الفيزياء والبنية اللاشعورية في الفكر العلمي – د. جاسم العلوي

ملخص

في هذه الورقة حاولنا أن نثبت أن العقلانية العلمية تفتقد لقاعدة اليقين والأمان المعرفي. فبينما يتميز الإتجاه العقلاني الأوربي والإسلامي بقاعدة اليقين والأمان التي هي بنية عميقة في العقل البشري ، فإن العقلانية العلمية والاتجاهات العلمية الملتزمة بروحها حاولت عبر تفسير معطيات تجريبية في النظرية الكمية  نسف هذه البنية العميقة في العقل البشري. لكننا أثبتنا أن العقلانية العلمية تعاني من إنفصام وازدواجية على المستوى النظري والتطبيق ، وأن تناقضات العقل العلمي وصيرورة التطور العلمي قد أثبتت هذه البنية العميقة والتي اوضحنا أنها تعبر عن نفسها في الحالة اللاشعورية لدى هذا العقل عندما يتم نسيان المتغيرات في داخله لتظهر تلك الطبقة العميقة والراسخة في العقل البشري بصورة قهرية.

شكل الكجيتو الديكارتي مع مجموعة الأفكار الفطرية أساس اليقين في المعرفة البشرية لدى الإتجاه العقلاني في أوروبا. وهو كذلك مصدر الأمان المعرفي إذ يمكن بالعودة اليها أن نبدأ بممارسة النشاط المعرفي في كل فضاءات المعرفة ، إذ مها ضعفت ثقتنا في البناء العلوي للمعرفة ثمة أساس ومرجعية راسخة وقوية تشكل قاعدة الأمان وتؤمن لنا الإنطلاق من جديد. و يقابل الإتجاه العقلاني الأوروبي على الضفة الأخرى الإتجاه الفلسفي الإسلامي الذي يؤمن قاعدة اليقين و الأمان للمعرفة البشرية و إن كان في سياق مختلف. تحتفظ الفلسفة الإسلامية للمعرفة البشرية ببنية عميقة راسخة يتم اكتشافها اولاً بالشهود الباطني و من ثم يتحول هذا الكشف الشهودي الباطني الى مجموعة من المفاهيم يشكلها العقل بعد إتصاله الحسي. وتتمثل قاعدة اليقين و الأمان المعرفي لدى الإتجاه الفلسفي الإسلامي بمجموعة البديهيات الأولية كمبدأ العلية ومبدأ عدم التناقض، وهي بديهيات يسلم المرء بصدقها فور إدراكها.  ونحن هنا نحاول أن نعي ما إذا كان بالإمكان أن تتمتع العقلانية العلمية في أساس بنيتها التجريبية بقاعدة الأمان واليقين الذي يؤمن لها الإنطلاق عندما يخالط المعرفة  البشرية الشك وعدم الثقة. تقوم العقلانية العلمية على المستوى الأبيستمولوجي على عدم الإعتراف بالأحكام العقلية القبلية البحتة  و على المستوى الأنطولوجي بعدم الإعتراف بالوجود الغير مادي. و ما دام الواقع المادي هو المرجعية الأساس للعقلانية العلمية في المعرفة فهل من تجربة أو عدد من التجارب تشكل بمجموعها قاعدة اليقين و الأمان على غرار الكجيتو الديكارتي و الأفكار الفطرية المودعة في صميم التكوين الإنساني كما يعتقد بذلك اصحاب الإتجاه العقلاني الأوروبي؟ وهل التجربة في ذاتها قادرة على أن تزود البشرية بقاعدة الأمان واليقين؟ و نحن في هذه الورقة سنثبت أن التجربة في ذاتها و استقلالا عن العقل و أحكامه  القبلية ستحيلنا إلى الفراغ وليس فيها ما يزودنا بالأمان واليقين المعرفي الذي يمكن دائما بالعودة اليه معاودة النشاط المعرفي. كما إننا سنكشف عن انفصام واضح تعاني منه العقلانية العلمية ما بين موقفها النظري و موقفها العملي و هي ما يؤكد مدعانا في هذه الورقة من وجود بنية لا شعورية في الفكر العلمي .

سنعمد إلى ممارسة تاريخية – فلسفية نستبين من خلالها فقدان هذه البنية العميقة الصلبة للمعارف البشرية و التي أسميناها قاعدة اليقين و الأمان عندما نلتزم بالمرتكزات التي تقوم عليها العقلانية العلمية . و مقصودنا من هذه الممارسة ان نجعل من السياق التاريخي لتطور العلوم مقدمات لبيان المشكلة فلسفيا المتمثلة بالأزمة المعرفية على ضوء الإلتزام الصارم بهذه العقلانية التي تؤمن بمركزية التجربة في النظام المعرفي.

و بالعودة للتاريخ ، و التأمل في المسار التاريخي لتطور العلوم ، و بالتحديد سنقف عند بعض المحطات التي شكلت منعطفات حادة في تطور العلوم و صنعت اتجاهات ابيستمولوجية جديدة ورؤى فلسفية للوجود ، فإننا سنكتشف أن أفكارا كانت راسخة و سائدة لفترات طويلة من التاريخ ، لكنها تلاشت و انتهت بعد أن تجاوزت الإنسانية العقبة السيكولوجية التي عادةً ما تتشكل بسبب العادات الفكرية الضارة التي تحيل دون فحص الأفكار و مراجعتها . و سنكتشف أن العلاقة بين العقل و التجربة اخذت تتموضع من حيث الأهمية بشكل مختلف في مثل هذه المحطات الهامة من تطور العلوم.

