بعث لي الإعلامي والصديق الأستاذ عبد الرحمن المرشود مشكورا مقالته المعنونة ” كم من الوعظ نحتاج كم من الوعي نريد ” والمنشورة في جريدة الوطن السعودية وطرح فيها سؤالا إعتبره يقع ضمن دائرة إهتماماتي أو ربما وجهته بحيث يكون كذلك. وقد علقت على مقالته ثم إرتأيت بعد ذلك أن أحولها إلى مقالة.
والسؤال كان عن سر تواجد الغنى والفقر في العالم وعما إذا كانت هناك حتمية تلازمية بينهما ، وهنا أقتبس هذا التساؤل الذي طرحه في مقالتة ” كثيرا ما تساءلت عن السر الكامن وراء ثنائية الغنى والفقر ، وعن حتمية تلازم وجودهما في العالم؟ فهل وجود أحدهما يقتضي وجود الآخر؟ وما مدى إمكانية وصول البشر إلى عالم بلا فقر ولا عوز” يذكر الأستاذ عبد الرحمن أنه طرح سؤاله هذا على صديقين له يختلفان عن بعضهما البعض في المشرب إلا أن كليهما يحمل مقصدا خيرا في نظرته للوجود. أرى من المهم أن أعرض لكم جوابا صديقيه كما ورد في مقالته حتى يتضح لكم أن جواب هذا التساؤل يحتاج إلى مقاربة مختلفة تستوعب حجم هذا التساؤل الكوني المتعلق بنظام التكوين وبالتالي ذات صلة عميقة بمسألة العدل الإلهي. بعد أن أعرض جوابا صديقية بالإستفاضة التي وردت في مقالته واعذروني في ذلك سأستعرض مقاربتي للإجابة بعد أن أعيد صياغة التساؤل تمهيدا لمقاربة الموضوع من زاوية أكثر شمولية وعمقا كما أزعم.
يقول الأستاذ عبد الرحمن ” طرحت سؤالي ذات مرة على صديق كان من المواظبين على الوعظ في المساجد ، وحث الناس على البر في المناسبات الإجتماعية. فرد علي بإجابة مفادها هو: (أن ما نشاهده من تفاوت في الرزق تقف وراءه حكمة كونية ، فتفاضل الناس يقتضي حاجتهم إلى بعضهم البعض ، وتسخير الأدنى للقيام بخدمة الأعلى ، فذلك ما يخلق الحركة الدافعة التي نراها في الكون. كما أن هذا كفيل بخلق المعاني السامية في نفوس البشر، كالرحمة بالضعيف ، والصبر على الشدائد ، وغير ذلك مما يبطل معناه ببطلان هذا التفاضل. فوجود فقر لدى بعض البشر مرتبط بثراء بعضهم الآخر ، ولا سبيل إلى تقليص هذا التفاوت إلا بأداء الأغنياء لما عليهم من حق الزكاة والمبادرة لمساعدة إخوتهم الأقل حظا بالبر والصدقة).
