أريد أن أكون أنا – ماهر ابراهيم المرهون

بعد التأمل في ما حولي وجدت أن الإختلاف شيء مهم، الطيور عندما تسافر في أسراب فإنها تتبع أشكال هندسية معينة لجعل الطيران اكثر فاعلية. إنها لا تقلد بعضها بل تتكامل مع بعضها البعض. النمل فيه من التكامل الكثير والنحل كذلك. لكن السؤال المحير هو لماذا  كثير من الناس يشدك لتكون مثله في فكره وعواطفه وشخصيته وكلامه وآراءه؟ اذا كان التكامل هو المهم وليس التشابه. لماذا يجد الفكر المختلف صعوبات للذوبان في مجتمعاتنا؟ رغم الحاجة الماسة له لتقوية ماهو صحيح وتقويم ما يحتاج الى تطوير. الجسم يكون قويا عندما يؤدي كل عضو وظيفته الخاصة فيه بطريقة متناغمة مع الأعضاء الأخرى. أعضاء الجسم مختلفة عن بعضها و ليست نسخ من بعض. تخيل لو أن اليدين او الأصابع او الرجلين نسخ من بعض، لأصبح من المستحيل أن نتحرك بسلاسة أو أن نحمل الأشياء بفاعلية. اذا فالاختلاف بين أعضاء الجسم و أجزاءه هو سر قوة الجسم و ليس العكس. نفس الأمر يجري على المجتمعات. سر قوة المجتمعات في اختلافها وتكاملها وليس في تشابه أعضائها ومكوناتها.

عندما يشدك أفراد المجتمع لتكون مثلهم فإنك إما أن ترضيهم لتكسبهم وتخسر نفسك للأبد و إما ان ترضي نفسك وافكارك واستقلاليتك وتخسرهم على المدى القريب وتكسب احترامهم على المدى البعيد. الأمر معقد و ليس بالسهولة التي يصورها كلامي. الموضوع ليس ماديا و ليس كسب وخسارة  و لا يرضخ لقوانين الحساب. الموضوع يتعلق باستقلال وشخصية و طموح و قيمة إنسانية .

في المجتمع الإنساني الكثير من التقاليد التي تعتبر في كثير من الأحيان قوانين و ربما دين و مذهب، اجتيازها او تركها ليس بالأمر السهل و لا المقبول. تجاهلها يجرّك الى مالا يحمد عقباه من التهميش والتشهير والتنكيل. و مع هذا الخوف من المجتمع تجد نفسك وقد تغيرت و أصبحت تتصرف بمالا تعتقد وتقول مالا تؤمن لإرضاء من هم حولك. تجد نفسك إنسان آخر ونسخة من آلاف النسخ الموجودة. تجد نفسك بلا قدرة على أن تفيد مجتمعك بعلم أو مهارة أو فكر لأن غيرك يوفر نفس ما تستطيع توفيره. أنا هنا لا أتطرق الى تغير السلوك الناتج عن البحث عن المصلحة لأن سبب هذا التغير معروف و هو لا ينبع من الإيمان الداخلي او الى تغير في المعتقد. أنا هنا أتطرق الى التغير السلوكي الناتج عن التعود على عادات وتقاليد وجدنا أنفسنا و بدون اي اختيار أو وعي جزء منها ووجدناها تقيد حرية تفكيرنا و أطروحاتنا. والسؤال المطروح هو كيفية تحصين النفس من هذه القيود و التحرر منها ومن التقاليد التي تفقدنا كياننا وشخصياتنا كأفراد مختلفين و متكاملين لا نُسخ من بَعضنَا البعض. كيف التحرر من هذ القيود لننطلق بحرية في عوالم المعرفة والتأمل والتساؤل؟

أسباب اختلاف الناس

الأسباب في اختلاف البشر كثيرة. منها ما هو شكلي او ظاهري و منها ما هو فكري او عقدي. هناك اختلافات خلقنا بها و اخرى خلقناها نحن داخلنا. هناك اختلافات استوعبناها وعشنا بها و اخرى استوعبتنا و استعبدتنا.

