عاش سعيد وهو شاب مهذب لطيف في بستان كبير، واسع بديع ، متصلة أشجاره ، نضرة خضرته ، يمتد على خط ساحلي بحري طويل ، جميل منظره ، هادئة امواجه ، صافية مياهه ، بقربه جزيرة صغيرة ساحرة فاتنة تكتنفها أشجار القرم الكثيفة وتغمر محيطها مياه البحر الدافئة التي تنحسر في أوقات الجزر لتربطها ببقية أجزاء البستان وتسهل حركة المرور بينهما وكان أهم ما يميز هذا البستان المحبة والسلام وطيبة أهله الكرام. أحب سعيد هذا البستان حباً عظيما ، عشق ترابه وهام في سمائه.
ترعرع سعيد بين أفراد أسرته المنحدرة من عائلة تجذرت عروقها كما تجذرت عروق نخيل البستان في الأرض وعاش مع عشرات من أقرانه من أسر مختلفة هي في الأساس متداخلة فيما بينها يربطها التصاهر والتراحم. اتخذت كل أسرة من هذه الأسر ناحية من نواحي البستان الكبير أو من جزيرته المجاورة لتسكن فيها وتعمل في محيطها لترعى الزرع وتحافظ على حيوية ونضارة البستان الكبير الذي توارثوه عن أجدادهم منذ زمن أقل ما يقال عنه أنه تاريخ موغل في القدم.
لم تكن أسر هذا البستان تعرف اللهو أو إضاعة الوقت فيما لا ينفع الإنسان فهي تنام مبكرا وتصحو مبكرا لتحرث الأرض وتسقي الزرع وتجني المحاصيل وتربي الماشية من بقر وأغنام وتهتم بالدواجن وتعمل في الإعمار. أهل هذا البستان يعملون طوال العام دون كلل أو ملل. وفي الصيف حيث يكون الموسم الزراعي مزدهرا ينتقل الكثير منهم من بيوتهم ويسكنون مزارعهم، وآخرون يدخلون البحر للغوص بحثاً عن اللؤلؤ والمرجان وصيد الأسماك والروبيان. ولم يغفل أهل البستان عن الاهتمام بطلب العلوم والبراعة فيها واكتساب المهارات الصناعية واتقانها وممارسة التجارة بجدارة.
كانت الأسر تسكن في بيوت مبنية من الجص والطين وحجارة البحر وهي حجارة يتم استخراجها من مناجم تسمى مقصات تقع في مناطق معينة من الساحل البحري المحاذي للبستان كما كان البعض يعيش في أكواخ من سعف النخيل تسمى عشش ومفردها عشة ويطلق عليها بيوت العشيش. وفي كل بيت تجد فوق سطحه عريش ينام فيه أهله في فصل الصيف، وكذلك المزارع فهي لا تخلوا من العريش وجمعها عرش ، لكنها من نوع آخر ، فتبنى على مرتفع من الأرض ويكون العريش مفتوح من ثلاثة جوانب من أجل التهوية ومسقوف بسعف النخيل.
كان البستان به جنات معروشات وغير معروشات من الأشجار المثمرة المتنوعة وأشهرها النخيل المتعددة الأصناف والتي كانت تزيد على المليون نخلة تنتج مختلف انواع الرطب (البلح) مثل الماجي والبجيرة والخلاص والخنيزي والحلاو الأبيض والحلاو الأحمر والغرة وغيرها. وتسمى مزارع البستان بالنخيل فالمزرعة عند اهل سعيد تسمى نخلاً وذلك لكثرة النخيل فيها رغم إن هذه المزارع بها أشجار كثيرة تنتج بغزارة ثمار متنوعة من الفواكه والخضروات. فمن الفواكه الرمان والبوبي واللوز وتسمى شجرته قضب والبمبر والكنار والكعك والتوت والتين والموز والعنب والبطيخ والجراميز.