مرت الأعوام قبل أن تحصل المصادفة التي طرحت فيها السؤال ذاته على صديق آخر. كان الصديق هذه المرة شخصا مهتما بعلم الإقتصاد ويملك رؤية برهنت على وعيها أمامي في كثير من الأحيان. كانت إجابة صديقي الثاني كالتالي: “يخبرنا علم الإقتصاد بعدم وجود الحدود النظرية لما يمكن أن نصل إليه من تحسن المعيشة أو نماء الثروات ، كما أن الأغنياء لا يحتاجون إلى وجود الفقراء كي يصبحوا أغنياء ، فضلا عن أن تحتاج المجتمعات الغنية إلى وجود مجتمعات أفقر كي تنال غناها. هناك فرق بين العالم الذي يجمع فيه الإنسان ثروته بالسطو على محصولات الآخرين ، والعالم الذي يغتني الإنسان فيه عبر الإبتكار والعمل، دون أن تضطره مصالحه لسلب الآخرين حقوقهم. ولا يوجد إطلاقا ما يحتم إستحالة وصول البشر إلى الخيار الثاني كعالم ملائم للعيش. تصور يا صاحبي أن عالما سيصل إلى هذه الدرجة من الرقي المعرفي لن يعدم إنتاج التقنيات التي تقوم بالعمل الشاق بدلا عنه، فيقل اعتماده على العنصر البشري إزاء اعتماده على الميكنة في الأعمال غير المرغوب بها تلقائيا، …كما أن عالما كهذا سيعتمد في ثرائه على اكتساب رأسمال بشري مدرب وهو ما يجعل خيار الإعتماد على الطلبة والمتدربين في أداء كثير من تلك الأعمال واردا جدا. … حتى لو افترضنا بقاء بعض الأعمال غير المرغوبة في ظل هذا الوضع فما الذي سيحدث؟ سيحدث كل خير ، لأن تلك الأعمال سيرتفع أجرها نظرا لقلة العاملين بها ، مما يؤدي إلى انتفاء النظرة الدونية لمن يؤدي ذلك الدور بسبب وعي المجتمع بندرته وأهمية ما يقوم به، …” (1)
حسبي ما اقتبسته من مقالة الأستاذ عبد الرحمن.
أجد أن جوابا صديقيه لا يستوعبان حجم هذا التساؤل الذي طرحها الأستاذ عبد الرحمن بالصيغة التي ذكرها في المقالة. فالسؤال بالصيغة التي وردت في مقالته تحتاج إلى مقاربة مختلفة لأنها تضع أولا مسألة الغنى و الفقر في الدائرة التي تتعلق بالعدل الذي قام عليه نظام التكوين. كما أن هذا التساؤل في مرتبة اخرى هو سؤال المصير سؤال يرتبط بنحو ما بالنظم التي تحكم تطور التاريخ.
فالسؤال فلسفي في المقام الأول والمقاربة الإقتصادية له لا تفي بالغرض. ذلك لأن المقاربة الإقتصادية تجيب عن سؤال مختلف وهو لماذا هذا المجتمع غني والآخر فقير؟ كما تجيب عن الرؤية الإقتصادية للعالم في مرحلة متقدمة من التطورالتقني يقل فيه الإعتماد على الأيدي العاملة. وإن كنت أجد أن جواب صديقه الواعظ أقرب إلى نفسي من جواب صديقه الإقتصادي. ربما يكون ذلك بسبب أن جواب الواعظ يأخذنا نحو التسليم والرضا بما يقسمه الله بين عباده ولكنه جواب لا يشفي العقل ربما يشفي الروح ويعطيها السكينة. و لربما يكون شفاء الروح هذا لبعض الوقت فسرعان ماتفقد سكينتها عند من لا يكون إيمانه مستقر وتعود لتطرب وتفقد سكينتها تحت وطأة الفقر والمعاناة. من هنا تأتي أهمية التأسيس العقلي الصلب الذي يعيد الإنسان إلى تجربة الإيمان من جديد.
لذلك فإننا سنحتاج في مرحلة متقدمة لهذا النوع من المقاربة الوعظية بعد أن نستوفي المقاربة العقلية الفلسفية للجواب. الجواب الوعظي هو جواب الإيمان الذي يرتبط برفع القلق الوجودي للإنسان ويقدم جوابا شافيا للروح وسؤال المصير. فكل المقاربات العقلية مهما كان متانة البرهان الذي تستند اليه هي غير كافية في رفع القلق الوجودي في سؤال المصير. هناك دائما هامش من الشك في كل هذه المقاربات ويأتي دور الإيمان لكنه الإيمان القائم على رؤية فلسفية عقلية للكون لترتقي بهذه المقاربات الى اليقين الذاتي مما يكسب النفس الطمأنينة. اليقين هو في جوهره إيمان عميق وراسخ والمقاربة العقلية لا تعطي مثل هذا اليقين ذلك لأن اليقين محله القلب لا العقل.