الإختلافات الفكرية مكتسبة من البيئة التي تعرضنا لها ونحن في طور النمو وتكوين الشخصية. من البشر من يتحدى هذه البيئة و أفكارها و آخرون يقبلون الأفكار برمتها بدون اي مسائلة او تفكير نقدي فيها و كأن هذه الأفكار وحي منزل. الصنف الثاني يتكون من أفراد متشابهين في أشياء كثيرة و لكنهم يكونون جماعات او مجتمعات ضعيفة تخاف من اي فكرة جديدة.  تساؤل واحد ربما يهز ما يعتقدون انه مسلمات فتراهم يتحولون الى العدوانية للدفاع عن معتقدهم. تراهم و بسبب ضعفهم يتهجمون على من يسأل او يخالف في شخصه و ليس في ما طرح. تراهم لا يتورعون عن توزيع التهم جزافا لأنهم لا يملكون المقدرة على التفكير الحر فعقولهم مقيدة بسلاسل و أغلال ما وجدوا عليه آباءهم.

اما الصنف الأول الذي يتحدى ما اعتاد عليه المجتمع من أفكار وعادات و يطرح أسئلة عقلية للبحث عن الحقيقة،  فهو صنف دائم التطور والتعلم ولا يخاف التساؤلات و لا التحديات لأن أفكاره وعاداته بنيت على قناعات عقلية. هذا هو الصنف الذي ينشيء الأفكار الجديدة المفيدة الخارجة عن السياق المتعارف عليها. هذا الصنف يملك ثقافة الإختلاف و يتفهم الاّراء الاخرى و ان اختلف معها. صنف حر التفكير ودائما ينطلق الى آفاق جديدة من الفكر والعلم. يفرق هذا الصنف من البشر بين السائل و السؤال و بين شخص المتناقش و نقطة النقاش. الكل في هذا المجتمع له حق وعليه واجبات و الفكر هو أمر مقدس يجب أن ينطلق بلا قيود في فلك التأمل والمعرفة لكي لا يعطى لأي أفكار اخرى ربما تكون أفكار رجعية و متخلفة ان تفرض قيودها على التطور الفكري. إن هذا الصنف يعرف أن هناك أسباب كثيرة لاختلاف الاّراء و الأفكار. من هذه الأسباب اختلاف معايير الحكم على الصواب والخطأ. فما يكون صواب في رأيي ربما يكون خطأ في رأي غيري. ليس الاختلاف في النظر الى الأمور هو المشكلة بل المشكلة تكمن في عدم تفهم أسباب الاختلاف لذلك نجبر غيرنا على النظر الى الأمور بطريقتنا و باستخدام مسبباتنا و هذا خطأ فادح يؤدي بالمجتمع لأن يكون ذو فكر واحد متصلب و غير قابل للتطور. ان التوقف عن الرجوع الى أساسيات أي فكر و التساؤل الدائم لمعطياته بجميع فئات المجتمع يوقف التطور ويضعف المجتمع.

من يؤمن بثقافة الاختلاف يعرف ان كثير من المواضيع غامضه وتحتاج لبحث و اجتهاد، تُفهم بأشكال مختلفة على حسب المعطيات المستخدمة. الاختلاف فيها يكمل بعضه الاخر و لا ينقص اي رأي من الرأي الاخر قيمته و أهميته. النظر الى ما هو غامض من زوايا مختلفة و استيعاب اختلاف التحليلات و الاّراء هو السبيل لفهمه وفك غموضه.

من يؤمن بثقافة الاختلاف يقيم المواضيع تقييما كاملا و يتفهم أماكن الاختلاف و عند المناقشة يناقش تفاصيل الاختلافات و يحللها و يتفهمها و لا تراه يعمم او يشخصن الاختلافات. التعميم او الشخصنة تضيع أصل الموضوع ويترك الباب مفتوحا لمرضى العقول و النفوس و الضمائر أن يتدخلون بطرقهم السلبية لنسج بيوتهم العنكبوتية لاحتواء فرص التكامل بين المجتمعات ويقتلوا تماسكها و ارتباطها.