ومن الخضروات الليمون والررانج والترنج والبصل والطروح والطماطم الذي قل أن تجد في الدنيا مثيلاَ لجودته وحلاوته وينتج في أرض ساحلية على طرف البستان الشرقي في الجهة الشمالية منه ومن الخضروات الجيدة التي قل أن تجدها في أماكن أخرى البامية ذو اللون الأخضر الفاتح الصغير الحجم السريع الطهو ومن الحشائش الكزبرة والحندبان والرويد (الكراث) والبقل. وكما كانت بعض أراضي البستان تنتج الأرز ويسمونه العيش لأنه مادة اساسية لقوت معيشتهم وكانت هذه المنتجات تكفي حاجة اهل البستان ويصدر الى الخارج ما زاد منها وبخاصة الليمون والتمر والدبس فكان ذلك مصدر للعملة الصعبة التي كانت بها تدفع الضرائب وتعمر بها المساكن وتمهد بها الطرقات وتصان بها ينابيع المياه. يقول سعيد انه كان بإمكان حصاد نصف مليون ليمونة في بضعة أيام من نخل الهمال وتصديرها تلبية للطلبات السريعة. كما كان في البستان كثيراً من شجر النوام الذي ليس به ثمار لكن اغصانه تستخدم لصنع الخيزران.
وكان للبستان نظام ري متقن يضمن توفير الماء لجميع النخيل وذلك بتحديد مصدر الماء ووقت السقاية والزمن المخصص للري لينال كل نخل حصته بعدالة. اما مصدر الماء فهو العيون الكثيرة التي ينعم بها البستان وهي ذات منابع طبيعية يخرج منها الماء ارتوازيا بضغطه الطبيعي. وتشكل المياه الخارجة من هذه الينابيع شبكة من قنوات وجداول للمياه كالأنهار لوفرة المياه فيها والسرعة الشديدة لتدفقها وهذه الأنهار تجري طوال العام وينتهي الفائض منها وهو كثير الى البحر ويحسب سعيد إن هذه المياه كانت تجري لآلاف من السنين خلت دون كلل أو ملل وكأنها سرمدية. اما في البيوت فتحفر آبار ماء سطحية تسمى الواحدة منها رچية يستخدم ماؤها في الغسيل والسباحة اما مياه الشرب فيجلبها السقاؤون من الينابيع العذبة المنتشرة بين المزارع الى بيوت الميسورين.
ومن العيون الكثيرة التي اشتهر بها البستان عين داروش والعين العودة وعين الربيانة وطيبة واللبانية والوسايع والرواسية وابو لوزة والخباقة والقصير والمربعة والقشورية وأم عمار وغيرهم كثير. ويرتاد أهل البستان هذه العيون بشكل متكرر بعد ان يعلمهم اهلهم السباحة أو يتعلمونها بأنفسهم مع اقرانهم وخاصة في فصل الصيف حيث يرتادونها بشكل شبه يومي فيذهبون إليها في جماعات ويقطعون مسافات بعضها يتعدى بضع كيلومترات وهم ما زالوا في سن مبكرة ، وفي كل يوم من أيام الصيف يختارون عينا يقصدونها وتكون بهجتهم أكبر كلما كانت العين اوسع لان السباحة في العيون الكبيرة علامة من علامات قوتهم البدنية مما يكسبهم الثقة بأنفسهم.
ويتفنن الصبية والشباب في اساليب السباحة فيسبحون تارة على الظهر وتارة أخرى على البطن أوبطريقة التجديف او بسباحة الضفدعة ويستمدون من ذلك متعة وبهجة وقوة، وكانوا كذلك يتفننون في أساليب النط من أماكن مرتفعة الى وسط العين ، فمن النط (والمفرد نطة) ما يسمى رواسي وهو النزول الى الماء على الرأس او نطة القلة وهو القفز في الهواء والتقرفص ليكون النزول في الماء على شكل قلة تمر. وهناك القفز بالتشقلب وهو ان يقفز الطاب في الماء من مكان مرتفع ويشقلب نفسه في الهواء وهو طائر لينزل في الماء وهو متكوم على نفسه ، وهي قفزة فيها الكثير من الإبداع وتحتاج الى مهارات ولياقة بدنية ، وهي مجال للتنافس بين الشباب لإستعراض المهارات. يقول سعيد ان أجمل ايام طفولته هي تلك الأيام التي قضاها في العيون بين المزارع ، وهكذا كان كل أقرانه ، أوليس هناك ثلاثة أشياء يذهبن الحزن، الخضرة والماء والوجه الحسن وهي ما كان يوفرها البستان لسعيد وأهله الذين استمتعوا بالحياة في احضان طبيعته.