دعونا نعيد صياغة التساؤل بطريقة تمهد لمقاربة مختلفة. السؤال هو هل هناك من حتمية كونية تلزم من تواجد الغنى والفقر؟ وإذا ما أردنا أن نتتبع جذره العميق فإننا سنعيد صياغة هذا السؤال بطريقة أكثر شمولية وتستبعد المقاربة الإقتصادية والوعظية وتحصر المقاربة في الإطار الفلسفي كما هو مفترض.
هل من صميم النظام الكوني الجمع بين ما من شأنه الوجود وما من شأنه العدم؟ هل أن النظام الكوني لا يمكن أن يستقيم الا بالجمع ما بين الوجدان والفقدان أو الإمتلاء والفراغ ؟ هل أن العدم أو الفراغ يمثلان خطأً ما تسلل إلى نظام التكوين لينتج مختلف الشرور في هذا العالم؟ ثم إذا كان الله العادل والحكيم والكامل مصدر الخير ونبع الجمال والرحمة فلماذا خلق الشر في هذا العالم؟ لماذا أوجد الفقر والأمراض والزلازل والبراكين وكل ما من شأنه أن يلحق الدمار والقهر في هذا العالم؟ وإذا كان من حتمية تكوينية في تواجد الوجود والعدم فهل من قوانين تتحكم في هذه الجدلية وترسم مسارها التاريخي؟
حتما نحن أمام عدد من التساؤلات الكونية الكبرى كما أن هذه التساؤلات في خلفيتها أسئلة مرتبطة بالرؤية الكونية الفلسفية وبالتالي هي أسئلة المصير الإنساني وبالتأكيد فإنه لايمكن الإجابة عليها بالطريقة الوعظية كما لا يمكن الإجابة عليها من الزاوية الإقتصادية.
لقد وضعنا سؤال الأستاذ عبد الرحمن كما يرى القارىء الكريم في إطار كلي يلزم منه أن يكون الغنى وجوداً وإمتلاءً والفقر عدماً أو فراغا ولذلك كان لابد من مقدمة تشرح المقصود الفلسفي للوجود والعدم في الفلسفة الإسلامية خصوصا الحكمة المتعالية لصدر المتألهين تمهيدا للإجابة عن هذه التساؤلات الكبرى والمصيرية. ولست أدعي أنني في هذه المقالة سأقدم المعالجة الكافية لهذا الموضوع المعقد بل إنني سأكتفي بتقديم المعالجة التي تستوفي الإجابة عن السؤال الأساس الوارد في مقالة الأستاذ وتفتح للقارىء الكريم باباً للبحث في الموضوعات ذات الصلة والتي قدمت الفلسفة الإسلامية رؤيتها المتكاملة. وأنصح القارىء في هذا المضمار بالرجوع إلى كتاب العدل الإلهي للشيخ مرتضى المطهري رحمه الله.