لقد تلاشت على سبيل المثال فكرة العلاقة التي تربط بين كتل الاجسام و سقوطها باتجاه الأرض في القرن السادس عشر الميلادي بعد أن اختبر جاليلو هذه الفكرة و اثبت تجريبيا خطأها. لقد حققت التجربة هنا نجاحا باهرا بعد عن أماطت اللثام عن زيف ذلك الإعتقاد الذي ساد الوعي الإنساني ما يقرب الألفين عام. هكذا  تعززت مكانة التجربة و دورها في تطور العلم. لابد هنا ان نستدرك ان المنهج التجريبي في العلوم لم يبدأ مع جاليلو ، لكن مع جاليلو صنع لحظة فارقة في التاريخ الأوروبي بالخصوص. لقد ادرك جاليلو أهمية الرياضيات و تطبيقها على ظواهر الطبيعة فالطبيعة كما يعتقد مكتوبة بلغة الرياضيات. لكن الرياضيات بوصفها فاعلية ذهنية و نشاط تجريدي مع اللحظة الجاليلية هي تابعة للتجريب و تتحرك في أفقه. و بذلك مهد جاليلو لظهور إتجاها ابيستمولوجيا في المعرفة يضع التجربة في مركز النظام المعرفي . واصلت التجربة تحقيق النجاحات في القرون التي تلت العصر الجاليلي إلى ما قبل القرن العشرين ، جاعلة من النشاط العقلي تابعا لها. فالعمليات التجريبية تُترجم إلى عمليات ذهنية ، عمليات تشكل مجموعة مترابطة من القواعد المنسجمة و المستقاة من التجربة. و هكذا لعب النشاط العملي للإنسان في كافة المجالات في هذه الحقبة من تاريخ المعرفة دوره في تكوين المنظومات الفكرية والتي مرجعيتها تجارب الإنسان في الطبيعة ، تجاربه في الساحة الإجتماعية و الإقتصادية.

بعد جاليلو بمائة عام تقريبا جاءت نظرية نيوتن في الجاذبية و كذلك نظرياته في حساب التفاضل و التكامل لتحدث ثورة علمية ، ثورة  تحمل كل دلالات المعنى لهذه الكلمة ، ثورة أحدثت قطيعة مع الماضي. و لكي نعي ثورية الأفكار التي جاء بها نيوتن سنستعين في هذا الصدد بأفكار توماس كون الواردة في كتابه “بنية الثورات العلمية”  حول الكيفية التي تنمو بها العلوم دون الإلتزام الكامل باراءه. يرى كون أن العلم يتطورعبر عدد من المراحل ، المرحلة ما قبل العلمية و ليس مهما تناولها ، و مرحلة العلم السوي أو القياسي normal Science و هذا يتطلب نموذجا فكريا ( مترجم بنية الثورات العلمية يسميه نموذجا إرشاديا ). و في رأي كون فإن النموذج الفكري أو الإرشادي بحسب الترجمة يشكل الوحدة الأساسية المشتركة التي يتبناها العلماء في فترة زمنية ما و منه نتمكن من دراسة تطور العلوم.( 1 ، ص41). و بحسب كون فإن العلم يتطور على أساس ثوري يتزلزل معها جملة من المعتقدات . فمثلا يحدث أن  يواجه العلم السوي (القياسي) شذوذا يتم في البداية إغفاله على أمل أن يتمكن العلماء من حله وفق النموذج الإرشادي المعتمد و لكن يستمر الشذوذ بحيث لا يجدي معه أي جهد و يتعذر على العلماء إغفال الشذوذ إلى فترة أطول ، حينئذ يهتدي العلماء إلى هدم التقليد في الممارسة العلمية يعني التحول إلى نموذج إرشادي جديد يفضي لممارسة علمية جديدة.( 1، ص34). و يعتبر كون إحلال نموذج إرشادي محل آخر هو ضرورة تفرضه الممارسة العلمية ، إذ لا يمكن أن يرفض العلماء نموذجا إرشاديا دون إحلال البديل. يقول في هذا الصدد ” فإن قرار رفض نموذج إرشادي يكون دائما و في آن واحد قرار بقبول نموذج إرشادي آخر ، و إن الحكم الذي يفضي إلى هذا القرار إنما ينطوي على كل مقارنة النموذجين الإرشاديين بالطبيعة و مقارنتهما بعضهما ببعض” ( 1 ، ص 116). فما الذي يحويه النموذج الفكري او الإرشادي من معتقدات تشكل تقليدا في الممارسة العلمية ؟ دعونا نسجل أن كلام كون حول النموذج الإرشادي كما يسميه غير واضح و غير محدد لأنه يضم معتقدات ذات أبعاد تاريخية و تربوية .  و هنا و من اجل تحديد مرتكزات النموذج الفكري ، سنحيل القارئ إلى ورقة بعنوان ” ميكانيكا الكم و التحول في النموذج ” كتٙبتها فيلسوفة العلم من جامعة الإنيويز الامريكية (Valia Allori  ) و فيها تسجل نفس الملاحظة التي أوردناها حول صعوبة فهم محدد و منضبط للنموذج الإرشادي عند كون.  تقول (Valia Allori):

“In addition, since his( Khun) definition of Paradigm is complex and not well understood, I am going to consider that a paradigm consists of the following : 1- a world-view: a claim about what exists in the world. 2- a set of methodologies with which a scientist can account for the behavior of macroscopic objects and their properties in connection with the world-view. 3- a set of concepts to define 1 and carry out 2.” (2, p3).

تحدد Allori  ثلاثة مرتكزات للنموذج الفكري: 1- رؤية علمية للعالم من حيث مكوناته الأساسية. 2- مجموعة من المنهجيات التي على ضوءها يستطيع العالم ان يفسر سلوك الأجسام الماكروسكوبية ( الكبيرة ) من خلال الرؤية العلمية للعالم. 3- مجموعة من المفاهيم التي تشرح الرؤية العالمية و تستخدم في المنهجيات. كما أنها في الورقة تحدد المعنى المقصود من التحول في النموذج فتقول:

 “paradigm shift thesis: moving from one physical theory to the next our paradigm radically changes”( 2, p4)

 التحول في النموذج يقتضي تغير جذري في النموذج المتحول عنه عندما ننتقل من نظرية إلى أخرى. و تعود Allori  لتشرح ما تقصده من كلمة التغير الجذري  فتقول هو ان يحدث تغير كبير في الرؤية العالمية أو المنهجيات المعتمدة او مجموعة المفاهيم أو خليط من التغيرات التي تطرأ على هذه المرتكزات.