وكانت بعض من هذه العيون تخصص للنساء فقط واللاّتي كن في أغلبهن يجدن السباحة تماما كما الرجال. كما يوجد بالقرب من معظم هذه العيون برك سباحة صغيرة وضحلة متصلة بالعيون العميقة عن طريق قنوات يمكن التحكم بكميات المياة المتدفقة من خلالها وهي عادة مخصصة للأطفال كي يتعلمون السباحة ويجيدون فنونها تحت إشراف ذويهم. وقد اتخذ أهل البستان بعض من هذه العيون منتجعات للإستجمام وأقيمت عليها مباني على طراز معماري رائع وعادة ما يقصد هذه العيون كبار السن من الرجال كما كان فيها قسم مماثل للنساء.
ولمصارف المياه من العيون مسميات فمنها ما يسمى بالسيح ومنها السيبة ومنها ما يسمى بالضلع ومنها الخرارة وتتكاثر في هذه الجداول والقنوات المائية سمك صغير جدا يسمى حراسين ومفرده حرسون وهو يأكل اليرقات والكائنات المائية الصغيرة فيكفي سكان البستان اداها. كما كانت تعيش في هذه الجداول جعاون ومفردها جعونية وتعني السلحفاة (الغيلم) والتي تعيش الى جانب الضفادع الصغيرة التي تنقنق مع غروب الشمس حيث تهدأ حركة العمل في البستان والنقنقة صوت يفصل بينه مد وترجيع مما يؤنس المزارعين العائدين من كدهم وتعبهم الى سكناهم. وكان صبيان البستان يمقتون الجعونية ويتهمونها بأنها تسبب الحرائق ويصل ببعضهم البُغض لها حد الاعتداء عليها وعلى النقيض فهم يكنون الوُد للضفدع ويظنون انها هي التي تطفيء الحريق الذي تشعله الجعونية. ومن سرعة جريان الماء في القنوات والجداول والمصارف يكون هناك خطر على الأطفال الصغار الذين عادة ما يبدأون تعلم السباحة فيها.
أما من حفر هذه العيون العميقة بأعدادها الكثيرة والتي أعطت الحياة للبستان ولأهله فجعلت له رونقا ولهم من الرزق متسعا، فيقال إن أجداد سعيد الأوائل هم الذين حفروها بأيديهم وقاموا بهيكلتها على الشكل التي كانت عليه ذلك الحين وبما أنه كان عمل جبار والعيون عميقة قالوا إن العمالقة هم الذين حفروها وإلا كيف لبشر عادي أن يحفر مثل هذه العيون بهذه الطريقة الفنية المبدعة بتفاصيل بنائية رائعة يكون عملها تحت الماء أشبه بالمعجزة. ويسمى منبع العين السفلي العميق المتصل بخزانات المياه الجوفية بالتنور وهو عباره عن فتحة صغيرة يخرج منه الماء ومن ثم يتم بناء طبقات من دكك مربعة على ارتفاعات متساوية تتسع كلما ارتفعت عن قعر البئر الى أن تصل لحدها عند سطح الأرض وتكون الطبقات العليا من الدكك على شكل دائري ، وتسمى الدكة العلوية جلف كما يأخذ الشكل الخارجي للعين شكلا دائريا حيث يحيطها جدار مبني. وتختلف مساحة دائرة الأعين من عين لعين فبعضها يكون قطره خمسة أمتار وبعضها 25 مترا والقليل جداً منها ليس له شكل دائري منتظم. وكان في البستان غواصون محترفون يغوصون دون أجهزة غوص ويعتمدون على حبس أنفاسهم وهم يقومون بصيانة هذه العيون دورياً على مدار العام. انهم غواصون اشداء قلما تجد لهم من نظير هذه الأيام. والشباب يقلدون الغواصين بلعبة اسمها المناسم (من نسم) اذ يقومون بالغوص والتنافس للوصول الى أغزر عمق ممكن والبقاء تحت الماء اطول فترة ممكنه ويقول سعيد ان طبلة أحد أذني عمه قد انفجرت في أحد هذه المناسمات وسببت له عجزا فيها.