مقدمة قصيرة في الوجود والعدم
إن مفهوم الوجود حقيقة بديهية حاضرة لدى كل إنسان. والإنسان كما أنه يدرك وجوده بالبداهة فإنه يدرك وجود العالم الخارجي المليىء بالموجودات الأخرى كوجود الحيوان والنبات والأنهار والسماء والأرض. وهذه الوجودات المختلفة وإن تباينت ماهياتها فالوجود فيها واحد ، فالوجود عند الإنسان مثلا هو عينه الوجود عند الحيوان. فجميع الموجودات تشترك في أن الوجود لها واحد ولا أقصد هنا مفهوم الوجود الذي هو بديهي التصور بل أقصد من الوجود الحقيقة الخارجية العينية له. الوجود مشترك معنوي أي أن معناه واحد في كل هذه الموجودات. فما الذي إذن يميز هذه الموجودات عن بعضها البعض؟ فهل يختلف الإنسان عن الفرس في أن ماهية هذا إنسان وماهية ذاك فرس؟ أو أن الإنسان والفرس يختلفان في الوجود نفسه الذي يشتركان فيه. تجيب الحكمة المتعالية وهو ذاته الجواب عند بعض العرفاء في أن كل الموجودات تشترك في حقيقة الوجود وتختلف جميعها في الوجود ، فعين ما به الإشتراك هو عين ما به الإمتياز كما يقولون. ولتوضيح المسألة سأضرب مثالا بنور الشمس ونور الشمعة حتى يتضح المعنى المبهم من هذه العبارة. النورية في نور الشمس ونور الشمعة واحد لكن نور الشمس أشد وضوحا من نور الشمعة. إن كلاً من الشمس والشمعة يشتركان في الحقيقة النورية لكنهما يمتازان عن بعضهما في أن نورية الشمس أشد من نورية الشمعة فعين ما به الإشتراك -الحقيقة النورية- عين ما به الإمتياز – التفاوت في شدة هذه الحقيقة. وإذا ما إنتزعنا من هذا التباين في النورية شدة وضعفا أو التشكيك كما هي الكلمة المستعملة في الحكمة المتعالية وطبقناها على الوجود بوصفه الحقيقة الخارجية المترتب عليها الآثار الخارجية فإننا سنجد أن الوجود في الإنسان والفرس واحدا لكنهما يختلفان في أن وجود الإنسان أشد من وجود الفرس. ويكفي أن ننظر إلى ما يفعله الوجود الإنساني في الحياة بتلك التي يصنعها الفرس لندرك أن الحقيقة الوجودية للإنسان أشد بما لا يقاس بالحقيقة الوجودية للفرس. إذن الوجود كحقيقة خارجية مترتبة عليها الآثار هي و احدة لكنها حقيقة تشكيكية متباينة من حيث الشدة والضعف. الإنسان والفرس هي ماهيات لحقيقة واحدة فبها أي الماهيات تنشأ الكثرة في هذا الوجود الواحد. ومن هنا يأتي القول بأن الوجود واحد في عين أنه كثير وكثير في عين أنه واحد. الماهيات ليست كالوجود إذ ليس بها تشكيك لأنها بمثابة القشر الذي يغلف هذه الحقيقة الوجودية. وفي الوجود بناءً على هذه الحقائق نظام طولي ونظام عرضي. فالمقصود من النظام الطولي للوجود هو هذا التفاوت في مراتب الوجود تبدأ من الوجود الواجب الصرف علة العلل وتنتهي بسلسلة من الموجودات مرتبة بحيث يكون الوجود الأعلى مرتبة يعني الأشد وجوداً وقرباً من الوجود الواجب يقع في رتبة أعلى من الأقل منه وهو علته المباشرة، وبذلك يكون الوجود مرتب في سلسلة طولية من العلل والمعاليل. أما سلسلة العلل والمعاليل المنتجة للظواهر المصاحبة لمرتبة واحدة من الوجود هي تقع في عرض هذا الوجود وهذا ما يسمى بالنظام العرضي للوجود. فالشروط المادية التي تنشأ منها الظواهر في النظام الكوني هي ضمن السلسلة العرضية لنظام العلل والمعاليل. وهذا يعني الترابط الوثيق بين جميع الحوادث التي تقع في النظام الكوني.