بالفعل  لقد أرست أعمال نيوتن في الميكانيكا الكلاسيكية النموذج الميكانيكي/ الكلاسيكي للعالم. فهذا النموذج يمتلك رؤية قوامها أن العالم يتكون من جسيمات صغيرة جدا تشبه النقاط و تتحرك في أبعاد مكانية ثلاثة حسب معادلات نيوتن في الحركة،  والحلول التي تقدمها النظرية لهذه المعادلات تحدد مسارات حركة هذه الجسيمات ، و بالتالي فإن هذه الحلول تمكننا من تحديد مستقبل الحركة و الكيفية التي يتطور بها هذا الجسيم في المستقبل إذا أحطنا بجميع ظروفه في لحظة ما. فهذا النموذج يمتاز بأنه تحديدي بالكامل ، و إذا نظرنا إلى هذه الميزة الرئيسية في هذا النموذج ، وجدنا أنها قائمة على الإيمان بالسببية و قوانينها حيث يتم تشبيه الحركة في الكون كآلة ميكانيكية تعمل وفق قوانين ثابتة تتصف بالإضطراد و الحتمية.  فكل سبب خاص يفضي إلى ذات النتيجة ، كما أنه يمكن دائما التنبؤ بالنتيجة في المستقبل متى ما علمنا بالسبب الخاص.  لقد تعدى هذا التصور الآلي للكون حدود الفيزياء ليشمل الظواهر الإجتماعية و الإقتصادية و النفسية…الخ.   ما يحدث في الكون من ظواهر طبيعية و غير طبيعية تتعلق بنشاط الإنسان هي نتيجة اسباب محددة. و يرتكز هذا النموذج على منهجية تعتمد على التركيبية compositionality و الإختزالية reductionism. و التركيبية تعني أن كل جسم ماكرسكوبي مكون من جسيمات صغيرة جدا ، و إذا استطعنا أن نتعرف من خلال النظرية على الكيفية التي تتطور فيها هذه الجسيمات فإن كل خصائص الجسم الماكرسكوبي يمكن معرفتها. إن معرفتنا بخصائص الجسم الميكروسكوبي المبني على معرفتنا بالكيفية التي تتطور فيها الجسيمات الصغيرة المكونه له يسمى بالإختزالية. فبلإضافة إلى مفهوم السببية و هو أساسي في هذا النموذج فإنه ايضا يملك جملة من المفاهيم حول الزمان و المكان و الكتلة و الطاقة و العلاقة بين الذات و الواقع …الخ

في هذا النموذج الميكانيكي/الكلاسيكي للعالم يشكل العالم نظاما مغلقا مترابطا كترابط الأجزاء في آلة دقيقة ، وبهذا  يمكن التعرف على مستقبله من خلال معرفتنا بحاضره ، و عندما نصاب بالعجز عن معرفة مستقبل منظومة ذلك لأننا لم نستطيع أن نحيط بكل التفاصيل الدقيقة و الشروط البدائية التي تسمح لنا بالإحاطة بالأسباب.  يمكن أن ندرك أنه في هذا النموذج الفكري تحتل السببية مكانا متميزا ، فكل حدث إنما يحدث لتوفر اسبابه الخاصة ، و لا مجال للعشوائية في هذا النموذج.  استمرت نظرية نيوتن في الجاذبية إلى ما يقرب الثلاثمائة عام و لم يشك أحد في صحتها و قد رافقها كما قلنا (النموذج) (البرادايم) الميكانيكي للعالم الذي يمكن من خلاله تفسير كل شيء تقريبا.

لكن مع بداية القرن العشرين حدثت ثورة علمية جديدة و رافق هذه الثورة تحول في مفاهيم اساسية لكن هذا التحول لم يطال عصب النموذج الميكانيكي و مفاهيمه الرئيسة ، أعني بذلك السببية و قوانينها فما زال التصور الميكانيكي للعالم قائما، و إنما طال مفاهيم تتعلق بالزمان و المكان و الجاذبية ، و المادة و الطاقة. هذه الثورة صنعتها النظرية النسبية الخاصة و العامة للفيزيائي البرت اينشتاين، و في هذه النظرية ينظر الزمان و المكان على أنهما نسبيان و الجاذبية هي إنحناء يحدث في النسيج الزمكاني ، والطاقة و المادة شكلان لجوهر واحد. لقد غيرت النظرية النسبية مفاهيمنا لقضايا كانت تعد من البديهيات في النموذج الميكانيكي.  مع ذلك فإن النموذج الميكانيكي أو الكلاسيكي للعالم لم يحدث له إزاحة بالكامل بل أن جملة من المفاهيم القديمة و عميقة الجذور في الوعي الإنساني قد تم اجتثاثها و إحلالها بمفاهيم نسبوية و بهذا المعنى تكون النسبية قد أحدثت ثورة حقيقية في المفاهيم و إن لم يتحول معها النموذج الفكري. فالرؤية للمكونات الأساسية للعالم و المنهجية التركيبية و الإختزالية لم يتغير، لهذا يمكننا القول بإستمرارية النموذج الميكانيكي/الكلاسيكي للعالم . لقد أثبت أينشتاين محدودية نظرية نيوتن في التطبيق و المفهوم و إنها ليست كونية في اتساعها كما كانت تبدو كذلك في بداياتها. سنتوقف متأملين في المنهجية العلمية التي ولدت عنها هذه النظرية الكبيرة وكيف أنها اعادت تموضع العقل و التجربة داخل النظام المعرفي العلمي.

إن قانون نيوتن في الجاذبية هو قانون أمبريقي ( من الكلمة الإنجليزية Empirical  وتعني تجريبي) ، لقد وضعه نيوتن كنتيجة مباشرة للتجربة ، لكن مع النظرية النسبية بدأ ان الفكر الرياضي المرتكز على بنية اكسيومتيكية معينة قادر على ان يفهم الحركة في الطبيعة و لم يعد المعطى الحسي –التجريبي بالأهمية البالغة كما كان الحال في القرون التي سبقت النظرية النسبية. ما يميز النظرية النسبية هو قدرة الخيال البشري في أن يلعب دورا مهما في بناء تصور خاص للعالم و أن يضع لهذا التصور نسقه الرياضي المنطقي المحكوم بمجموعة من المبادئ و الفروض الرياضية. و لو ظل العقل حبيس التجربة و ليس ثمة وظيفه يقوم بها إلا الشرح و التفسير لما تزوده بنا التجارب من معطيات ، لما استطعنا أن نصل إلى النظرية النسبية. لقد اعطى هذا النسق الاكسيومتيكي للنظرية النسبية عدد من النتائج في مرحلته التجريدية قبل أن تلعب التجربة دورها في إثبات صدق تلك النتائج أو بطلانها.

