الاحتجاجات التي شهدتها ولازالت تشهدها الكثير من المدن الامريكية لمدة ١٥ يوما متتالية جراء قتل السيد جورج فلويد ذي البشرة السوداء من قبل شرطي ابيض خنقاً بوضع ركبته على عنقه قرابة العشر دقائق في مدينة مينابولس في ولاية مينوسوتا، لم تمضي دون أن تكون حدثاً عالمياً أنتج الكثير من الكتابات المختلفة والمتناقضة في آن واحد. بل أن كثيراً من هذه الكتابات، وخاصة العربية منها، أغفلت العديد من النقاط المهمة والجوهرية وركزت على جانب وحيد من المشهد، وهو فريق العنف والسلب والنهب ولم تكن محايدة حتى في نقلها هذه الزاوية الضيقة من المشهد الواسع.
الملاحظة الرئيسية على هذه الكتابات هو ضعف فهمها للسياق التاريخي للعنصرية في الولايات المتحدة. فهذه المظاهرات ليست وليدة الساعة وأعمال الشغب والسرقات من بعض المتظاهرين هو رد فعل لقرون وعقود متواصلة من العنصرية الممنهجة من عبودية وعزل عرقي وعنف دموي. إن محاولة بعض الكتاب مسح هذا التاريخ من التحليلات للوضع الراهن لن يوصلنا لفهم كامل لأهمية هذه اللحظة في الوعي الاجتماعي للمجتمع الأمريكي والدولي.
فبالإضافة إلى مقتل السيد جورج فلويد هناك الكثير أيضا ممن قتلوا بطرق مشابهة، مثل كل من: مقتل السيدة بريونا تيلور، الممرضة القاطنة في مدينة لويفيل في ولاية كنتاكي أثناء مداهمة لمنزلها دون إنذار وإطلاق النار عليها من قبل الشرطة وهي نائمة، ومقتل السيد أحماد آربوري خلال ممارسته لرياضة الجري من قبل شرطي سابق في ولاية جورجياً حيث تتبعه هو ووالده وأطلق عليه النار، وغيرهم الكثيرين.
الحاضرون في المشهد كثيرون، وهم أصناف متعددة ومختلفة ومنهم مثلا وليس حصرا: ١) النظام الأمني بكل فئاته (الشرطة، مكافحة الشغب، الحرس الوطني، التحقيقات الفيدرالية، … الخ)، ٢) فريق العنف (النهب والسلب والتخريب)، ٣) المنصات الإعلامية (قنوات تلفزة، محطات إذاعية، جرائد، مجلات، تواصل اجتماعي… الخ)، ٤) المتظاهرون السلميون، وسوف يكون تركيز هذا المقال فقط على الصنف الأخير وأصدائه الإيجابية.في النقاط التالية متابعة سردية لبعض الحقائق المنسية في الكتابات العربية. وبمعنى آخر هو نقل بعض تفاصيل المشهد بتوصيفه المجرد وبدون تحليل إضافي من أجل أن نترك الحكم للقارئ. مع ملاحظة أن هذا المشهد متشعب وواسع وليس باستطاعة أي كاتب بمكان أن يختزله في صفحات معدودة، فهو يحتاج لكتابة العديد من المجلدات ومن زوايا مختلفة. ومن ضمن هذه الحقائق مثلا وليس حصرا، هي التالي:
- كبار الكتاب في الصحف الأمريكية تدين وحشية الشرطة وتدعم المتظاهرين وتشجب تصرفات الرئيس الأمريكي لعدم إدارته للحدث بشكل أبوي ورئيس للجميع، بما فيهم بعض صقور المحافظين والمحسوبين على الحزب الجمهوري الحاكم مثل السيد جورج ويل والذي كتب بوضوح في صحيفة الواشنطن بوست: علينا اقتلاع الرئيس ترامب واقتلاع من يدعمه ويمكنه من المشرعين في الكونجرس.