إذا كان الوجود ذا حقيقة واحدة والعدم هو نقيض الوجود فهذا يعني أن العدم في الأشياء يحمل معناً واحداً أيضا. فعدم الغنى لا يختلف عن عدم العلم وعدم الأرض… الخ. وليس نظام التكوين منقسم إلى وجود وعدم بحيث يقعان في عرض واحد. ليس للعدم واقعية في الخارج إنما الواقعية الخارجية تكون للوجود. وحيث أن العدم ليس له واقعية في الخارج فهو لا يحتاج لمبدأ مستقل كما هو الحال في الوجود. الوجود والعدم من المعاني التركيبية التي تحمل على الماهية. فيقال الماهية موجودة ويقال الماهية معدومة، فحمل الوجود أوالعدم على الماهية هو من قبيل الحمل التركيبي. والحمل التركيبي هو من باب حمل شيء من خارج الموضوع على الموضوع. وهذا يعني أن الماهية من حيث هي ليست معدومة أو موجودة.(2،3،4 )
دراما الحياة والنسبة المضافة للوجود
إن العدم الذي هو الفراغ ينشأ في السلسلة الدنيا من الوجود حيث تكون في هذه الرتبة من الوجود التزاحم والتضاد والقوة والفعل والحركة. وسيتضح بعد ذلك أن هذا العدم هو المولد لفاعلية الحياة والصانع لكل أشكال الدراما الحياتية. كل الوجود في ذاته خير فوجود الإنسان خير ووجود الحيوان خير كما أن وجود البركان والزلزال خير. وكل عدم هو في ذاته شر فعدم الغنى وعدم العلم هو شر محض. وحيث لا واقعية للعدم فليس هناك واقعية للشر، أيضا للمطابقة التامة بين العدم والشر. فهل تعني عدم واقعيتها أنها غير موجودة فهل ننكر كل ما يجري في هذا العالم من شر كالمرض والحرب وكافة أشكال الظلم والقهر؟ إن نظام التكوين يقوم على هذه الثنائية المتضادة ، بمعنى أن في نظام التكوين ما هو متحقق الوجود ومنها ما ليس متحقق بالفعل وهو ما نعبر عنه بالفراغ والنقائص في هذا العالم وهذه الفراغات والنقائص ضرورات في نظام التكوين وبالتالي مصدر الشرور فيه. فالإنسان والحيوان والنبات وسائر الوجودات متحققة فعلا بالوجود ولكن هناك وجودات غير متحققة فعلا وتحتاج إلى حركة تخرجها من حيز العدم إلى الوجود. فالجهل متحقق فعلا عند الإنسان ويحتاج الإنسان أن يملىء هذا النقص بالعلم. وليس الإنسان عندما يتعلم فإنه يفقد شيئا هو الجهل ليحل محله العلم ، لا ليس الأمر كذلك. هذا ما يدعونا للقول بأن الجهل لا واقعية له. تماما فعندما يتحول الفقير إلى الغنى فإنه لا يفقد شيئا نسميه الفقر ليحل محله الغنى فالفقر في حقيقته هو عدم الغنى كما أن الجهل في حقيقته عدم العلم. إذن فكل ما يتصف بالوجود هو خير وكل ما يتصف بالعدم هو شر. والشر ليس أمراً وجودياً بل هو أمر عدمي. ومن الخطأ أن يطرح السؤال التالي لماذا خلق الله الشر؟ ذلك لأن الشر ليس أمرا يتصف بالوجود حتى يُسأل مثل هذا السؤال. الله هو مصدر الوجود وهو علته أما العدم لا يحتاج إلى العلة كما ذكرنا في أحكام الوجود والعدم.
لكن هذه العدميات ليست مطلقة بل هي عدميات نسبية تكون من لوازم الوجود بمعنى أن العدم النسبي لا ينفك عن الوجود لأنه من ضرورات الوجود. العدم بمثابة الظل الملازم لنور الوجود الذي لا ينفك عنه. فالشمس وجود ونورها وجود لكن مع النور توجد الظلال. والظلال بذاتها لا وجود لها لكنها حتمية تلازم وجود النور. فكلما كان هناك نور كان هناك ظلال. وليست الظلال والظلام شر مطلق بل أن البشر و الأشجار تحتاج إلى الظلام. فالعدم النسبي المترافق مع الوجود الحقيقي شره نسبي. وكما يقول ابن الرومي أن سم الحية يورثها الحياة لكنه يورث الإنسان الموت. فالفقر عدمه نسبي وشره نسبي وهو من ضرورات الوجود لأنه من لوزامه. ومن هذه العدمية النسبية تتولد ديناميكية الحياة وتتفجر طاقات البشر. فالفقير يتحرك من أجل أن يتخلص من فقره وقد يغير العالم في حركته والجاهل يرفع جهله بالتعلم وفي حركته الهادفة إلى رفع الجهل قد يضع النظريات وينقل البشرية نحو طور جديد. ولنا في ما نشاهده من تطور العلوم والتكنولوجيا كيف أن البشرية في المائة سنة الأخيرة وفي حركتها التاريخية الهادفة لسد هذه الفراغات في نظام التكوين قد انتقلت إلى طور جديد من الحياة على الأرض لم يسبق لها مثيل في تاريخها.
