قبل فترة راجع الصيدلية أحد المرضى لصرف علاج للاكتئاب، وخلال حديثي معه عن الأدوية وجرعاتها واستعمالها أخبرني عن قصته المثيرة، والتي أحببت مشاركتكم بها للتوعية والفائدة لعلمي بحاجة كثير من الناس لهذه المعلومات.
كان المريض يعاني من حالة اكتئاب شديد ومتقدم، بعد التشخيص وصف له الدكتور النفسي العلاجات الدوائية الكلاسيكية للاكتئاب الأدوية أي مثبطات استرجاع السيراتونين الانتقائية (selective serotonin reuptake inhibitor) ، مثل بروزاك (prozac) وبعده سيبراليكس (cipralex) ، لكن كلا الدوائين لم يفيدا المريض بشيء بل زادا من حالته سوءاً ، وتفكيراً في الانتحار ، وتقلباً في المزاج، فنصحه الطبيب النفسي بعمل فحص وراثي جيني عن الطفرات لديه (pharmacogenomics testing) لدى شركة أمريكية متخصصة، ولحسن الحظ أنه يوجد فرع محلي يتعامل معها في الرياض، والاختبار سهل جداً عبارة عن مسحة من فضاء الفم، يوضع في مظروف خاص ويرسل للشركة لعمل الفحص ، قيمة الفحص معقولة حوالي 5000 ريال، ويأتي التقرير بعد اسبوعين تقريباً بشكل مفصل عبارة عن جزئين:
جزء عبارة تقرير مكتوب يذكر فيه الطفرات الجينية التي لدى المريض والأدوية المتعارضة مع تلك الطفرة والمشاكل المصاحبة لها، والجميل في التقرير أنه يعطي الطبيب المعالج اقتراحات عملية وسهلة وواضحة بالبدائل المتاحة حسب نتيجة الفحوص الجينية ، والجزء الثاني عبارة عن تقرير مفصل بالطفرات الجينية التي لدى المريض وأثرها على الأدوية في العلاج، والتقرير يفيد حتى للمستقبل، فكثير من الطفرات ليس لها تطبيقات على الأدوية واذا اختُبرت الأدوية الجديدة مستقبلاً ، وعُرف لها ارتباط بطفرة معروفة مسبقاً، سيكون التقرير مفيداً فيها لأنه شامل لكل الطفرات الجينية المعروفة حالياً.
أظهر التقرير أن لدى المريض طفرات جينية تسبب خللاً في أيض (metabolism) الناقل العصبي (seratonin) السيروتونين مما يفسر فشل العلاجات الموصوفة ، فبعد أن غيّر الطبيب الأدوية القديمة للمريض إلى الأدوية المقترحة بناء على الفحص الوراثي، تحسنت حالته كثيراً واستقرت أموره وزالت عنه تلك التقلبات في المزاج والتفكير في الانتحار.
هذا مثال رائع يوضح أهمية الفحوص الوراثية في تغيير صحة المريض للأفضل، والوصول للمقاربة الأفضل في الحصول على الفائدة القصوى من العلاج وتجنب الآثار الجانبية للعلاج الدوائي ، وهذا المنهج سيوصلنا إلى مرحلة العلاج الدقيق بناء على البصمة الجينية لكل شخص أو ما يسمى بالطب الشخصي (personalized medicine) ، أتكلم هنا عن أمر واقع ومتوفر محلياً.
أعتقد أن هذا هو المستقبل القادم للطب والعلاجيات؛ بحيث يكون الطب أكثر دقة، تشخيصاً وعلاجاً بناء على جينات كل مريض على حدة، وليس التعميم والعلاج الأعمى وغير الموجّه.
ولكن لا يمكنني الإفراط في التفاؤل فأنا أعلم أننا مازلنا في بداية الطريق ومازال الكثير من العمل ينتظرنا لتحقيق نتائج ملموسة، وتوجد الكثير من المحدودية والعقبات، فمازال الكثير من الأطباء لا يعرفون عن هذا المجال الا النزر اليسير فلم يدرسوه في الجامعة، ولم يتدربوا عليه في ممارستهم الاكلينيكية، والمستشار الوراثي (genetic counsler) المتخصص في هذا المجال المستجد ليس له مسمى وظيفي في السلك الصحي الرسمي حتى الآن، ولاتوجد له وظائف متاحة حالياً إلا على نطاق ضيق في بعض المراكز البحثية التابعة للمستشفيات الكبرى، ولا يتوفر إلا خبراء قليلون في السعودية، يملكون العلم والخبرة في هذا المجال الحديث جداً. لكني أعتقد أن ذلك سيتغير سريعاً مع توجه الدولة في تحقيق التطور ضمن رؤية 2030.