ويقوم نساء البستان بالإضافة الى أعمال المنزل ورعاية وتربية الأطفال بمساعدة الرجال في كسب الرزق الحلال فهم يساعدون في الأعمال الزراعية والاهتمام بالمنتوجات الجانبية الموسمية كالحشائش الخضراء إضافة الى الاهتمام بتربية الأبقار ويقال أن البقرة عند حلبها تكون أطوع للمرأة منها الى الرجل كما تشرف النساء على تربية الدجاج وإنتاج البيض ويشاركون في عملية البيع بل هم من يقومون بأخذ البيض والحليب الى السوق وبيعه كما يبيعون الحشائش وبعض المنتوجات الزراعية.
اما الأغنام من نعاج وماعز وهي ما تسمى في البستان بالصخلة فتكون رعايتها موكلة للصغار الذين يأنسون بها. وتنتج مزارع البستان “الگت” وهو الغداء المفضل للأبقار والأغنام بكميات تجارية وقد خصصت له سوق يباع فيها وتسمى سوق الكت او الجت حسب اختلاف لهجات أهل البستان لأن هناك الكثير ممن يقوم بتربية الأبقار خارج المزارع وفي زرائب أي حظائر كبيرة مخصصة او في أحواش البيوت. المهم, يقول سعيد, إن اللحوم والدجاج والبيض والحليب بمشتقاته من لبن وروب وزبدة يتم توفيرها جميعاً بإنتاج محلي في مختلف مناطق البستان.
ولما كانت أطراف البستان متباعدة وكانت سبل التنقل مقتصرة على المشي أو استخدام الحمير كان هناك اهتمام للعناية بالحمير في البستان وهي وسيلة النقل الرئيسية دون منازع فتستخدم الأتان وهي انثى الحمار في تنقل الأشخاص رفيعي الشأن وأصحاب المكانة المرموقة اما الحمار فيستخدم للنقل بشكل رئيسي. ولذلك كان هناك في البستان الحمير القوية التي تجر العربات المحملة بالبضائع الثقيلة ويشتغل في هذه المهنة اناس متخصصون ومتفرغون وهي تماثل في أهميتها الى حد كبير سيارات النقل التي تستخدم هذه الأيام. وبعض الحمير أو الأتن يوضع عليها مراحل تتدلى على جانبيها ، والمرحلة هي وعاء كبير مصنوع من خوص سعف النخيل. ويمتاز الحمار بذكائه ويقوم المدَرب منها بإيصال البضاعة الى أماكنها دون مرافقة من صاحبه. اما تربية الخيول واستخدامها في البستان فكانت محدودة وكانت في البستان براحة تسمى براحة الخيل.
ومن جدوع النخيل يتم بناء سقوف المنازل ومن جريدها تُصنع الأسرة والكراسي والمناز ومن خوصها تُصنع الحصر والسلال ، فبالإضافة إلى ما تعطيهم النخلة من غداء فهي تساهم في بناء البيت وصناعة كل الأثاث الذي يحتاجه البيت. وكان للبستان نصيب وافر من الصناعة المهنية اليدوية ومنها الحدادة والصفارة والقفاصة والغراشة والجراشة والجزافة.
ولغزارة الإنتاج من مختلف مزارع البستان بكميات تجارية كبيرة ولأن البستان كان يمتد على مساحة جغرافية واسعة لم يكن بالإمكان لهم التبادل التجاري لمنتوجاتهم بشكل يومي فاتخذوا لهم سوقا أسبوعية وجعلوا ذلك في يوم الخميس حيث يجتمعون فيها يبيعون ويشترون ويتبادلون المنافع. وبالإضافة الى سوق الخميس هناك سوق يومية مفتوحة وكان إسمها الجبلة يمارسون فيه تجارة الأغنام والأبقار والسمن البري وتكون محطة للجمال القادمة من سائر البلدان والتي تجلب البضائع للبستان، كما بنى اهل البستان لهم سوقاً سموها السكة وهي عبارة عن سطرين من الدكاكين المتقابلة بينهم ممر بعرض يقارب الخمسة أمتار ويبلغ طول السكة نحو ٣٠٠ متر حيث تمارس فيها التجارة الرسمية الثابتة طوال النهار وعلى مدار الأسبوع.