والآن كيف تتشكل دراما الحياة في هذه الثنائية المتضادة من الخير والشر؟ دعوني أضرب لكم مثالا بالنار. النار ذاتية الحرارة والإحراق والذاتي لا يعلل. والحرارة الناتجة عنها هي الأثر الوجودي المترتب عنها وبالتالي هي حقيقتها الوجودية، فالحرارة لا تنفك عنها ومن المستحيل الفصل بينهما. ذلك أن انفكاك الحرارة عن النار يعني أن حقيقتها الوجودية قد تبدلت ولم تعد نارا. لكن حرارة هذه النار هو وجودا خيرا للبعض و شرا للبعض الآخر. فالنار التي نجتمع حولها في الشتاء القارس طلبا للدفء ثم نتسامر في هذا الإجتماع و نقضي وقتا ممتعا في ذلك الإجتماع هي بالتأكيد بالنسبة لهولاء وجودا خيرا. وبالنار نطهو طعامنا ونصنع أشهى المأكولات وإلى آخر ما يمكن أن نستفيده من النار في حياتنا. هي بالنسبة لكل مثل هذه الفوائد وجودا خيرا. لكن ماذا عن من تحترق بيوتهم بالنار وماذا عن من تشوه خلقتهم بسبب الإحتراق وماذا عن الآلام التي يعاني من إكتوى بنارها؟ اليس هذا يمثل وجودا شرا بالنسبة لهولاء. هذه النسبة المضافة للنار ليست حقيقية وإلا كيف يكون الشيء وجودا خيرا وشرا في نفس الوقت. هذه النسبة العدمية هي ما تصنع للحياة كل أشكال الدراما التراجيدي منها والكوميدي إن صح التعبير وهي ما تجعل الحياة محل الإبتلاء والإختبار الإلهي.
لكل وجود أثره الوجودي المترتب عنه وهذا الأثر الوجودي هو حقيقة ذلك الوجود أما النسبة المضافة فهي صفة غير حقيقية لذلك الموجود لكن كل الدراما الحياتية تصنعها هذه النسبة المضافة. لنضرب مثالا آخر بالجاذبية وأترك للقارىء أن يجتهد بنفسه وأن يقيس على هذه الأمثلة ليتبين كيف أن هذه النسبة المضافة سلبا وإيجابا للوجود تصنع كل الدراما في حياتنا. الجاذبية لها خاصية جذب الأشياء باتجاه الأرض. الجاذبية تصنع لنا شلال الماء ، وكم هو رائع وجميل أن نرى منظر الماء يسقط من علو. تصور كيف لهذا المنظر أن يضع البسمة في شفاهنا ويغمرنا بالسعادة. وننطلق في نزهة مع العائلة أو الأصدقاء إلى حيث هذا المنظر الخلاب ونجتمع حوله. فهنا الجاذبية تفعل الحسن الجميل في حياتنا. لكنها أي الجاذبية قد تصنع المآسي في حياتنا. فسقوط طائرة محملة بالركاب عندما يعترضها عارض ما يسبب لنا فقد الأحبة. وهنا تفعل الجاذبية ما نعتبره شرا. وكم من الأحداث في حياتنا يمكن أن تصنعها الجاذبية. إنها النسبة المضافة عدما ووجودا للحقيقة الوجودية هي ما تصنع كل فصول دراما الحياة.