إن التعميم و الإتيان بالمفردات الرنانة التي تأسر الضعاف ينتج عنها تعصب و تطرف و تحطيم آمال المجتمعات للعيش بسلام و ألفة. ان التعصب لفكرة ما يحرم الإنسان من فرص الأفكار و الاّراء الأخرى و الإستفادة منها. ان التعصب لفكر معين يغذي و ينمي ظاهرة مجتمع القطيع الذي يرفع أشخاص و أفكار لمستوى العصمة و يحط بمن يخالف أو يتساءل.

الاختلاف هو نعمة من الله لماذا جعلناه عداوة والعقل الراجح و الإدراك السليم يحتم علينا تقدير و احترام هذا الاختلاف و التركيز على التكامل بدل البحث عن التماثل و التشابه. الأفضل لنا أن نختلف و يكمل بَعضُنَا الاخر لنكون اقوياء فكلنا طلاب حقيقة و إن اختلفت مسالكنا ودروبنا.

اختلاف الناس

يختلف الناس في أشياء كثيرة. يختلفون فيما يحبون و فيما يكرهون. يختلفون في طريقة عيشهم وحتى في مراسم موتهم. يختلفون في أجناسهم و عاداتهم و تقاليدهم، في أهواءهم وهواياتهم وكلامهم وكتاباتهم. يختلفون في أشكالهم والوانهم وأجسادهم. يختلفون في الكثير ومن الصعب بل من المستحيل أن تجد شخصين متشابهين تماما. حتى إن تفحصنا المخلوقات الأخرى فمن المستحيل ان نجد مخلوقين متشابهين في كل التفاصيل. النحل و النمل و أسراب الطيور و قطعان الحيوانات تختلف في الكثير و لكنها تتكامل لتصبح أقوى و اكثر قدرة على الحياة.

الإنسان و هو ما نحسبه أرقى الكائنات الحية برجاحة عقله و فكره المبدع له نصيب كبير من الاختلاف و لكن يفوت عن حساباته ان يستثمر هذا الاختلاف ليصبح أقوى و بدلا من ذلك يفني عمره بحثا عن التشابه.  الإنسان له عقل وجسم و احساس. هناك الطويل و القصير و الضخم و الهزيل و الأبيض و الأسود و الأديب و الفيزيائي  و القائمة طويلة لا تنتهي. من ناحية القدرات العقلية هناك الذكي و هناك محدود القدرات هناك المثقف و السطحي هناك العالم و الجاهل. يوجد من هو عبقري في علم من العلوم كالرياضيات او الفيزياء و لكنه جاهل في الأمور اليومية للحياة. و آخر أديب كبير و لا يستطيع ان يقوم بعملية حسابية. و ترى أمي لا يقرأ و لا يكتب و يستطيع فهم تفاصيل الدوائر الكهربائية المعقدة. عقل الإنسان سر من أسرار الخالق العظيم المبدع. قدرات خارقة اجتمعت في عضو بحجم كف اليد و هو الدماغ.