- تحول الاحتجاجات الصغيرة الغاضبة في بعض المدن الى مسيرات ضخمة وسلمية في أكثر من ٢٥٠ مدينة أمريكية ، وخاصة في المدن الكبرى والرئيسية مثل: واشنطن دي سي، نيويورك، دينفر، فيلاديلفيا، شيكاغو، لوس انجلوس، منيابولس، بورتلاند.
- تمدد جغرافية الاحتجاجات لتشمل بعض المدن خارج أمريكا، مثل: برلين، لندن، تورونتو، طوكيو، سيؤول.. الخ.
- تزايد عدد المتظاهرين بالآلاف في معظم المدن الرئيسية، حتى بلغ عددهم في مدينة صناعة السينما الأمريكية (مدينة هوليود) ب ٢٠ ألف متظاهر.
- ينادي المتظاهرون والحقوقيون في بعض المدن الامريكية الى تغيير التشريعات القانونية المتبعة في إدارة اقسام الشرطة. بالإضافة الى تخفيض ميزانياتها كما حصل في مدينتي نيويورك ولوس انجلوس، والبعض ذهب بعيدا في مناداته بأن يلغي هذا القسم نهائيا كما حصل في مدينة مينابولس واستبداله بقسم للأمن العام والذي يعتمد على شراكة بين أفراد المجتمع والحكومة وتحويل المتبقي من الميزانية لبرامج التعليم والغذاء والصحة العامة وخدمات المجتمع.
- الحزب الديمقراطي (المعارض، ذو أغلبية صغيرة في مجلس النواب وأقلية في مجلس الشيوخ، والغير الحاكم في الحكومة التنفيذية) في مجلس النواب في الكونغرس الأمريكي يكشفون النقاب عن مشروع قانون واسع لإصلاح الشرطة، ويتعهدون بتغيير تطبيق القانون المتبع حاليا.
- الاستطلاعات العامة تشير الى انزعاج الشعب من وحشية الشرطة أكثر من انزعاجهم من عنف بعض المندسن والمخربين في وسط المتظاهرين. كما ان التركيز على عنف هؤلاء يشتت الانتباه لمطالب المتظاهرين السلميين وما استدعاهم للتظاهر.
- رئيس الرابطة الوطنية (الأبيض البشرة) لكرة القدم الأمريكية يعتذر لشجبه بعض اللاعبين الاشتراك في الاحتجاجات التي حدثت قبل عدة سنوات ضد العنف البوليسي، وأبدى دعمه للاعبين المشاركين في المظاهرات القائمة حاليا.
- الكثير من كبرى الشركات تعطي يوم إجازة لموظفيها من اجل المشاركة في تخليد ذكرى القتيل السيد جورج فلويد.
- كبرى الشركات تتبرع بمبالغ عينية لدعم مؤسسات المجتمع المدني لذوي البشرة السوداء. بالإضافة الى إنشاء أو دعم مشاريع قائمة للمساواة العرقية.
- الشركات الكبرى ترسل تعاميم خاصة لموظفيها ورسائل عامه لعملائها بالحث على احترام حقوق الموظفين ونبذ العنصرية والتأكيد على الالتزام بالمساواة للجميع.
- السيناتور ميت رومني (ولاية يوتا) من الحزب الحاكم (الجمهوري) يشارك في الاحتجاجات. كما أن بعض الأعضاء من مجلس الشيوخ (الجمهوريين) حذروا الرئيس دونالد ترامب في عدم متابعته للتهديدات التي يشنها ضد السناتور السيدة ليزا موركوفسكي (ولاية ألاسكا) بعد أن اعترفت بأنها “تصارع” باتخاذ القرار المناسب في دعم الرئيس ترامب للانتخابات القادمة حيث انه فشل في إدارة الازمة. بالإضافة الى تصريحات مباشرة لبعض رموز الحزب الجمهوري أمثال كولون باول وزير الخارجية السابق في عهد جورج بوش ويحتجون بشكل واضح ضد سياسات الرئيس ترامب لإدارة الحدث ويعلنون عدم دعمهم لترشيحه في الانتخابات القادمة.
- قيادات كبيرة في الجيش الأمريكي وخاصة المتقاعدين منهم يختلفون بشدة مع سياسة الرئيس ترامب في دعوته بإحضار الجيش الى الشارع من اجل استتباب الأمن وحفظ النظام في البلاد، مشيرين إلى أنها مخالفة لدستور الدولة الذي يعطي الحق للمواطن بحرية الرأي وحرية التجمهر من أجل التظاهر والاحتجاج، كما يتهمونه في تقسيم البلاد الى جماعات متناحرة. ومن هؤلاء وزير الدفاع السابق في حكومته الجنرال جيمس ماتيس، بالإضافة الى كبير الموظفين السابق في ادارته الجنرال جون كيلي.
- رئيس شرطة مدينة هيوستن يصرح علنا ويخبر الرئيس ترامب بأن يقول خيرا أو يصمت. بالإضافة الى تطور الخلاف بين بعض رؤساء اقسام الشرطة ورؤساء نقابات واتحادات الشرطة على تصنيف وشرعية بعض الحقوق التي يتمتع بها الشرطي في عدم إدانته من افعال العنف البوليسي.
- ارتفاع نسبة الوعي عند ذوي البشرة البيضاء وعند الشرائح العرقية الأخرى من غير السود و البيض عن حقوق الأقليات ووحشية الشرطة، حتى اضحى الكثير منهم يتقدمون الاحتجاجات ويقودوها، و من هذه الأمثلة مظاهرات تضامنية من الفلسطينيين و العرب، من جالية سكان جزر المحيط الهادي، من الجاليات اللاتينية و من اليهود، حيث صرح الرئيس السابق باراك أوباما بأن هذه المظاهرات تختلف عن مظاهرات الحقوق المدنية في الستينيات بأنها تمكنت من استقطاب تحالف كبير بين الإثنيات و العرقيات و الأديان للمطالبة بالعدالة الاجتماعية، و أن هذا النوع من الوحدة والتعاون لم يكن موجوداً في عقودٍ مضت.
- ارتفاع تطور سقف المطالب الحقوقية في الشارع تدريجيا للمحتجين حتى أصبح محرجا للسياسيين والرموز الثقافية وكبار رجال الاعمال ان ينتقدوا او يعارضوا هذه المطالب الجديدة. والحالة نفسها تنطبق أيضا على القنوات التلفزيونية (الليبرالية منها والمحافظة) التي تواكب الحدث وتصدره في مقدمة نشراتها.
- تدمير الكثير من تماثيل بعض رموز العنصرية وانزالها من ساحات المدن الامريكية والأوروبية.
- في يوم الوداع الاخير للقتيل، اصطف الناس في طوابير انتظار استمرت لأكثر من ١٠ ساعات من أجل إلقاء النظرة الأخيرة عليه.
- أصبحت الخطابات السياسية تركز على المفردات الحقوقية مثل: التنوع، المساواة العرقية، العدالة الجنائية، بالإضافة الى تغيير الأنظمة، وإصلاح التشريعات.
القائمة طويلة، ومن الصعب بمكان اختزال المشهد في مقالة موجزة وقصيرة. وبعيدا عن الانحياز في التحليل لن أضع خاتمة تعبر عن وجهة نظري الشخصية كمتابع عن بعد لهذه الاحداث المتسارعة. ولكني أظن أن مسارا اصلاحيا قد خرج من رحم هذه المظاهرات السلمية والغاضبة وترعرع ليضغط بقوة في تعديل الكثير من القوانين والتشريعات التي تعزز العدالة الجنائية والمساواة العرقية. ولكن في نفس الوقت ان هذا المسار ليس قصيرا ولن يكون معبدا بالزهور.