إن الوجود كما مر يتفاوت ضعفا وشدة فالإنسان مجبول على أن يتحرك نحو الكمال وملىء الفراغ وسد الفقدان بالوجدان وبالتالي فإن حركته دؤوبة. لكنه قد يخطئ في تشخيص الكمال البشري فبدل أن يتجه في مسيرته نحو الغني المطلق ليزداد غنا ويتحرك باتجاه العليم المحيط بكل شيء ليزداد علما ليصبح وجوده متحقق في أعلى درجات القرب الإلهي فإننا نراه يبتعد عن مصدر الوجود ومبدأه فيزداد النقص والفراغ في وجوده ويصبح في أدنى سلم الوجود. ويتحول بذلك إلى مصدرخطر يهدد الوجود الخير في هذا العالم ويعيث الفساد في الأرض. عندما تفقد النفس التقوى ينشأ الفراغ في النفس البشرية ويتحول هؤلاء الذين كما يصف القرآن أفئدتهم بالهواء فإنهم يكونوا مصدر الفساد ومع ذلك نرى القرآن الكريم يصف هؤلاء المفسدين بأنهم ممن يظنون أنهم يحسنون الفعل وهذا هو الخطأ في تشخيص الكمال.
من هذا المبدأ المستقل المتصف بالكمال المطلق فإن الغنى يعد فقرا حقيقيا في قبال الغني الواجب والعالم جاهل في قبال العليم المحيط وبهذا الفقر المطلق والجهل المطلق تتولد ديناميكية الحياة المتمثلة بحركة الإنسان السوي المعتدل الفطرة التكاملية نحو الكمال المطلق. ومع حركة التكامل التي يسعى الصالحون من خلالها لعمارة الأرض توجد بالنقيض حركة تسافلية يصنعها المجرمون الظالمون المفسدون في الأرض. ومن تناقض الحركتين التكاملية والتسافلية الحركة التي تملىء الفراغ الوجودي والحركة التي تهدف الى زيادة الفراغ الوجودي يكون الصراع الأبدي بين الخير والشر. ومن هذا الصراع تنشأ الحروب ولك أن تتصور كل صور الدراما المأساوية التي تصنعها الحروب.
والخلاصة أنه لولا هذه النسبة المضافة والفراغات والنقائص في نظام التكوين لما تولدت ديناميكية الحياة، إذن “فليس بالإمكان أبدع مما كان”.
فرادة السعة الوجودية للإنسان وتحققها في المسار التاريخي
إن الوجود الإنساني مرتبة من الوجود تنفرد من بين كل الموجودات على الأرض في السعة الوجودية التي يمكن لها أن تتحرك فيها صعودا ونزولا. من هنا جاء التكريم الإلهي لبني آدم باعتبار قابلية هذه الحقيقة الوجودية لئن تكون أشرف من الملائكة وهذا أحسن التقويم والإبداع الإلهي في خلق الإنسان. وكما أن لها هذه القابلية أن ترتقي في سلم الوجود لتكون في أكثر درجات القرب من الوجود الواجب فهي أيضا لديها من القابلية لأن تكون في أدنى مراتب سلم الوجود وأشدها ظلمة وأبعدها عن الوجود الواجب حيث يتسافل الإنسان ويتبدل جوهره الإنساني رغم إحتفاظه بالصورة الإنسانية. الإنسان في هذا العالم يصنع وجوده لا من خلال ماهيته كما يقول سارترلأنه كما مر معنا لا تشكيك في الماهيات بل بإرادته الحرة واختياره الحر. من هنا كانت الحرية هي جوهر الوجود الإنساني فبدونها لا يمكن أن نفسر هذه السعة الوجودية للإنسان والا لماذا لم يكن للفرس أو أي مخلوق آخر هذه السعة من الوجود. فالفرس أو غيره من الموجودات لا تملك إرادة حرة تستطيع بها أن تغير موقعها في الطيف من الوجود وتغير بها الواقع الإنساني عمرانا أو فسادا. هذه السعة الوجودية أعطيت للانسان وهي ما يسميها القرآن الكريم الأمانة الإلهية وهي بالتالي ما سيصنع مسار التاريخ وفق القوانين الحاكمة في تطوره، وتمكننا المعرفة بقوانين التاريخ من تحديد المصير الإنساني.