للأسف تنتشر الأمراض الوراثية في السعودية بشكل كبير جداً، وأحد أسباب ذلك هو زواج الأقارب، وهذا يلقي بظلاله الثقيلة على الفاتورة الصحية ومستوى المعيشة في بلدنا.
نحن بحاجة ماسة لهذه الفحوص الجينية لبناء قاعدة بيانات وطنية، وهذا ما قام به مشروع الجينوم البشري السعودي الذي دُشن عام 2013، جرى خلال المشروع حتى الآن دراسة 35000 عينة مريض تم جمعها من 26 مركزاً صحياً من مختلف أنحاء المملكة وفك شفرتها الوراثية، وتحديد أكثر من 500 تغير وراثي من أصل 14000 تغير وراثي موجود حصرياً في المجتمع السعودي، وذلك من خلال 16 اختبار جيني مختلف، تجدر الإشارة إلى أنه سيتم من خلال المشروع تغطية 100000 مواطن في مختلف مناطق المملكة للتعرف على التسلسل القاعدي للمجتمع السعودي وتوثيق أول خريطة وراثية له، ويعتبر ظهور هذه التغيرات الوراثية في المجتمع السعودي سبب رئيسي في نسبة ارتفاع الاضطرابات الوراثية في المواليد، مما أدى إلى ارتفاع في نسب والامراض والوفيات في المواليد وكذلك ارتفاع في التكاليف الاجتماعية والاقتصادية، إذ تقدّر تكلفة الرعاية الصحية للأشخاص المصابين بالأمراض الوراثية في المملكة بـ 6.4 مليار ريال سنوياً.
بعد بناء قاعدة المعلومات الجينية الخاصة بنا ، يمكننا عمل دراسات متخصصة بمجتمعاتنا والطفرات الجينية فيها المرتبطة بالأدوية لأنها متغيرة بتغير الأعراق، فكلنا نعرف أن الأدوية ينتجها الغرب، والدراسات تُجرى عندهم وعلى أعراقهم، بينما نحن من سلالة عرقية مختلفة ، وأظهرت الدراسات الجينية حتى الآن اختلافات واضحة وكثيرة بيننا وبين السلالات الأخرى ، مما يستوجب إجراء مزيد من الفحوص الجينية لمعرفة هذه الميزات والفروقات بين الأعراق ، لإعطاء الدواء حسب العرق، وهذا ما تقوم عليه دراسات الأدوية الحديثة، حيث تشير إلى خطورة استعمال بروتوكولات العلاج الكيميائي لمرضى السرطان القائمة على جرعات ناتجة عن دراسات على العرق القوقازي الذي نختلف عنه كثيراً من الناحية الجينية، وما يعني ذلك من التفاوت في التاثيرات العلاجية والسمية للأدوية بين الأعراق.
ينبغي التنويه إلى أن أغلب الفحوص المجراة حالياً تخص الأدوية النفسية والعصبية من مضادات الاكتئاب والذهان والمهدئات ومضادات الصرع والمسكنات بأنواعها وغيرها ، لكن بدأت الفحوص في السنتين الأخيرتين في التوسع في الفحوص الجينية الدوائية لتشمل أدوية أكثر من ذلك ، مثل أدوية القلب والأدوية المناعية وغيرها.
في الختام ، علم الوراثة الدوائي ، هو فرع جديد وواعد من فروع الصيدلة، وسيشكل قريباً نقلة مهمة في مجال العلاجيات ، وسيفتح الباب واسعاً للدخول للطب الشخصي القائم على علاج المريض بصفته الشخصية مع كل ما يحمله من خصوصية تميزه عن غيره بناء على جيناته، بحيث تُصمم الخطة العلاجية خصيصاً له.
*الدكتور غسان علي بوخمسين ، صيدلاني أول ، مستشفى جونز هوبكنز.
مصادر الصور:
- https://www.psycom.net/depression.central.html
- http://www.heartandsoulcenter.com/heart-and-soul-pharmacogenetic.html
- https://www.4cmedicalgroup.com/pharmacogenomictesting/
- https://www.genengnews.com/magazine/personalized-medicine-why-we-are-so-excited/
مقالة واعدة؛ آمل أن تضعنا على سكة التعرف على الطفرات الجينية في مناطق المملكة وبناء قاعدة بيانات تفيد الأطباء في وصف الأدوية المناسبة لمرضاهم. لا شك أن بناء قاعدة البيانات يحتاج الى وعي المرضى بأهمية اجراء الفحوصات الجينية في المقام الأول، كما تحتاج الى العمل بجد على تخفيض تكاليف هذه الفحوصات.