ولما كان البستان بحاجة لممارسة التصدير والاستيراد اتخذ أصحاب البستان لهم مرفأ على ساحل البحر وكانوا يستخدمون هذا المرفأ أيضا للسفر الى البساتين التي تقع في أطراف أخرى من الساحل ووسط البحر. كما إن الموقع الساحلي للبستان مكن أهله من العمل في صيد الأسماك وتوفيرها كمصدر غدائي مهم وكذلك العمل في مهنة الغوص للحصول على اللؤلؤ وهي تجارة توفر المال لأهل البستان وجعلت من بعضهم أثرياء مما كان عاملاً مساعدا في ازدهار تجارتهم.
ورغم عمليات التصدير والاستيراد الا أن الحياة الاقتصادية للبستان كانت ذاتية ومستقلة فهي ان لم تعطي لم تأخذ. وكان اهل البستان يعتمدون على انفسهم في طبهم وعلمهم ومعالجة امورهم الاجتماعية لكنهم عانوا كثيراً من هجمات المشاكسين من القاطنين خارج البستان وخاصة في حالات الجوع والقحط التي تنتابهم بين فترة وأخرى لشحة هطول الامطار فيهجمون على أطراف البستان ويقطعون السبيل على مريديه والخارجين منه فيجلبون القلق لأهل البستان الوادعين ويشغلونهم عن ممارسة أعمالهم من زراعة وتجارة وطلب العلم ويجبرونهم على المواجهة وقد تعامل اهل البستان مع هذه الحالة الأمنية بتعقل في جميع الحالات، لكن أحيانا تتفاقم المشاكل بين الحين والأخر وقد تطول أحياناً وتقصر مرات أخرى وقد أدت هذه المشاكسات في بعض الأحيان الى القتال والحصار وخلفت ورائها بعض الأيتام. في كثير من الأحيان عمد اهالي البستان على إبرام صلح للتخفيف من هذه الحالات، وللوقاية من هجمات المشاكسين المفاجئة والغادرة كان أهل البستان يبنون بيوتهم متراصة وتكون المداخل الى قلب التجمعات السكنية محدودة ويمكن إغلاقها. كما تفننوا في بناء المداخل والطرقات والأسوار والأبراج للحد من مفاجئات المشاكسين الغادرة ومقاومة الهجمات والدفاع عن أنفسهم.
وكما كان للبستان نظامه الزراعي والاقتصادي كان له نظام اجتماعي قوي ساهم في جعل البستان منعما بالسلام والأمن الداخلي فلم يعرف مجتمع البستان العنف القاتل الا في حالات معدودة شاذة اما الطابع العام فهو المحبة والسلام فلقد كان لكل أسرة من أسر البستان عمدة يهتم بمصالحهم ورجال وشخصيات يتواصلون ويتفاهمون وينسقون مع باقي رجال الأسر الأخرى ليتخذوا القرارات الصعبة في المواجهة والمصالحة وترتيب الأمور المعيشية. كما إتخذ أهالي البستان لهم مقاهي يجتمعون فيها ويحتسون الشاي والقهوة ويتناولون أطراف الأحاديث المختلفة ويستمعون القصص ويتبادلون الأفكار وكان من المشهور عن أهالي البستان حبهم لفعل الخير فقد أوقفوا الكثير من نخيلهم ومزارعهم وبعض من بيوتهم وأملاكهم للأعمال الخيرية للصرف على الفقراء وتمهيد الطرقات وصيانة العيون وقنوات الزراعة المائية. وكما أفاد سعيد أن أحدهم اوقف أرض زراعية كبيرة خصصها للفقراء من أهل ناحيته يعملون فيا ويسترزقون من انتاجها.