اما الإحساس فهو دليل فطري وهبه الله لنا. الإحساس هو الطريق الى الخير و هو مشترك بين الناس. الإحساس بالجمال و الأخلاق و الصدق و النزاهة و حب الوطن يتمركز في قلوبنا جميعا و لا تجد من يختلف في هذا الإحساس. لذلك يجب علينا دوما ان نراجع إحساسنا النقي لنعرف طريق الصواب فالإحساس دليل فطري وهبه الله لنا. الإحساس او ما يسمى أحيانا بالإنسانية هو ما يساعدنا على تقدير الاختلاف واحترام المختلفون معنا في الدين او الشكل او المعتقد. ان الإحساس يعلمنا و يربينا على أن من أهم أسباب الاختلاف “اختلاف معايير الحكم على الصواب والخطأ”. من أراد الاتفاق فيجب عليه التطرق الى هذه المعايير و دراستها و معرفة لماذا اختلفت و هل من طريق لتقريب المعايير. ان الإحساس النقي يساعدنا على سبر غموض الموضوع و تعقيداته و يؤدي الى معرفة و تقدير  الإجتهادات  و اختلافاتها.  لو بحث الناس في المواضيع المختلف عليها بعيدا عن الإنتماءات والتحجر لوجدوا أن الاختلاف في تفاصيل معينه و في المقدور فهم وجهات النظر الأخرى و ليس هناك اي داعٍ أصلا للإتفاق عليها. كل له نظرة معينه فيها من الصحة و ليس هناك نظرة واحدة صحيحة فقط. ان التعصب لفكرة معينه او لشخص معين يفقد الإنسان الفائدة من الأفكار الأخرى  والأشخاص الآخرين و يؤدي الى ضعف الإدراك وعدم رجاحة العقل. الأفضل للناس ان يكونوا مختلفين فالتشابه ضعف.

المجتمع

المجتمع هو ما يحتوي البشر وينظم العلاقة بينهم في إطار اقتصادي و اجتماعي محدد و يتطور من خلال علاقة فئاته ببعضها. المجتمع هو نسيج متشابك من العلاقات بين أفراد  يعيشون سويا في شكل منتظم و تشغلهم هموما او اهتمامات مشتركة تعمل على تطوير ثقافة ووعي مشترك يطبع الفرد و المجتمع بصفات معينه تشكل شخصيته وهويته. لكن السؤال هل يجب ان يتبع أفراد المجتمع نفس الأفكار بحذافيرها ليصبح المجتمع ناجح و قوي؟ هل يجب طحن شخصية الفرد لتذوب في شخصية المجتمع فيصبح الأفراد نسخ طبق الأصل من بعضهم؟ وهل هناك أقلية ربما تحاول أن تختطف فكر مجتمع بأكمله وتهمش أغلبية ربما تكون ذات فكر بناء وقيم إنسانية؟

بعض المجتمعات ظاهرها القوة وحقيقتها الضعف،  تسيطر عليها أفكار فئة معينه تحاول تهميش رأي الأغلبية. وبعض المجتمعات نشأ قويا لأنه ثار على أفكار معينة و حس بقيمة و ضرورة الاختلاف. ان قوة المجتمعات تنتج من قوة مكوناتها اجمع، بدون تهميش او إهمال او إستغلال او إضعاف لأي عنصر من عناصر هذه المجتمعات. كل عنصر من عناصر المجتمع، فرد كان او جماعة له خصائص تميزه عن البقية. هذه الخصائص المختلفه و المميزه لعناصر المجتمع هي سر من أسرار قوته و من الخطأ القاتل الدعوة الى إنهاء الاختلافات كليا ليصبح افراد المجتمع نسخ من بعض. في رأيي المتواضع انه يجب الإحتفاظ بالاختلاف بين مكونات المجتمع ليصبح المجتمع أقوى ويكون قابل للتطور بسبب التقييم الذاتي المستمر  و لمنع سيطرة مجموعة من الناس او الأفكار على المجتمع بأكمله لزمن طويل. لذلك جاء الإسلام لمحاربة الطبقية و العنصرية لإعطاء الحقوق لجميع أفراد المجتمع للمشاركة بالأفكار الجديدة وللحفاظ على مكونات المجتمع المختلفة وضمان استمرارية قوة المجتمع الإسلامي. ليس هناك فضل لعربي على أعجمي ولا ابيض على اسود ولا أي صفة على أي صفة أخرى طالما هناك التقوى فالتقوى هي الميزان و هي الرابط مع الروح و الإحساس وهذا ما يجعل الفرد في المجتمع إنسان بمعنى الكلمة. لا اكراه ولا ترهيب و لا إجبار على تبني فكر معين فالإنسانية تجمعنا جميعا كمجتمع ضخم.

