أو يكون نفس المستشفى يستبدل الدواء بدواء آخر مبتكر أو جنيس حسب التوافر في السوق. وللتغلب على هذه المشكلة ينبغي للمريض (أو من يقوم برعايته)، الحرص على معرفة الأسماء العلمية للأدوية (scientific name) ولا يكتفي بالأسماء التجارية ، حتى يمكن التعرف على الازدواج الدوائي في حال حصوله، حيث ان الدواء له اسم علمي واحد وأسماء تجارية متعددة، وأن يحرص المريض (أو من يقوم برعايته)، على المتابعة مع طبيب في مركز صحي واحد قدر الإمكان لتجنب هذه المشكلة، وأن يُحرص على إحضار الأدوية المستخدمة أو صورها للطبيب المعالج أو الصيدلي لمنع حصول مثل هذه المشكلة.
خدمة “تيقظ” خدمة ممتازة تسهم في مشاركة المريض في الإبلاغ عن جودة وأمان المستحضرات الطبية
نرجع إلى مشكلة عدم ثقة بعض المرضى في الدواء الجنيس وعدم قناعتهم به، هذه المشكلة واسعة الانتشار كما أسلفنا، وليس من السليم أن تُترك بدون إيجاد حلول أو مقاربات عملية من الجهات الرسمية، لذلك أوجدت هيئة الغذاء والدواء ، خدمة “تيقظ” موجودة في موقعها الالكتروني حيث تمكّن الفرد العادي من التدخل بفعالية في الإبلاغ عن الأعراض الجانبية للأدوية والمستحضرات العشبية والتسمم الغذائي، وهذه خدمة ممتازة جداً تتيح لكل فرد من المجتمع بأن يساهم بفعالية في تطوير الخدمات الصحية وضبط الأسواق، وأن يكون شريكاً فاعلاً في الرقابة والمحافظة علئ جودة المستحضرات الطبية.
عملية اختيار الدواء سواء الجنيس أو المبتكر تخضع لعوامل واعتبارات متعددة، سواء على الصعيد الجماعي أو الفردي، فعلى الصعيد الجماعي ، ينبغي الالتفات للكلفة الاقتصادية للأدوية، بحيث يكون الدواء الجنيس ضرورة لتخفيف العبء المالي، أما على الصعيد الفردي يكون الدواء الجنيس من ضمن خيارات المريض المتاحة ، ولا ينبغي التغافل عن التكافؤ بين النوعين في الفاعلية والأمان ، وهنا تبرز أهمية قيام الجهات الصحية المختصة بالرقابة والتأكد من جودة وسلامة الأدوية.
وفي الختام يبقى خيار المريض وقناعته الشخصية وحريته محفوظة في اختيار الدواء الذي يناسبه من بين الخيارات المتوفرة للدواء الواحد.
*غسان علي بوخمسين ، صيدلاني أول ، مستشفى جونز هوبكنز.