وقد اهتم اهل البستان بالعلم فتخصص البعض منهم كرجال دين ومعلمين ومعلمات لتعليم الصبيان القرآن والحساب ، أما الفتيات فيتعلمن القرآن ومنهن من يواصل دراسة الفخري الذي يمكن مقارنة من يختمه كمن يحمل الماجستير هذه الأيام من الناحية الاجتماعية. ومن الرجال من يواصل تعليمه لتحصيل العلوم ، والبعض منهم تعلم فنون الطب القديم وتحضير الأدوية فكان منهم الأطباء المشهورين وصانعي الأدوية والحواجين الذين هم بمثابة صيادلة هذا الزمن ، فكان أهل البستان يصنعون ادويتهم بأنفسهم من الحشائش والحبوب ويستخدمون التقطير لاستخراج موادها على شكل مشروب كالزموتة والمرقدوش وكانوا يتداووا بالحيج وهو شوك ينبت على أطراف جداول المياه العذبة الكثيرة حيث يستخدم بعد تقطيره لعلاج ابو صفار عند الكبار، اما ابو صفار عند الأطفال حديثي الولادة فيعالج باستخدام خيار الشمبر.
كما استخدم أهل البستان الكي لأنواع معينة من الأمراض مثل ابو جليجل وهو التهاب يصيب لسان الأطفال حيث يتم كي الطفل في الجزء الخلفي من رقبته كما استخدم الكي لعلاج بعض امراض الأعصاب وأوجاع الظهر وكان يوجد في البستان الكثير من المراخين الذين يجبرون الكسور ويعالجون اللوتة واللية ووجع الرقبة والخولنج ، والمراخ هو عبارة عن تدليك ببصيرة للأجزاء المصابة في جسم الأنسان وكان اغلب المراخين يعالجون دون مقابل ولم يقتصر المراخ على الرجال بل كان هناك الكثير من المراخات الشهيرات البارعات. كما كانت حليبة الحمارة تستخدم في علاج الگزوزو وهو مرض سعال مزمن يصيب الأطفال ويقال إن حليبة الأتان هي أقرب نوع من أنواع الحليب لحليب المرأة كما يستخدم ايضا حليب الماعز لتغذية الرضع من الأطفال في حال قصور حليب أمهم.
واشتهر أهل البستان بكثرة الأدباء والشعراء المتميزين منذ عهد طرفة ابن العبد وكان منهم الدعاة الذين يجيبون البلدان لنشر العلم والإصلاح والقضاة الذين يرجع إليهم الحكام للفصل في الخصام كما اشتهر اهل البستان بصناعة الرماح وفي اهله من الشجعان ما تغنى به الفرسان.
وتركن عنتر لا يقاتل بعدها أهل (البستان) قتال خيل تنقع
وقول آخر:
نصحت لعبد القيس يوم (بستانها) وما خير نصح قيل لم يُتَقَبَّلِ
فقد كان في أهل (البستان) فوارسٌ حماة إذا ما الخيل شدت بيذبل
وعاش سعيد عمر مديد في البستان الجميل مع أهله وأحبابه راضين قانعين الى أن لمع بريق الذهب فاتبعوا أثره دون إدراك لما سيكون عليه مصير بستانهم الذي ورثوه عن اجدادهم وعاشوا فيه بين الخضرة والماء والوجه الحسن والجو اللطيف وتنعم فيه أجيال وأجيال بحياة هادئة هنيئة لآلاف من السنين خلت ، فمردود الذهب أوفر وأسهل وأسرع وأريح من عمل البستنة فترك البستانَ أهله وانصرفوا عنه فلم تعد هناك ضفادع تنقنق عند المساء تحيي مزارعيه ، ولا غواصون يتأكدون من سلامة تنانير ينابيعه ، فغارت مياه العيون وجفت ، وتصحرت أرض البستان وتباعد الناس وتفرقوا وحلت محل الأشجار والنخيل والثمار كتل أسمنتية من البيوت التي ما زالت تتمدد لتسحق ما تبقى من ارض البستان الذي جرد من بديع خضرة أرضه وزرقة مائه وصفاء سمائه ولم يبقى له الا محبة أهله.