و لذلك فمن الأفكار التي نشأت مؤخرا هي فكرة المجتمعات التي لا تنشأ على خلفية عرقية او سياسية او دينية او عقائدية او قبلية بل تضم مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ الفجوة بين الأسرة ة والدولة لتحقيق مصالح افرادها وتلتزم بقيم ومعايير الإحترام والتراضي والتسامح والمشاركة و الإدارة السلمية للتنوع و الاختلاف الذي ينضوي تحت الرؤية المشتركة. الرؤية المشتركة هي مطلب مهم لنجاح المجتمع المدني و بدونها ينحرف المجتمع عن دوره الأساسي في دعم التطور. و مؤخرا طرأ على المجتمعات تغير مهم جلبته الثورة المعلوماتية عبر شبكة الإنترنت. فقد نشأت مجتمعات افتراضية كثيرة و بشكل سريع والسبب في ذلك هو مساحة الحرية الموجودة و القدرة على الاختلاف دون قيود من المجتمعات التقليدية التي تسيطر عليها العادات والتقاليد والنخب. ان هذا التطور في فكر وصياغة المجتمعات يحدث بهدف الحفاظ على شخصية وحرية وفكر الفرد الذي هو المكون الأساسي وعندما يحس الأفراد بأن هذا المجتمع الجديد أصبح قديما مع مر الزمن و أصبح يقيد حرية الفكر والمعتقد فانهم ينشئون مجتمع جديد بافكار جديدة ليكون أقوى وقابل للحياة.

أهمية أن أكون أنا

ان المجتمعات الناجحة والقوية هي تلك التي تقدر وتستفيد من الاختلافات الموجودة عند شعوبها. الأشخاص المختلفون في افكارهم وخلفياتهم و انتماءاتهم هم من يجلبون الأفكار الجديدة والخلاقه لإنتاج مجتمعات قوية ومحصنة من الأفكار الرجعية والهدامة. المجتمعات الواعية تدعم هذا الاختلاف وتستحدث القوانين والتشريعات لإحترام جميع مكوناتها بغض النظر عن الإنتماء و الإعتقاد. المجتمعات القوية تحاول خلق و استغلال اكبر قدر من الرؤى لخلق طيف متكامل من التحليلات والشروحات و النظريات للوصول الى أفضل و انجح الحلول لجميع المصاعب و لوضع خطط قوية لإنجاح المجتمع وتحصينه و تمكينه من البقاء.  التكامل بين أفراد المجتمع و افكارهم المختلفة يؤدي الى رؤى أوضح و اشمل و يجعل المجتمع كالبنيان المرصوص قوي و متماسك و مترابط و متكامل. ان انعدام الثقة و التشويه المتعمد لأي طيف من اطياف المجتمع او اي فكر مختلف ينتج عنه تفكك المجتمع و عدم الوصول الى أرضية واحدة متماسكة و قوية تجمع كل اطيافه. ان إنعدام الثقة يؤدي الى التحجر و محاولة كل فكر استئصال الفكر الآخر فيصبح المجتمع مكونات متعادية لكل مكون فكر واحد لا يستطيع احد ان يحيد عنه. فمجرد التساؤل او الحيادية تعتبر خيانة و انضمام للفكر الآخر و النتيجة تكون كارثية على هذا المجتمع.

مسؤليتنا اتجاه ابناءنا أن نعلمهم أن يكونوا احرار في فكرهم. يجب الإصرار على ان يكون لابنائنا في حياتهم و دراستهم شخصيات مستقلة و إفهامهم انه من الطبيعي أن يكونوا  مختلفين في أشكالهم و أصولهم و الوانهم و يجب إعطاء الحرية للنقاش المفتوح و الشفاف لينتج جيل متفتح واثق من نفسه و يستمع و يقدر الرأي الآخر.  ان هذا الاختلاف و الإستماع للرأي الآخر سوف يجبر الإنسان على الخروج من القيود الفكرية التي نشأت بسبب العادات و التقاليد ويفكر بطريقة اكثر حرية للوصول الى الحقيقة. يجب ان يعرف ابناءنا أن الاختلاف هو شيء إيجابي و لا داعي للخوف منه. إن وجود وتشجيع الاختلاف في فصول الدراسة سيعطي الطلاب القدرة على التساؤل عن كل شي حتى الأشياء التي يعتقدونها و سيجعلهم يصلون الى إجابات اكثر صحة و قناعات أقوى.

الاختلاف ينتج الفضول للوصول الى الحقيقة بالتعرض لفكر و رأي  آخر . انه يجهز هؤلاء الطلاب ليصبحوا مميزين و لا يكونوا نسخ من بعضهم. كل فرد له شخصيته و فكره الخاص و المستقل و يستطيع النظر الى الأمور بشكل مختلف عن الآخرين. تكامل هذه الأفكار المختلفه ينتج مجتمع قوي في شتى المجالات الإقتصادية و الإجتماعية و الطبية و الهندسية و غيرها. هذا الاختلاف هو ما سيجعل المجتمع مبدع و هو ما سيساعد على إنتاج حلول جديدة اكثر فاعلية. تعليم الثقافات و البلدان و الحضارات المختلفة يجب ان يكون من اساسيات التعليم في المدارس. يجب علينا ان نتذكر دائما ان الله سبحانه و تعالى خلقنا مختلفين و من الخطأ ان نجبر المجتمع ان يكون بنفس الصورة.

في الوطن العربي يوجد المسلم و المسيحي و اليهودي. يوجد الكبير و الصغير. يوجد الأبيض و الأسود. يوجد الغني و الفقير. يوجد العالم و الأديب. إن اجبار جميع هؤلاء ان يكونوا نسخ من بعضهم هو عكس طبيعة الإنسان و إلغاء لإنسانيته وحقوقه. إن تطور الإنسان هو بتعلمه و استفادته من الاختلاف و من لا يستطيع تقدير الاختلاف يعيش في عزلة وضعف، و سيأتي زمن قد ينقرض هذا المكون المريض من جسم المجتمعات الفاعلة.

ان تقدير الاختلاف يُنشيء مستوى عال من التفاهم و التفهم للرأي الآخر و يعطي مجال كبير من الحرية الفكرية والشفافية فينشأ مجتمع قوي فاعل ومهم لتطور الإنسانية.

كيف أكون أنا

لكي أكون أنا  بشخصيتي المستقلة وكياني المميز و بدون أي تأثير من عوامل خارجية كالعادات والتقاليد يجب علي اولا وقبل كل شيء أن أتعرف على نفسي، من أنا و كيف أنا، لأننا و في محاولاتنا الحثيثة لإرضاء المجتمع ومن نصّبوا أنفسهم  أوصياء عليه ربما ننسى أنفسنا وقناعاتنا و أفكارنا فنصبح في غربة داخلية أليمة.  لذلك و لكي نعرف من نحن يجب علينا أن نتجرد من كل القيود ونتخيل أننا لوحدنا بدون اي رقيب. ماذا سنفعل و كيف سنفكر او نتصرف. هنا نبدأ معرفة أنفسنا التي طالما اخفيناها إرضاءً للآخرين. الأمر صعب في البداية ولكن مع المحاولات و الإصرار سوف ننجح. جميعنا يحلل شخصيات من حوله و اعتقاداتهم، ثم يتصرف معهم بطريقة تجعلهم يرونه كما يريدون لا على حقيقته. و الدليل على كلامي هو أننا لدينا مجموعات مختلفة من الأصدقاء  و نتصرف مع كل مجموعة بشكل مختلف على حسب ذوق هذه المجموعة. ليس المشكلة في أن نحترم الناس و نقدرهم و نتصرف معهم بطريقة تحترم مشاعرهم و مبادئهم إنما المشكلة عندما ندعي أن هذه هي مبادئنا و نتصرف على هذا الأساس. ربما يوجد تفسيرات او بعض الفوائد لنغير تصرفاتنا عندما يتغير من هم حولنا و لكن الخوف ان يضيع ما يميزنا في خضم السعي الحثيث لنكون أشخاص مختلفين. ان بَعضنَا و بسبب محاولاتهم الحثيثة للتشبه بالآخر وإرضاء مجتمعاتهم يشعرون أن حياتهم أصبحت كذبة كبيرة و ان الجوهر الذي بداخلهم اصبح عبئا عليهم لأنه مقيد بانتحال شخصية و أفكار لآخرين. لذلك معرفة النفس هي اول الطريق للوصول الى الشخصية المستقلة و معرفة منظومة المباديء و الاّراء التي نؤمن بها و من ثم يجب علينا أن نتصرف مع الآخرين بأخلاقنا ومبادئنا و اراءنا وشخصياتنا المستقلة مع تقدير أن غيرنا سوف يكون مختلف.