لقد اثبتت النظرية النسبية بشكل لافت أنه لم يكن بإلامكان الإحالة دائما للتجربة من اجل ان تتطور المعرفة ، كما أنه لا يمكن حبس العقل و قدرته في حدود التجربة ، فبعد قرون من تلك الصلابة التي تمتعت بها التجربة باعتبارها المعطى الحسي الاولي لممارسة عقلية من داخلها و ملتزمة بحدودها ، تجاوز الخيال و العقل البشري التفكير من داخل التجربة و ليتحرر مع النجاح الباهر للنظرية النسبية و ينطلق في افاقه الرحبة و يساهم في تطور العلوم عن طريق توجيه التجربة و اخضاعها للنتائج المتحصلة من بنية رياضية اعتمدت تصوراً محدداً للطبيعة. كانت التجارب في القرون السابقة للقرن العشرين توجه الفكر الرياضي من أجل استخلاص مجموعة من القوانين تصف من خلالها ظاهرة معينة ، لكن مع النسبية استعاد العقل أهميته و مركزيته في النظام المعرفي و اصبح هو المحفز للقيام بعمل تجريبي يتم إعداده بناءً على نتائج فرضها نسق رياضي متكامل يستند على فروض و مبادئ عقلية صرفة.

لقد صنع ألبرت أينشتاين هزة عنيفة أطاحت بمسلمات رئيسية تربعت لفترات طويلة في الوعي العلمي باعتبارها حقائق لم يشك أحد في صحتها ، و الأهم من ذلك انه لم يكن بمقدور التجربة أن تثبت خطأ هذه المسلمات في الوعي العلمي. التجربة عاجزة بذاتها و في مرحلة أولية من أن ترصد مثلا أن الفضاء عبارة عن نسيج زمكاني له تموجاته و له قابلية التمدد و التقلص. هذا الكشف العظيم في تاريخ العلوم كان بفضل العقل الرياضي و قدراته  و طريقته الإستنباطية في الإستدلال.  لقد إعتبر أينشتاين العقل الرياضي بأنه المبدأ الخلاق في العلم. و لو لم يكن العقل متحررا في مرحلة سابقة على التجربة من أسرها لما أمكن أن تنعم البشرية بهذا الكشف الكبير. مع النسبية لم تعد التجربة مؤسسة للنظرية الفيزيائية  و نجاحها يعتمد على التطابق بين معطيات التجربة و بين قوانين رياضية صيغت من خلالها، بل أن العقل يمكن أن يبدع مفاهيم فيزيائية بشكل حر و مستقل عن التجربة، و تأتي التجربة في مرحلة لاحقة. هذا ما يؤكده أينشتاين في هذا النص  ” أن المفاهيم الفيزيائية ابداعات حرة للفكر البشري ، و ليست كما يمكن أن يعتقد ، محددة فقط من طرف العالم الخارجي وحده…” ( 3 ، ص460 ). و في التأمل في المبادىء و الفروض التي قامت عليها النسبية لن  نجد أنها تتجاوز المعقول و حدوده لتصنع إشكالا فلسفيا. لأن الفلسفة هي فن السؤال عن كل أشكال التعالي عن المعقول وحدوده.( 4 ، ص 19)

لكن مع بداية القرن العشرين ايضا ثمة محطة فاصلة و خطيرة في تاريخ العلم خلقت إشكالا فلسفيا عنيفا في الوسط العلمي لأنها  أتخذت شكلا من اشكال التعالي المتجاوز للمعقول. هذه المحطة كانت مع النظرية الكمية في الفيزياء ، هذه النظرية التي لم ينقسم العلماء في تفسيرهم لنظرية ما مثل ما انقسموا حول هذه النظرية.  و لا يزال هذا الإنقسام و الصراع في الوسط العلمي و الفلسفي  حيا و بكل زخمه و عنفوانه منذ اللحظة التي اكتملت فيها هذه النظرية و إلى اليوم . و يتعدد هذا الإنقسام بتعدد المدارس التي سلكت طريقا معينا في تفسير هذه النظرية.

و لتوضيح الطبيعة الفلسفية لهذه النظرية من حيث أنها شكل من أشكال التعالي المتجاوز لحدود عقولنا و بالتالي تطرح مشاكل فلسفية ( 4 ، ص20) فإن أحد كبار الفيزياء النظرية  (ريتشارد فيمان) يقول: ” يمكنني بكل أمانة أن أقول لا أحد يفهم النظرية الكمية”. و سنعود لاحقا لهذا الإقتباس ، عندما ندلل على وجود هذه البنية العميقة و اللاشعورية في الفكر العلمي. أردنا من هذا الإقتباس أن ندلل على الهوية الفلسفية التي تلبست بها النظرية الكمية باعتبار الأفكار الواردة فيها والملتزمة بروح العقلانية العلمية تتصادم وحدود المعقول و تتعالى عليه مما يؤهل هذه النظرية لإمكانات البحث الفلسفي القصوى.

فما الذي يجعل هذه النظرية تثير الدهشة و تستعصي على الفهم و تتمتع بكل هذه الإشكالية الفلسفية ؟

لإنها نظرية ثورية بتمام المعنى الذي يقترحه كون ، فلقد رافقها تحول في النموذج الفكري. وهو تحول مثالي إذا ما نظرنا اليه من خلال مرتكزات النموذج كما وضعتها Allori  في ورقتها. نموذج يضم مجموعة من المفاهيم الصادمة للعقل ، خلقت معها تيارات ابيستمولوجية و رؤى فلسفية للوجود ، ظلت في صراع منذ إكتمالها و إلى يومنا هذا. و يمتلك رؤية مختلفة للعالم و منظومة رياضية جديدة تختلف عن ميكانيكا نيوتن لفهم ديناميكا الحركة و التفاعلات في العالم الميكرسكوبي.

