منذ شهر تقريباً بدأت بممارسة لعبة التنس الأرضي، والتي لم ألعبها قط في حياتي، هذه اللعبة أجبرتني على تعلّم أشياء كثيرة، ودفعتني لتركيز انتباهي على موازنة حركات جسمي خلال اللعب، حيث كانت ممارسة التوازن هذه عملية جديدة على جسمي لم يعهدها من قبل، ولكن بالتدريب المستمر أصبحت أكثر قدرة على التحكم بالمضرب، مِما ساعدني على ضرب الكرة في المكان الصحيح منها وبالطريقة الصحيحة وبالقوة المطلوبة، ولا زلت أتحسن في موازنة ومعايرة حركات جسمي، فالإتقان الكامل لحركة الجسم وبالتالي للعبة يبدو أن دونه خرط القتاد.
لم يكن هدفي الأساسي من ممارسة اللعبة هو الرياضة البدنية بحد ذاتها، فهي تُعتبر عندي محصّلة ثانوية، حيث الهدف الرئيس كان الرياضة العقلية من خلال تنشيط الدماغ وإبقائه في حالة مرنة وكسر الحياة الرتيبة التي تدعو الى الملل والإكتئاب.
فكما تحتاج عضلات البدن الى تنشيط، فكذلك الدماغ. فالدماغ يتميز بقدرته على المرونة العصبية، وذلك من خلال تنشيطه بكسر الرتابة، فالرتابة من شأنها أن تُكلّس شبكة العصبونات في الدماغ، مما يضعف المرونة العصبية.
من المعروف أنه كلما تقدم الإنسان في العمر مال إلى الرتابة والتكرار، وكره تعلم أشياء جديدة أو تغيـير عادات قديمة، وهذا من شأنه ان يقلص من المرونة العصبية وإن كان لذلك ايجابيات.
من الإيجابيات المعتبرة ؛ الرتابة تزيد من الكفاءة وقدرة الأداء وسرعة إنجاز المهام المتكررة، ولذلك تقلل التكاليف والجهود التي يحتاج أن يبذلها الشخص لأداء مهمة اعتاد على القيام بها، ولذلك يفضل الإنسان استخدام نفس الطريق للذهاب الى وجهته باستمرار، ويميل إلى التسوّق من نفس المحلات التي اعتاد عليها، ويذهب إلى نفس المسجد الذي يؤدي فيه صلواته ، كما أنه يرغب في السكن في نفس المنطقة التي عاش فيها سنين طويلة، وهذا ما يجعل التنقل والهجرة صعبة جداً، لأنها تتطلب تعلّم أشياء كثيرة وبناء علاقات إجتماعية جديدة، ربما في بعضها على الشخص أن يبدأ من الصفر.
أمّا الجانب السيء في ممارسة الرتابة والتمسك بالعادات يتمثل في ضعف مرونة الدماغ العصبية مع مرور الزمن، فعصبونات الدماغ المترابطة تزداد تماسكاً وتصلباً على ما اعتاد الإنسان عليه، فلا تُبنى روابط مشبكية جديدة، ولذا يتكلّس الدماغ نتيجةً لذلك ويضمر الإبداع، ومن ملازمات ذلك تأثيره السلبي حتى على التعلم، فالانسان قد يكون أقل شغفاً في خوض تجارب علمية جديدة أو أقل فضولاً في استكشافات جديدة، ظانًا أنه يعرف نتائجها بناءاً على ما لديه من معلومات سابقة.
لا يقتصر تكلس عصبونات الدماغ على العادات والسلوك والتصرفات، بل ينسحب ذلك حتى على المعتقدات والمفاهيم والآراء، ولذلك يصعب تفكيك معتقدات الانسان والتخلي عنها بمرور الزمن، وذلك لقلة المرونة العصبية من جراء تكلس العصبونات في الدماغ، فالانسان يتعامل مع معتقداته كما يتعامل مع ممتلكاته، ولذلك ينفر من خسارتها ولا يتخلى عنها بسهولة، خصوصاً إذا استثمر فيها جُلَّ عُمره، ولذلك قال صالح ابن عبد القدوس، الشاعر الذي قتله شعره:
والشيخ لا يترك أخلاقه
حتى يواري في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى جهله
كذي الضنا عاد إلى نكسه
ولكي يبقى دماغ الإنسان مرناً ونشطاً ومواكباً لتطورات الزمن، فعلى الإنسان أن يكسر الرتابة عبر تغيير نمط الحياة الذي اعتاد عليه، وذلك عبر تعلم مهارات جديدة أو لغة أخرى أو السفر إلى أماكن لم يرها من قبل، أو قراءة كتاب يتحدى مسلماته أوتقديم وجهة نظر مختلفة خارج الأفكار السائدة ، أو الانخراط في نشاط جديد أو تبني هواية جديدة، أو حتى تغيـير وجهاته اليومية في التسوق واماكن العبادة، واستكشاف طرق أخرى للوصول إليها وإن كانت تلك الطرق الجديدة أكثر صعوبة وتستهلك وقتاً أطول، فالهدف هو تنشيط الدماغ وليس الحفاظ على الكفاءة والسرعة وتوفير المال في انجاز المهمة.
قبل أن أُنهي المقال دعني ابشرك أيها القاريء الكريم بخبر جميل:
إذا وصلت في قراءة المقال إلى هذا الحد، كن على يقين أن مرونة دماغك قد زادت، وتكونت لديك روابط عصبونية جديدة بما قرأت من معلومات، فشكل دماغك الآن تغير عما كان عليه قبل بضع دقائق فقط، ولذلك القراءة وتعلم مهارات وأشياء جديدة مهم وينبغي أن يستمر طوال العمر حتى تبقى مرونة الدماغ العصبية قوية ونشيطة (اطلب العلم من المهد إلى اللحد).
الآن فكر في نشاط جديد لم تقم به طوال حياتك، واطلعنا عليه كي تفتح لنا آفاقًا جديدة.