الإنسان وفق هذا المنظور قادر على أن يصنع التغيير بإعتبار هذه السعة الوجودية التي تتيح له المجال واسعا للتحرك وتغيير الواقع. لكنه لا يصنع التغيير كيفما يريد. بل لابد أن تتوافق إرادته مع القوانين الحاكمة في تطور التاريخ. عليه أن يكتشف قوانين التاريخ الحاكمة في السياسة والإقتصاد والإجتماع وكذلك قوانين النهوض والسقوط الحضاري. لكن ما هو القانون العام الذي يتحكم في التطور التاريخي للبشرية وعليه تدور كافة ظواهر الإجتماع البشري؟ إختلف الفلاسفة في تحديد القانون العام المركزي الذي يحرك التاريخ ويصنع ظواهره المختلفة. الفيلسوف هيرقليطس رأى أن القانون العام الصانع للتاريخ هو التغير ، فكل شيء في تغير متواصل ولا شيء ثابت. وبغض النظر عن الظروف الإجتماعية والسياسية التي ولدت لديه هذه الفكرة عن التاريخ فإنها بلا شك فكرة تعكس الحركة المتواصلة والمتضادة في نظام التكوين. ومضى افلاطون على طريقة هيرقليطس في اعتماد التغير كمحرك للتاريخ لكنه تقدم خطوة معتبراً أن ما يحكم المصير التاريخي للعالم هو الإنحلال والتفسخ. وهناك من يقرأ التاريخ قراءة عرقية وينظر اليه على أنه صراع الأجناس البشرية من أجل السيطرة. فالذي يفسر مسار التاريخ هو التفوق البيولوجي. أما كارل ماركس فيرى أن التاريخ هو صراع الطبقات من أجل السيطرة الإقتصادية.
ولن نسهب في الحديث عن هذا القانون العام المحرك للتاريخ البشري فهو موضوع شائك وربما نخصص له مقالة مستقلة. إنني لا أرى أن هناك حركة للتاريخ في إتجاه واحد نعرف مسبقا نهايتها وثم نستطيع أن نحدد المصير الإنساني ونقوم بتفسير جميع ظواهر الإجتماع البشري من خلالها. إن هذه الرؤى تستطيع أن تجير مختلف الظواهر وتكيفها بحسب القانون العام الذي تتبناه في تطور التاريخ. إن الحركة التاريخية محكومة بمجموعة قوانين وهي إن استطاع الإنسان أن يتعرف عليها ويستخدمها في نضاله من أجل صنع التغيير فإنه بالتأكيد سيحالفه النجاح. لدينا عالم يزخر بثنائيات متضادة من الوجود والعدم كالغنى/الفقر والعلم/الجهل والتقدم/التخلف وعلينا أن نتعرف على قوانين التاريخ الذي يحول عدم الوجود إلى الوجود فيحول الفقر إلى الغنى والجهل إلى العلم …الخ. إن حركة التاريخ بقوانينه لا تصنع المصير الإنساني بل أن الإرادة الحرة للإنسان المتوافقة مع قوانين التاريخ هي من يصنع مصير الإنسان. إن سنة التدافع بين المتضادات وجوداً وعدماً هي المحرك للتاريخ.
المصادر
- http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?Articled=29869
- العدل الإلهي ، العلامة الشيخ مرتضى المطهري.
- دروس فلسفية في شرح المنظومة ، العلامة الشيخ مرتضى المطهري، ترجمة الشيخ مالك وهبي.
دروس في الفلسفة الإسلامية ، عبد الجبار الرفاعي.