في هذا النموذج الكمي أو الكمومي للعالم ، يتكون العالم في بناه الأساسية من أجسام كمومية و ليست فقط أجسام نقطية كما هي عليه الرؤية في النموذج الكلاسيكي. لقد دلت بعض التجارب مثل تجربة ثنائية الشق على أن أجساما كالإلكترونات يمكن أن تحيد كما تفعل الموجات. و هنا تبرز إشكالية وجودية (ontological problem)  ، لأن الجسيمات و الموجات ليسا متوافقين ، فالجسيمات من حيث التعريف تملك مواقع محددة في الفضاءobjects)  (localized بينما الموجات لها خاصية الإنتشار (delocalized objects)  . و بينما يمكن للموجات أن تتداخل بحيث يمكن لطاقة هذه الموجات عند التداخل ان تزداد او تقل فإن ذلك ممتنع على الجسيمات. لكن هذه التجربة التي يمكن ان تلخص كل غرابة الأفكار في هذه النظرية ترينا أن الجسيمات تتصرف كالموجات. لقد دلت التجارب أيضا على أن الموجات تتصرف كالجسيمات كما في تجربة التأثير الكهروضوئي  . نحن إذن بإزاء واقعية مختلفة عن النموذج السابق واقعية كمومية ‘ نسبة لنظرية الكم ، يسميها (نيلز بور) و هو أحد مؤسسي النظرية بثنائية الموجة – الجسيم . فالإلكترونات ليست أجساما بالمعنى الكلاسيكي بل أجساما ثنائية  dual objects، ففي بعض التجارب يظهر منها السلوك الجسيمي و في تجارب اخرى يظهر منها السلوك الموجي. و تزداد المشكلة الأنطولوجية تعقيدا عندما تكشف التجارب عن دور الوعي الإنساني في خلق واقعية محددة للعالم الكمي. فقبل المراقبة الواعية ، بحسب التفسير الذي تتبناه مدرسة كوبنهغن و هي احد أكبر المدارس في تفسير النظرية الكمية و المتمسكة بروح العقلانية العلمية ، ليس للعالم الكمي واقعية محددة على الإطلاق ، واقعية مبهمة تقبل التناقض الممتنع في المنطق الصوري وفي التصور العقلاني للوجود. فالعالم الكمي قبل القياس يمكن أن يتخذ واقعيات متناقضة في نفس الوقت. و لتوضيح هذا المعنى نستخدم قطة شرودينغر. لو تصورنا قطة في صندوق مغلق و في هذا الصندوق يوجد مادة مشعة. فقبل لحظة فتح الصندوق ، يمكن بحسب تفسير مدرسة كوبنهغن أن تكون القطة ميتة و غير ميتة في نفس الوقت ، فقبل لحظة القياس كل الحالات مفتوحة و ممكنة و لا يوجد ما يمنع من وجود حالات من التناقض الممتنع عقلا. لقد صوب هذا التفسير سهامه نحو بديهية تعتبر ضرورة لكل ممارسة معرفية. و عندما نفتح الصندوق فإن الموجة تنهار و على اثر انهيارها يمكن تحديد واقعية واحدة للقطة.

و تبرز في هذه النظرية مشكلة اخرى لم تكن موجودة في النموذج الكلاسيكي للعالم  و تتمثل في معضلة القياس. فأدوات القياس تؤثر في واقعية هذا العالم الميكروسكوبي و تحد من معرفتنا به ، و قد عبرت النظرية عن هذا العجز رياضيا من خلال مبدأ الإرتياب أو اللاتحديد للفيزيائي هايزنبرغ. و ينص هذا المبدأ على أننا لا نستطيع أن نعرف على نحو الدقة المطلقة في ذات الوقت سرعة الجسيم و موقعه . فإذا حددنا بدقة عالية سرعة الجسيم فإنا لن نتمكن ان نحدد موقعه بدقة و العكس صحيح. و اتجهت مدرسة كوبنهغن في تفسير هذا المعنى الرياضي لمبدأ الإرتياب بأن الجسيمات ليس لها متغيرات ديناميكية محددة كالسرعة و الموقع ، و إنما تمتلك أحد هذه المتغيرات عند لحظة القياس.

و على ضوء هذا المبدأ لم يعد بإمكاننا أن نتعرف على مسار هذه الجسيمات الكمية من خلال ميكانيكا نيوتن لأن مشروطية معرفة مستقبل هذه الجسيمات المعرفة التامة بكامل حالتها في لحظة ما، وهذا ممتنع علينا في الواقع الكمي. لذلك طورت النظرية ميكانيكا موجية ، هذه الميكانيكا لا تعطينا قياسات دقيقة لخواص هذه الجسيمات المقاسة بل توزيعات محتملة. فمثلا هذه النظرية لا تعطينا الموقع الدقيق للجسيم ، إنما تعطيك قيمة احتمالية كبيرة لوجوده في منطقة من الفراغ دون أن تلغي وجوده في بقية الأماكن. هذه النظرية مؤسسة على منطق احتمالي احصائي ، لكن تكمن المشكلة فلسفيا في التفسير الذي تقدمه مدرسة كوبنهغن لهذا المنطق الإحتمالي في النظرية. تقول لنا مدرسة كوبنهغن أن الإحتمالات في هذه النظرية هي ليست قائمة على عدم معرفتنا التامة بهذا العالم الكمي بل لأن الإحتمالات هي جزء لا يتجزأ من طبيعة هذا العالم. ليس في هذا العالم سببية خاصة تعطي نتيجة خاصة ، فلا يوجد معنى لهذه السببية في هذا العالم الكمي ، هذا العالم متلبس بهوية احتمالية و احصائية و لا علاقة لهذه الهوية بمدى معرفتنا به من قريب أو بعيد. و هنا تقدم لنا مدرسة كوبنهغن تفسيرا يضرب بديهية رئيسية في الفكر الإنساني و تقول لنا أن جميع الأحداث التي تقع في هذا العالم لا تقوم على السببية و إنما على الإحتمالات. فإذا كانت السببية في النموذج الكلاسيكي مفهوم مركزي ، فإن الإحتمالات هي المفهوم المركزي في هذا النموذج الكمي.

هذا التفسير الذي تقدمه لنا مدرسة كوبنهغن و الملتزمة بروح العقلانية العلمية في صورتها الفلسفية الظاهرية يطرح إشكالات فلسفية عميقة على المستوى الإبيستمولوجي و الانطلوجي ، و يفعل الحالة الفلسفية لتمارس فن طرح السؤال لمثل هذه التفسيرات التي تطال بنية فكرية للعقل الإنساني عبر عنها التيار العقلاني الأوروبي في صورة الكجيتو الديكارتي و الأفكار الفطرية التي أودعها الله في صميم البنية الفكرية للإنسان ، وعبرت عنها الفلسفة الإسلامية في صورة بديهيات العقل التي تعرف عليها الإنسان في مرحلة تسبق التعقل هي مرحلة الشهود الباطني حيث تكون النفس حاضرة لذاتها و مطلعة على شؤونها. بهذا التفسير فإننا لن نكون في أمان معرفي من حيث أننا لسنا قادرين على التنبؤ بالمفاجاءت التي تقدمها لنا التجربة كلما تطورت تقنيات الإنسان في سبر أغوار هذا الكون. هل يمكن مثلا أن نقول بكل ثقة أن هذا التفسير هو خلاصة التجربة الإنسانية في ميدان العلوم أو الشكل النهائي الإبيستمولوجي و الفلسفي للعلم . بالطبع ليس باستطاعتنا بحسب منطق العقلانية العلمية ان نقول مثل هذا الكلام لأننا لم نصل إلى نهاية العلم ، وما زال امام التجربة مشوار طويل جدا في الكشف عن معطيات جديدة قدمها لنا العقل النظري كما سوف نبين. و عندئد يمكن لنا القول أن التفسير الملتزم بالعقلانية العلمية لا يؤمن لنا قاعدة اليقين و الأمان و إنما يترك العقل البشري في حالة من التحفز الدائم للمفاجاءت التي تقدمها لنا التجربة.

و قبل أن نقرر في نهاية هذه الورقة من أن الفكر البشري مهما قدمت العقلانية العلمية من تفسير يهدم الأساس المتين التي يقوم عليه العقل الإنساني ، فإن الواقع يقول لنا أن ثمة ممارسة علمية ضرورية تكشف عن عمق هذا البنيان و رسوخه في العقل ، دعونا نستوقف عند النظرية الكمية ، و ندرس الآلية المتبعة في هذه النظرية و التي تنمي معرفتنا بهذا العالم الكمي. و سنكتشف أن هذه الآلية هي تهميش لدور التجربة و انتصار للعقل الرياضي.

فيلسوف العلم (غاستون باشلار) يشير إلى هذا التطور الدرامتيكي في العلاقة بين العلم و المعطى الحسي- التجريبي مع بداية القرن العشرين. يفرق باشلار بين علم الأمس و العلم الحديث  ، فالقرون التي سبقت القرن العشرين كان العلم و الفلسفة التجريبية يتحدثان لغة واحدة و كان الشعار فيها كما يقول ” عودوا الأذهان الشابة على الإرتباط بالمشخص و الإهتمام بالحوداث ، أنظر كي تفهم”. سوف أقتبس من ورقة سابقة ذكرنا فيها الدور الثانوي للتجربة في تنامي معرفتنا بالعالم الكمي و أن الدور الأساس هو العقل الرياضي و البناء الاكسيومي الصوري.

“لقد الغت الفيزياء الحديثة فردانية الجسيم ، فلم يعد الحديث عن الجسيم إلا ضمن مجموعة  و نحن لا نستطيع التعرف عليه إلا من خلال علاقته بالمجموعة.  كما اظهرت الفيزياء الحديثة تداخل بين العقل و الكائن و بين الموجة و الجسيم. هذه الظواهر الجديدة و الملتبسة افضت إلى تناقض كبير مع الفلسفة التجريبية ، إذ لم يعد المعطى الحسي في مثل هذه الظواهر هو القادر على إمدادنا بالمعلومات كما تزعم النزعة التجريبية. إذ اصبح المعطى الحسي في الميكروفيزياء و سيلة للتحليل الرياضي أكثر من كونه موضوع للمعرفة التجريبية. و بما ان الواقع غير قابل للتفرد كما أن القياس الدقيق عملية معقدة جدا فإن العالم سيعطي أهمية كبيرة لبنية العلاقات الرياضية التي تقوم بتوجية التجارب العلمية. إذن نحن أمام منعطف ابستمولوجي جديد فرضته التطورات العلمية الحديثة في المجال الذري. و يتمثل هذا المنعطف في أن العقل العلمي يتطور نحو التجريد الرياضي ‘ فالتصور العلمي الجديد للواقع هو تصور تحكمه البنيات الرياضية و ليس الكائنات الفيزيائية. يقول باشلار ” إن الفكر الواقعي لا يستحدث من ذاته أزماته الخاصة ، لم يحدث هذا قط . إن الإستثارة تأتية من الخارج دوما و بالضبط من ميدان المجرد ، الميدان الذي فيه تنشأ و منه تنطلق . إن منابع الفكر العلمي المعاصر تنتمي إلى ميدان الرياضيات”  … يرى باشلار أن هناك قطيعة بين المعرفة الحسية و المعرفة العلمية و أن العقلانية التطبيقية أو الفلسفة المفتوحة التي تعطي تصور للواقع العلمي من خلال علاقة شديدة الخصوصية بين الفيزياء و الرياضيات يمكن أن تمد جسور القطيعة بينهما”.(5)

أعطت النجاحات التي حققتها البنى الرياضية لفهم الواقع الكمي و في الفيزياء الحديثة بشكل عام من خلال مجموعة من المبادئ التي يشكلها العقل وحده بعد أن يصطدم العلم بعقبات معرفية او بعد أن تفشل نظرية في استيعاب معطيات جديدة تعزيزا لدور العقل الرياضي و طرائق الإستدلال الإستنباطي على حساب التجربة و طرائق الإستدلال الإستقرائي.

في هذه البنى الرياضية يعمد العقل إلى تشكيل مبادئ اولية يحكمها منطق خاص و هي بذلك تكون الأساس الذي تقوم عليه البنى الرياضية التي تعطي عدد من النتائج ثم يأتي بعد ذلك المحدد التجريبي ليثبت صحة او خطا هذه النتائج. الفيزياء الحديثة تعتمد على هذا النمط من البناء الرياضي ، الاكسيومي ، الذي يبدأ بمجموعة من  فروض و مبادئ لم يعرف ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة  و على ضوئها يتم بناء نسق رياضي محكم  ومنه يستخلص عدد من النتائج التي يتم التأكد منها عمليا في مرحلة لاحقه. يقول العالم الفيزيائي بول ديفيدس ” معظم الرياضيات الناجحة و القابلة للتطبيق إشتغل عليها رياضيون بصورة تجريدية قبل فترة من مرحلة تطبيقها في الواقع” ( 6 ، ص 62). في البناء الاكسيومي المرحلة التجريدية تسبق المرحلة التطبيقية و لايوجد علاقه بينهما قبل مرحلة التطبيق.  فنظرية التناظر الاعلى مثلا supersymmetry في الفيزياء تم تأسيسها  على مجموعة من المبادىء التي أختيرت بعناية من اجل تجاوز العجز في النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات.

لقد تقدمت الفيزياء الرياضية كثيرا، و قدمت تصورا عن الكون. تحتاج التجربة ربما إلى عشرات السنوات حتى تتمكن من اختبار هذه النتائج المذهلة حقا. لقد قدم لنا التحليل الرياضي نظرية الأوتار التي تنظرإلى أن البنى الأساسية للكون هي أعمق بكثير جدا من الجسيمات النقطية بل اوتار تهتز بطرق مختلفة لتعطينا كل ما في الكون من مادة. و تقدم لنا النظرية ابعادا اضافية غير مرئية ، والكثير من النظريات التي هي نتاج نشاط رياضي تجريدي محض ، ونحن بانتظار ان تتقدم التجربة لتواكب هذا التفوق الرياضي النظري.

و قبل أن نختم هذه النقطة لإثبات دعوانا في هذه الورقة و التي اوضحنا فيها أن الممارسة العلمية في الفيزياء الحديثة اعطت أهمية للعقل الرياضي و بنيته الاكسيومية على حساب التجربة ، إلا أن  ريتشارد موريس في كتابه حافة العلم يؤكد على هذا الدور  فيقول ” و لعله من الامور المحتمة أن تصبح الفيزياء في يومنا علما أقل اتصافا بالتجريبية …” ( 7 ، ص226) و يضيف الى انه بسبب التقدم في الفيزياء الحديثه و نظرياتها عن الكون لم يعد هناك حدود واضحة بين الفيزياء و الميتافيزيقا  ” لقد أمكن في وقت ما أن يطلق رذرفورد على الفلسفة أنها (كلام فارغ). و إني لأتساءل عما كان سيظنه بشأن الموقف الحالي في الفيزياء لو أنه كان حيا. ها نحن الآن و قد أصبحت الحدود ما بين الفيزياء و الميتافيزيقا غير واضحة. و الأسئلة التي كانت تعد في عصر آخر أسئلة ميتافيزيقية تدخل الآن في المناقشات عن أصل الكون ، و أصبح الفيزيائيون يتحدثون عن المبادئ الإنسانية التي يبدو أحيانا أنها فلسفية أكثر منها علمية”.

يُعرف محمد عابد الجابري في كتابه بنية العقل العربي  النظام المعرفي داخل ثقافة ما على انه “جملة من المفاهيم و المبادئ و الإجراءات تعطي للمعرفة في فترة تاريخية بنيتها اللاشعورية”(8 ،ص 37) . فالبناء المعرفي كما يستطرد الجابري  يتضمن ثوابت و متغيرات ، و الثوابت هي البنية العميقة الصلبة في النظام المعرفي و المتغيرا ت هي البنية الفوقية المؤسسة على هذه الثوابت والتي هي بنيته التحتية. و هذا البناء التحتاني هو البنية اللاشعورية التي لا يستطيع الفكر داخل نظام معرفي ان ينعتق من فضاءها و يمارس تفكيره من خارجها. و من وحي تعريف الجابري للنظام المعرفي داخل ثقافة ما ، نتساءل  عن ما إذا كان يوجد في العقلانية العلمية مثل هذه البنية اللاشعورية و هي التي تدعي ان التجربة هي مصدرها المؤسس لمعرفتها العلمية و الفلسفية للعالم؟ و لقد اثبتنا فيما سبق أن العقلانية العلمية تنفي أي إمكانية لوجود بنية عميقة صلبة تؤسس عليها المعرفة البشرية ، لأنه لا يمكن لإحد كما قلنا أن يتنبى مسار المعرفة البشرية و المفاجاءت التي تكشف عنها التجربة في المستقبل. هذا هو المعنى الذي يمكن أن نحصل عليه بعد التأمل في كون العقلانية العلمية ترتكز على التجربة كحجر أساس في البناء العلمي/الفلسفي للعالم.

إن التفسيرات التي رافقت التطورات العلمية و خصوصا في ميدان الفيزياء يشي بأنه لا يوجد ثوابت يمكن أن يؤسس عليها البناء الفوقي للمعرفة البشرية.  إذا كانت التجربة و مفاجاءتها هي ما يمكن أن نعول عليه ، فإن البشرية ستجد نفسها بدون ثوابت تؤمن لها ، كلما تعثرت ، صمام الأمان و القاعدة التي تتمكن من وضع قدميها عليها بكل ثبات من اجل معاودة الإنطلاق.