أدرك سعيد ما جرى وعايش ما تعرض له البستان الذي أعطاه كل شيء، أعطاه الحب والود والصفاء وتمنى لو أن هذا البستان بقي ولو بشيء من بقاياه لتنعم بجماله وروعته الأجيال اللاحقة ويتمتعون بخضرته النضرة وعيونه النباعة وبحره الهادئ ويشاهدون في ليلهم بريق نجومه. ولكن تبقى أرض البستان طيبة لإنها أرض سلام ومحبة. ويبقى البستان بستان خير ورفاهية وعطاء غير محدود بجهود أبنائه وكما قال فيه شاعره:
هذي بلادي وهي ماضٍ عامرٌ
مجداً وآتٍ ـ بالمشيئة ـ أعمرُ
ألقى عصاه على فسيح ضفافها
وعلى الجزائر عالم متحضــرُ
وأذلّت التيار تحت شراعها
فلها عليهِ تحكّمٌ وتأمّـرُ
والنخلُ وارفة الظلال كأنها
جيشٌ كثيفٌ بالخليج معسكرُ
تُهدي لها الصحراء في السحر الصبا
فتمر كالحلم اللذيذ وتخطــرُ
والبحر يهديها اللآلىء زينة
وتجارة فيها الغنى يتوفر
وكصفحة المرآة جو مشرقٌ
وكلوحة الفنان ريفٌ مُزهرُ
مصادر الصور:
- الأستاذ علي ابو الليرات
- الأستاذ عبد الرسول الغريافي
- موقع واحة القطيف
- www.wikiwand.com
- www.alghat.com
- www.Jhaina.com
إسمح لي أقول شكراً أخ علي على جهدك الرائع في توصيفك الدقيق لديرة الأجداد. مرة أخرى أخذتنا معك في رحلة عبر الزمن. بارك الله فيك.
عمل بديع استاذ علي وتوثيق جيد للحياة الاجتماعية والبيئية لواحة القطيف كما ان الصور جدا رائع . شكرا لهذا القلم المبدع
مقال رائع وفيه كم وفير من المعلومات القيمة وحديث شيق وكلمات رقيقة وصادقة
وكأنك يا أبا حسن تعرض فيلم وثائقي بالشرح الموسع والتفصيل الدقيق
دمت رائعا وموفقا وإلى المزيد إن شاء الله من الإبداع
عمل موسوعي مختصر ورائع جداً. جهد مشكور لأبي حسن واكتمل بالمعلومات الوفرة والصور الجميلة.
الاخ والصديق الأستاذ علي لقد كتبت وابدعت في الوصف أبدعت ماكتبته وذكرته أرجع ذاكرتنا الجميلة عن الحقبة الجميلة بكل مافيها خليتنا نشم ريحة التراب الذي كنا نمشي عليه في الطرقات والصوابيط منذ نعومة أظفارنا إلى أن وصلنا مرحلة الشباب….ذكريات جميلة…شكرا لك
ابو حسن . احسنت صنعا في توثيق الماضي الجميل الذي عشناه ايام الصبا . فبدلا من ان نحدث ابنائنا عما كانت عليه الحياة الجميله البسيطه التي توصف بحياة الناس الاجتماعيه . وثقتها باسلوب شيق وجميل وشامل . ولو طبعتها في كتيب ليباع في المكتبات للحفظ .. لانه تاريخ قيم لفترة طويله وجميله عشناها .. فقط عند الطباعه تحتاج لاخراج ووضع عناوين لكل حاله . اختيار الصور كان رائعا .. وفقك الله لهذا المجهود القيم والرائع ..
لم اتخيل ابا حسن وأنت أخ كبير وعزيز أنك بارع في سرد تاريخي جميل وباسلوب سلس لذلك أشد على يدك بأن تواصل هذا العطاء الجميل في الكتابه. وأن تتحفنا بمواضيع أخرى جميله تلامس مخيلتنا الماضيه والحاضره أسأل الله لك التوفيق وشكرا ابا حسن.
حياة جميله هي القطيف الواحه التي تعد من أروع الواحات هي أرض الخير والعطاء وفعلاً أبدعت في نشر صفحات من أرض النخيل وكل جميل فشكراً موصول على هذا الجهد (فتى الخط)
أبدعت في تجسيدك الماضي في قصة جميلة بجمال صاحبها واصل يارجل العطاء والإبداع
السلام عليكم استاذي الفاضل شكرا لهذه القصة الرائعة
ممكن استفسار الصورة الثالثة في القصة هل هي من القطيف
نعم في القطيف. شمال التوبي.
وصف سلس ومختصر وعميق لمجتمع القطيف يغطي الجوانب الاجتماعية والثقافية والعمل والمهن والوضع المعيشي .. شكرا لك ابو حسن الأستاذ علي الجشي