خاتمة

قَالَ  الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: ” انما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين لمن لا عقل له “.

الإنسان في بحث دائم لفهم الحياة و فهم نفسه و القيام  بدور له و الأدوار المهمة كثيرة و متنوعة. لكل منا صفاته و مميزاته التي تساعده على أداء دور خاص به و إضافة قيمة لهذه الحياة. لكن عندما نتبنى أفكار غيرنا فإننا نلغي عقولنا و دورنا  فتتلاشى و تضمحل القيمة المُضافة و نشعر بأننا بلا تأثير و نصبح هامشيين. قال الكاتب الشهير مصطفى الرافعي: “إن أشَدّ سُجون الحَياة قسوةً ، فِكرَةٌ بائسةٌ يسجنُ المرءُ مِنَّا نفسَه بداخِلها”، فكيف لو كانت هذه الفكرة هي فكرة غيرنا التي تبنيناها بدون قناعة و لكن فقط لكي يرونا بشكل مستساغ و يتكلمون عنا بشكل إيجابي.

ليصبح المجتمع أقوى وقادر على مواجهة التغيرات المتسارعة ، لا بد من مبادئ أخلاقية وتعاليم تربوية تجعل العقول متقبلة والصدور متسعة لاختلاف الرأي وتعدد وجهات النظر. لا بد من التأكيد على مبدأ التسامح واحترام الرأي فلا يحق لأحد أن يمارس دور الوصاية والرقابة على أفكار الناس ونواياهم ومشاعرهم. يجب أن يشعر الناس بإنسانيتهم و ان يتصرفوا بحرية كأنهم مع أنفسهم دون وصاية من أحد. يجب على المجتمع ان يقصي من يريد فرض رأيه و كأنه يصدر صكوك الغفران لأبناء المجتمع.

عندما يتصرف الإنسان بطبيعته دون اي تصنع و يستطيع أن ينطلق بأفكاره بحرية و يستطيع أن يتسائل بدون أي قيود او حدود يضعها من ينصبوا أنفسهم أوصياء على المجتمع، عندها سيشعر أفراد المجتمع بارتياح و رضا عن أنفسهم و دورهم وعن المجتمع. سيكون لكل منا شخصية واحدة و مباديء معينه محترمة من الجميع و إن اختلفت عن مبادئهم. لن يحتاج أفراد المجتمع ان يبذلوا  الجهد و الطاقة لتغيير افكارهم و قدراتهم و مواهبهم و طباعهم ليصنعوا شخصيات وهمية تستخدم كأقنعة لضمان القبول من المجتمع وعاداته وتقاليده. انهم لن يحتاجون الى صرف طاقاتهم للتصنع بل سيكونوا  بطبيعتهم و افكارهم و قناعاتهم و سيكون المجتمع لوحة جميلة من فسيفساء أفراد مختلفون يجمعهم حب مجتمعهم و الرقي به وحفظ حقوق الجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *