مقاومة الجراثيم للأدوية: (تهديد وجودي يواجه البشرية بحاجة إلى حل مبتكر) – الدكتور غسان علي بوخمسين*

أضحت مقاومة الجراثيم للأدوية من الأزمات الصحية العالمية الحرجة التي تهدد البشرية جمعاء.  فقد أكدت منظمة الصحة العالمية على خطورة الوضع ، حيث تنبأت بموت حوالي ١٠ مليون شخص سنويا بحلول عام ٢٠٥٠ ، ما لم تتخذ إجراءات سريعة وفعالة لمكافحة هذه المعضلة. قضية مقاومة الجراثيم للأدوية أصبحت عنواناً شبه ثابت ، في الاجتماعات لمنظمة الصحة العالمية التي تناقش المسائل الملحة والخطيرة التي تهدد البشرية ، بل أن بعض العلماء شبّه الخطر من هذه المشكلة بالخطر الناجم عن الاحتباس الحراري.

مشكلة مقاومه الميكروبات للأدوية ليست مقتصرة على البكتيريا ، بل تشمل كل الأحياء الدقيقة تقريباً ، من فطريات وفيروسات وديدان وطفيليات وغيرها ، ولكن الأبرز والأخطر من بينها هو مقاومة البكتيريا للمضادات.

أسباب هذه المقاومة المكروبية للمضادات عديدة ، منها الاستخدام المفرط وغير المقنن في المجالات الزراعية والطبية كذلك ، وكذلك سوء الاستخدام من المرضى خلاف النصيحة الطبية.

يمكن النظر إلى مسألة مقاومة الجراثيم للمضادات الحيوية، على أنها أمر طبيعي تطوري لابد منه ، لأن البكتيريا وبقية المخلوقات الحية تقاوم أسباب فنائها بابتكار طرق جديدة للبقاء ، فمن الطبيعي أن تطور الجراثيم آليات جديدة تقاوم بها المضادات القاتلة لها ، لذلك أظن شخصيا أن مقاومة الجراثيم للمضادات هو أمر حتمي ، وسيحصل عاجلا أم آجلا ، لكن يمكننا إبطاؤها وتقليل احتمالية حصولها ؛ بالاستخدام الرشيد للمضادات حسب التوصيات الإرشادية من الجهات الصحية ، وتقنين استخدامها إلى أقل حد ممكن  في مجال الزراعة والثروة الحيوانية.

من أحد الأمثلة الواضحة على الاستهلاك المفرط للمضادات الحيوية في بلادنا ، حين أشارت الإحصاءات إلى أن مبيعات المضادات الحيوية لأحد شركات الأدوية الكبرى ، هبطت إلى النصف في العام الماضي ، نتيجة تفعيل قرار وزارة الصحة بمنع صرف المضادات الحيوية إلا بموجب وصفة طبية ،  وهذا مثال كاف يوضح لنا الإفراط غير المعقول الذي كنا نمارسه في استهلاك المضادات الحيوية خارج النصيحة الطبية.

التحديات التي تواجه العلماء بسبب انتشار مقاومة الجراثيم للأدوية

الوضع الحالي بات خطراً جدا بحيث اصبح أمراً معتاداً أن يواجه الأطباء في المستشفيات حالة مريض مصاب ببكتيريا مقاومة لكل المضادات الحيوية المتوفرة لدينا ، وليس لدى الأطباء أي شيء يمكن أن يقدموه للمريض المصاب بهذه البكتيريا ، سوى الأمل على أن يقاوم المريض وينجو بدون تدخل طبي.