العقل العلمي وإن إدعى أنه لا يؤمن بأي معرفة خارجة عن التجربة و ينفي وجود مبادئ أولية ضرورية فوق التجربة إلا أنه يطبق هذه المبادئ على الواقع العلمي بصورة لا شعورية توحي بوجود بنية صلبة عميقة في الفكر الإنساني و أن يتم تجاهلها في الحالة الشعورية.  هناك انفصام أو ازدواجية تمارسه العقلانية العلمية بين ما تؤمن به و بين ما تمارسه في الواقع ، كما سنثبت ذلك بعد قليل.  لكن دعونا نعود الى الجابري لنقتبس منه نصا مهما نفسر بواسطته  حالة الانفصام الذي تعاني منه العقلانية العلمية.  يتحدث  الجابري عن الثوابت و المتغيرات في الثقافة العربية فيقول :

” عندما نتحدث عن بنية فإننا نعني اساسا وجود ثوابت و متغيرات الثقافة العربية التي صنعته. هل يعني هذا أننا نوحد بين “العقل” و ” الثقافة ” ، التي ينتمي إليها ، على اساس أنهما مظهران ل “بنية ” واحدة؟

ليكن ذلك شريطة أن نأخذ بهذا التعريف المشهور للثقافة ، و الذي يقول ” الثقافة هي ما يبقى عندما يتم نسيان كل شيء” و هكذا فإذا قلنا ” العقل العربي” هو ما خلفته و تخلفه الثقافة العربية في الإنسان العربي ، بعد أن ينسى ما تعلمه في هذه الثقافة لم نبعد عن الصواب. ان ما يبقى هو “الثابت” و ما ينسى هو “المتغير” …ان ما يبقى هو ثوابت الثقافة العربية ، هو العقل ذاته” .( 8، ص38)

هذا النص يفسر لنا حالة الإنفصام و الإزدواجية التي تمزق العقلانية العلمية. فعندما يغيب الوعي لدى العقلانية العلمية التي نسفت كل ثوابت الفكر البشري التي هي بنيته العميقة الصلبة والمتمثلة في احكام العقل القبلية البديهية و الفطرية كما يقررها الاتجاه العقلاني ، فإن عقلها اللاوعي يؤكد مثل وجود هذه الثوابت. فعند نسيان ما يقرره هذا العقل من متغيرات ، تظهر البنية العميقة الثابتة بشكل قهري ، وهنا سر تناقضه مع ذاته. و على عكس ما كانت تحاول الفلسفة التجريبية  أن تنفي مثل هذه البنية السابقة للتجربة ، فلقد أوصلتنا تناقضات العقل العلمي في الممارسة على اثباتها. ان تناقضات العقل العلمي ما بين النظرية و التطبيق برهن على وجود مثل هذه المعارف القبلية للعقل . بقي أن نثبت أن هذا العقل العلمي عندما ينسى متغيراته فإنه في الواقع يمارس مثل هذه الأحكام العقلية القبلية متجاهلا سهامه التي وجهها لها بعد تبني كبار علماء الفيزياء تفسير مدرسة كوبنهغن للنظرية الكمية.

هناك علاقة ضرورة بين الفيزياء و الفلسفة العقلانية ، و لولا هذه العلاقة لما كان هناك فيزياء. يكشف ريتشارد موريس في كتابه حافة العلم العبور إلى الميتافيزيقا عن هذه العلاقة فيذكر أن علماء الفيزياء يقومون بفروض فلسفية و لا توجد أية و سيلة للبرهنه عليها. فهم يفترضون ان قوانيين الفيزياء التي نعمل بها في فضائنا القريب يجب أن تكون هي نفسها ذات القوانيين في المجرات البعيدة. كما أنهم يفترضون أيضا ان قوانيين الفيزياء التي يجري العمل بها اليوم هي ذاتها التي حددت سلوك الجسيمات الأولية في بداية نشأت الكون منذ ملايين السنين. هناك فرض فلسفي يقومون به علماء الفيزياء يتمثل في ثبات قوانيين الفيزياء في الأماكن البعيدة جدا و الأزمنه السحيقة جدا وهو فرض لا يمكن البرهنه عليه. و هم لا يملكون جوابا عن احتمالية أن تكون قوانيين الفيزياء قد تغيرت عبر الزمان ؟ لا يمكن للنظريات العلمية أن تتحقق لو لم يفترض العلماء أن قوانين الفيزياء التي ندركها هي نفسها التي يجري العمل بها في أماكن أخرى و أزمنة اخرى. في الحقيقة ما يقوم به علماء الفيزياء هو تطبيق عملي للقوانين العلية. هذا الإيمان بأن قوانين الفيزياء صالحة للعمل في كل زمان و مكان هو تصديق قبلي بالعلية و قوانينها.

إذن ثمة بنية لا شعورية راسخة في الفكر البشري يستحيل الإنفكاك عنها و هي تلعب دورها الأساسي في المعرفة ، و هي بنية تكشف عن نفسها بجلاء عندما يتم نسيان كل شيء.

المراجع

  • بنية الثورات العلمية ، توماس كون ، ترجمة شوق جلال ، عالم المعرفة ، 1992.
  • Quantum Mechanics and Paradigm, Valia Allori, Topoi, Oct. 2015, Volume 34, Issue2, pp313-323.
  • مدخل إلى فلسفة العلوم ، الدكتور محمد عابد الجابري ، مركز دراسات الوحدة العربية ، الطبعة الرابعة ، بيروت ‘ 1988.
  • الكجتطو المجروح ، فتحي المسكيني ، منشورات ضفاف ، الطبعة الاولى ، 2013.
  • الفيزياء و الفلسفة : القطيعة و الاتصال ، جاسم العلوي ، مجلة شرق و غرب، العدد 15 ، 17, 2017
  • God’s Undertaker: Has Science Burried God?, John C. Lennox, Lion Hudson,2009.
  • حافة العلم: عبور الحد من الفيزيقا إلى الميتافيزيقا ، ريتشارد موريس ، ترجمة د مصطفى ابراهيم فهمي، الطبعة الاولى ، 1994.
  • تكوين العقل العربي ، الدكتور محمد عابد الجابري ، مركز دراسات الوحدة العربية ، الطبعة العاشرة ، 2009.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *