سمةٌ رائعة في أفعال الأمر القرآنية، فحين تطلب منا كلها – تقريبا – أن نؤمن ونلتقي عند نقطةٍ توحيدية واحدة، فهذه الأوامر تسلك بنا طريقين، أولهما السير في ذواتنا واكتشاف أبعادها وخفاياها، والثاني هو التفكير والسياحة والانتشار الكوني، الذي لا ينتهي إلا عند حدود الكون في أعمقِ نقطة من الأرض وأبعد مسافةٍ في السماء!
فحين يطلب منا “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”، فهو يجمع علينا أمرين في آيةٍ واحدة، السير من النفس لكي نبدأ بمعرفة بداية خلقنا، ثم السير والانطلاق نحو قيعان البحار والمحيطات والنظر إلى أنواع الموجودات الحية، والأقوام والاُمم المتنوعة والمختلفة، وكيف أنّ الله تعالى خلقها من العدم. وهو بعد ذلك قادرٌ على إعادة إيجادها في الآخرة.
هي دعوةٌ لنا في عصرنا هذا أن نبني حضارةً قوية البناء وراسخة الأسس، وأن نمضي ونلاحظ الموجودات في أعماق البحار، وفوق قمم الجبال، وتحت طيات وطبقات الأرض. فِعلُ أمر يقضي بمطالعة حالات الأُمم والموجودات الأخرى، لنرى الحياة في صورها المختلفة وظروفها المتفاوتة، ثم نستفيد منها ونبني حضارتنا على أسس التوحيد وأن معرفةَ الله هو فعلٌ حضاري علمي، بعكس المطالعة المحدودة للنفس والكون التي لا تقدم إلا صورةً غيبية، ولا تكشف عن تمام قدرة الله.
وكما أن إثبات التوحيد يتمُّ عن طريق مشاهدة “الآيات في الأنفس” وعن طريق “الآيات في الآفاق”، فكذلك بناء الحضارات والعلوم يسلك هذين الطريقين أيضاً. فعندما يتوقف الانسان ويعجز عن المسير تراه في العادة لا ينظر في الآفاق إلا بمقدار ما يظهر عجزه عن التقدم ثم يبني أفكاره على هذا الواقع المتوقف، ويستحضر في هذا التوقف كلَّ ادوات الماضي واستعراض العقائد بطرق ليست عقلية ويكتفي بأن “ما وراء الطبيعة” هو التفسير الذي فيه جوابٌ لكل سؤال!
أرى في هذا السير دعوة بديعة للاختلاف في الفكر وطرق بناء الحضارة فكأنما نحنُ في أرضٍ مليئة بالصخور والمعادن، كلٌّ منا يشق طريقه سائرًا ويجلب معدنا ثمينًا أو حجرًا رخيصا، وكلاهما يكونان طوبةً في البناء الحضاري، لكن في ذات الوقت لابد من أن نُجمع كلنا على فكرة خالقٍ واحد ثم نجتمع ونسقي حضارتنا من ذات النبع.
أفعال أمرٍ ربانية تختزن الحركةَ الدائمة تقرع أسماعنا صباحًا ومساء، متى ما استجبنا – ولو لبعضها ـ استطعنا صنع حضارة موحدين لا يضارعها ولا يضاهيها أي حضارة أخرى، حضارة تجمع بين الدين والدنيا، ويصدق فينا “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس”.