حلول مبتكرة للتغلب على المشكلة

هذا الوضع الكارثي صار يتطلب منا سباقاً مع الزمن لاكتشاف مضادات حيوية جديدة ، ولكن هذا الأمر يواجه حالياً عقبة كبرى ، وهي سرعة تطوير البكتيريا المقاومة للمضادات الجديدة المطورة ، في نمط أسرع بكثير من تطوير الدواء نفسه ، بحيث أصبحت البكتيريا قادرة على تطوير مقاومة  للمضاد ، قبل وصول الدواء للدراسات الإكلينيكية مما يؤدي إلى فشل مشروع الدواء وخسائر فادحة للشركات المطورة.  بل ان شركات عديدة مطورة للمضادات أعلنت إفلاسها في السنتين الاخيرتين بسبب هذا الموضوع ، ما أدى الى إحجام شبه تام من الشركات عن تطوير مضادات حيوية جديدة.

يبدو أن المستقبل صار غير واعد للمضادات الحيوية ، ولكن هذا لا يعني أن الطريق صار مسدوداً  ، أو نكاد نحسر معركتنا مع الجراثيم ، فالعلماء لم  يستنفدوا كامل ترسانتهم في مكافحة الجراثيم الممرضة ، فالعلم بطبيعته عملية مستمرة ومتواصلة في البحث والاستكشاف عن كل جديد لكل ما يخدم الإنسانية. مثلاً اكتشف العلماء من اكثر من ١٠٠ عام نوعاً من الفيروسات العاثية (Bacteriophage) وهي فيروسات متنوعة تهاجم البكتيريا خصوصاً وتقتلها تحديدا دون الإضرار بخلايا الإنسان ، وقد جرت عليها دراسات في بدايات القرن الماضي ، ولكن الاهتمام بها تراجع كثيراً بسبب اكتشاف المضادات الحيوية وسهولة استخدامها مقارنة بفيروسات العاثية. ورغم ذلك كانت دول الاتحاد السوفيتي واوروبا الشرقية وفرنسا تستخدمها على نطاق ضيق.

من الواضح جداً أن الوقت قد حان لإعادة النظر في هذا السلاح الطبيعي المتوفر لدينا لمكافحة البكتيريا الممرضة ، وتكثيف الدراسات فيه ، لتكوين معرفة أشمل وأدق في هذا العالم المتناهي في الصغر والعظيم في التأثير ، ومما يزيد الرغبة في استكشاف هذا النوع من الفيروسات هو صعوبة تكوين البكتيريا لمقاومة ضد هذه الفيروسات ، فكما أن البكتيريا تتطور فأن الفيروسات تتطور بدورها.  ولكن ينبغي الحذر هنا ، فلا يجب علينا الاستخدام الواسع لهذه الطريقة العلاجية ، الا بعد الفهم الواسع والشامل لطبيعة وسلوك هذه الكائنات ، حتى لا ينقلب العلاج الى مرض لا سمح الله.

من الخيارات الأخرى للعلماء ، استغلال التطور الكبير الحاصل في البيولوجيا الجزيئية والنانوتكنولوجي لإبتكار مواد نانوية جديدة بمكنها القضاء على الجراثيم الممرضة ، بدون الإضرار بالإنسان.

في الختام ، ينبغي على البشرية أن تنظر لهذه المشكلة على أنها تهديد حيوي ووجودي حقيقي ، وتعطيها حقها من الاهتمام ، وأن تستثمر الجهود والأموال من الآن في سبيل مكافحتها بدون تأخير ، وربما تكون جائحة كورونا الحالية مفيدة في هذا الجانب ، لأنها سلطت الضوء بقوة على  خطورة التهديد البيولوجي المحدق بالبشرية ، والأهمية القصوى للاستثمار المسبق والمبكر في مشاريع المكافحة والعلاج للأخطار البيولوجية التي تشكل تهديداً وجودياً للبشرية.

*الدكتور غسان علي بوخمسين ، صيدلاني أول ، مستشفى جونز هوبكنز.

مصادر الصور:

  1. https://www.britannica.com/science/antiviral-drug
  2. https://theconversation.com/antibiotic-resistance-is-not-new-it-existed-long-before-people-used-drugs-to-kill-bacteria-115836
  3. https://www.id-hub.com/2019/11/21/bacteriophages-2-0-old-solution-modern-problem/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *