أسمعُ وأرى كثيرًا مما يُفعل بقلعة تاروت ويُكتب عنها، وفيه الكثير من الجمالِ والإبداع، ومع ذلك أخشى أن أزورها لكي لا تنفجرَ الذكريات المائية التي لا تزال حاضرةً وساكنةً في ذاكرتي خمسين سنةٍ تقريبا، مع أنها بمقاييس الآن بائسة وفقيرة.
ذاكرة النبع، أو “الحَمَّام” الذي كان مقصدًا لكل الطبقاتِ الاجتماعية، والمعلم الوحيد الذي يزوره الغرباءُ في حالِ زاروا القلعةَ، شقَّ أخاديدَ ذكريات لمن عاشوا بالقرب منه لا يمحوها تقادمُ الأيام والعصورُ الجيولوجية التي تزين تشكيلاتِ الصخور التي تتناثر منها باستمرار.
ذكريات النبع الذي “كان” يغري الناسَ بالسباحة فيه نساءً ورجالاً، صبايا وصبيان، ساعات المساء في الشتاء كنَّا نجد فيه ملجأً دافئًا يحمينا من برودةِ الجو، فإذا ما كنا اثنين أو أكثر من الصبية تنازعنا من يخرج من الماءِ أوّلاً ونتبعه. وأبغض ما كان في ساعاتِ السباحة أن يكونَ فيك كشطٌ أو جرح، لأن الأسماك الصغيرة التي من المفترض أنها تكون طبيبًا تحتَ الماء تنهش الجراحَ الغضَّة وتدميها أكثر، وتجعلك تفر منها حيث لا مفر، وهي تقرضك – مع نيةِ الشفاء – ساعةَ ما تغفل عنها!
{وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ}، فالبلدة تقريبًا كلها كانت تتجمع حولَ الماء، الباعة والكسبة والعمال والبحارة، ولا ماء يضيع هدرا، فما ينتهي منه الناس تغتسل به الحيوانات، وما يفيض منه بعدها يسقي البساتينَ القريبة من النخيلِ وما استطاع الناسُ أن يزرعوا، شرقًا وجنوبًا، مخترقًا ما كان في السوقِ من حوانيت صغيرة وجاعلها على ضفتيه.
يفعل الماءُ في حياةِ الناسِ وفي الطبيعة، ما لا يفعله عاملٌ آخر، ما يفعله عبر التاريخ في الطبيعة من تشكلاتٍ صَخرية وتكتلاتٍ بشرية وتنوع في الزراعة وأحوال المناخ والرخاء الاقتصادي وأكثر من ذلك، هو السر المفضوح والمودع في الماء الذي من ملكه مَلَك الحياة كلَّها، ومن فقده فقدها كلَّها.
عمَّا قريب سوف ينتهي ذلك الحلم القديم واستيقظ على حلمٍ أجمل منه وأزور ذلك المكان الذي كان حوله وفيه لكثيرٍ من أبناءِ الجيلِ القديم ذكريات طفولية وصبيانية، ولأنها فقط انتهت بدت جميلة، أجملَ مما كنا نراها ونعبث في حجارةِ قلعتها آنذاك. وحتمًا سوف يُسر بها وبمرآها كلُّ زائرٍ جديد، وإن لم يحظَ بعلاقةٍ قديمة معها كما كنَّا نحن، أبناء الجيل الماضي.