اللقاح سيعالج الجانب الصحي للبدن ولكن الآثار النفسية (قليلها أو كثيرها) قد تكون طويلة الإستمرار والبقاء وخاصة إذا تركت وشأنها. لابد أن ينال الجانب النفسي درجة كبيرة من الإهتمام، ومفردة “الجانب النفسي” عامة وأتمنى من خلال أسئلتكم أن نسلط الضوء على جوانب نفسية معينة. أتطلع بإهتمام إلى أسئلتكم ومداخلاتكم.
السؤال السادس عشر:
نشر بعض علماء النفس وعلماء التربية والاجتماع بعض التوصيات لتخفيف حدة الآثار النفسية والاجتماعية السلبية على الناس، ولكن هناك فئات من الناس لا تستطيع تطبيق تلك التوصيات لعدة أسباب ومنها أن هذه التوصيات جديدة، لم يعتادوا على تطبيقها من قبل، أو ليس لديهم القدرة على تطبيقها. فما هي أفضل وسائل رفع مستوى رغبة وحماس هؤلاء الناس لتكون التوصيات جذابة وسهلة التطبيق بالنسبة اليهم؟
***
راجعه: عدنان أحمد الحاجي
مقدمة
نظرية التعلم الإجتماعي (Social Learning Theory) المعروفة والتي مؤداها أن الناس سيغيرون سلوكهم إذا ما توافرت الشروط الثلاثة التالية:
١- الوعي بضرورة تغيير السلوك (نقطة التحول تبدأ من الوعي).
٢- امتلاك الآلية التي تساعد على التغيير.
٣- وجود القدوة التي تجسد السلوك العملي الصحيح.
فئات لا تستطيع تطبيق التوصيات
عدم القدرة على تطبيق توصيات المختصين يستبطن الرغبة في تطبيقها عند هذه الفئة ولكن تنقصهم معرفة الطرق السليمة والواضحة والسهلة حتى يمكنهم الإسترشاد بها. كثير من الكتب العملية، التي تحتوي على توصيات وتعليمات المختصين، تشرح بشكل مفصل وجذاب خطوة بخطوة ما ينبغي على المرء أن يعمله لكي يحد او يتخلص من آثار نفسية أو اجتماعية معينة. فكلما كانت خطوات التطبيق واضحة وسهلة الإتباع (الاسترشاد بها)، كلما تشجع المرء على الأخذ بها وإتباعها.
التوصيات جديدة لم يعتادوا على تطبيقها من قبل
وهذا السبب وثيق الصِّلة بالسبب الأول (عدم الإستطاعة). كل شيء جديد يحتاج الى التعوّد عليه حتى يتراكم رصيدٌ من التجارب، وهذا الرصيد يتنامى ويزدهر، خاصة إذا ما قام الشخص بعملية تقييم تجربته بشكل دوري (نوع من التغذية الاسترجاعية الذاتية self feedback) ومن ثم الإستفادة من دروس التجربة هذه حتى يرتقي بها إلى مستوى أعلى ويستفيد منها في التنفيذ. وهذا العامل أيضا يستبطن الرغبة في التغيير، والذي هو جوهر ومحرك عملية التغيير الذي يدفع الإنسان للبدء في عملية تنفيذ التوصيات العائدة عليه بالنفع نفسيًا واجتماعيًا.
ليس لديهم القدرة على تطبيقها (تنفيذها)
يمكن النظر لهذا السبب من زاوية هذا السؤال: هل عدم القدرة على التطبيق (التنفيذ) يعود لغياب ثقة الإنسان بنفسه أو عدم قدرته على تطبيق (تنفيذ) التوصيات لسبب ما؟ أم إن الثقة موجودة ولكن ينتظر ارشادات واضحة لخطوات سهلة الإتباع والتنفيذ؟ اذا كان عامل الثقة بالنفس متوفرًا، فما على المرء الا أن يبحث عن خطوات تناسب وضعه [المادي، الاجتماعي، البدني، أو النفسي؟] ويدرب نفسه عليها حتى يتقنها. وأما إذا كان السبب هو فقدان ثقته بنفسه على عدم القدرة على اتباع منهج معين يساعده على الأخذ بالتوصيات، فهذا يحتاج إلى بناء الثقة بالنفس أولًا تحت إشراف معالج متخصص في هذا المجال.
أفضل الوسائل لرفع مستوى الرغبة والحماس
هذا السؤال شغل الباحثين والمهتمين في مجال السلوك بحثًا وتمحيصًا وتنقيحًا ، وهناك دراسات لهم ثرية بالإقتراحات والتوصيات نشروها في مظانها، ولكن يحتاج اتباعها وتطبيقها ما أشرنا إليه من وجود سبب وآلية وقدوة على التغير.
وهناك عدة توصيات قد تساعد في خلق الرغبة والحماس ومنها:
١- وجود القدوة يعطي تمثيلاً واضحًا لكيفية اتباع او ترجمة خطوات عملية تغيير ما على ارض الواقع. الاستفادة من تجارب الآخرين، سيما في الشيء الذي نرغب في تعلمه وعمله، يساعد كثيرا في خلق الرغبة والحماس للمبادرة بالإنتقال من فكرة عمل شيء ما إلى البدء بتبنيه والعمل به.
٢- بالإضافة إلى توفير المعلومات التي يحتاجها الإنسان للتغيير، لا بد من إشعال شرارة العاطفة التي تحركه وتجذبه للمبادرة بالعمل. فالمعرفة النظرية بمفردها ليست كافية للإنتقال من الوعي بعمل الشيء إلى تبنيه والبدء في تنفيذه في الخارج (تطبيقه على أرض الواقع)، أو على الأقل القيام بأخذ الخطوات اللازمة للبدء في تنفيذه. من الصعب على الإنسان ترك عمل شيء بعد أن يكوّن علاقة معه أو يرتبط عاطفيًا به.
٣- التركيز على تقدم الشخص التدريجي (progress) تجاه العمل بالتوصيات لأن التقدم ولو بخطوات صغيرة وبشكل بطيء يساعده علي البناء عليه لإحراز خطوات الى الأمام أكثر نحو التنفيذ الكامل للتوصيات. ومن الأفضل أن تكون عملية تغيير السلوك متدرجة ومرحلية وليست مستعجلة وراديكالية. وبعد إحراز الشخص لأي تقدم ملحوظ لا بد أن يوظف الشخص ذلك التقدم في عملية إشعال حماس أكثر عنده.
أحد المهتمين في مجال السيكولوجية الدافعية يقول بأن الأشخاص الذين يحرزون تقدمًا في مجال ما يصرفون وقتًا أطول في التأمل والتفكير فيما أنجزوه قبل أن ينتقلوا الى الخطوة اللاحقة. وهذا يدل على تنامي الثقة لدى الشخص بقدرته على الإنجاز – والثقة من شأنها أن تولد الثقة.
أوصي بقراءة كتاب دان آريلي Dan Ariely بعنوان “غير عقلاني على نحو غير متوقع Predictably Irrational” والذي يذكر فيه بأننا كبشر اذا لم نشعر بالتقدم في عمل شيء ما سنشعر بأن عملنا تافه ولا يستحق الإستمرار فيه وهذا بدوره يقتل الحماسة والرغبة. ٤- التأثير الإيجابي عن طريق طرح أسئلة تساعد الشخص على التأمل في سلوكه وتسمى هذه الطريقة ب Question-Behavior Effect ، وتتلخص هذه الطريقة بطرح أسئلة تحتاج الى الإجابة بنعم أو لا، أي أن الأسئلة ليست على غرار الأسئلة المفتوحة (open-ended) (بما في ذلك أسئلة عن النوايا والتنبؤ بالسلوك المستقبلي وقياس الإنجاز / التقدم، لمعرفة المزيد عن هذه الطريقة، راجع 1). وتستند هذه الإستراتيجية على خلق حالة من التنافر المعرفي (cognitive dissonance، للتعريف راجع 2) يدفع الشخص لعمل شيء لإعادة التوازن. وفي حالة من التنافر المعرفي المؤقت يحس الإنسان بأن سبب الإختلال في التوازن هو بمثابة فجوة بين ذاته الحقيقية وذاته المثالية. الذات المثالية هي ما يطمح الإنسان إلى الوصول اليها، وهذه كافية لدفعه على البحث عن كيف يصل إلى هذه الذات، وهذا بذاته دافع لتغيير السلوك. السؤال السابع عشر:
كيف نفسر أن بعض فئات المجتمع متأثرة سلبًا وبشكل كبير، بينما هناك في الطرف المقابل فئة من المجتمع غير متأثرة نفسيًا على الإطلاق بغض النظر عن مستوى إيمان كل فئة منهما….وبلا شك ان هناك فئات أخرى متعددة متوسطة بين هاتين الفئتين… السؤال كيف نفهم الفئة الأولى المتأثرة سلبًا وما هو العلاج المناسب لها.. والسؤال الثاني: كيف نفهم الفئة الثانية غير المتأثرة نفسيًا من أجل الإستفادة من مستوى تفكيرها؟
***
فئات متأثرة سلبًا
هناك فئات متأثرة نفسيًا /سلبًا ولعدة أسباب منها التوقف عن العمل او خسارة بعض أفراد هذه الفئة لوظائفها وما يترتب على ذلك من مصاعب مادية كبيرة وخاصة لمن لديهم عوائل والتزامات بقروض وغيرها. والبعض متأثر نفسيًا لعدم وجود رصيد من التجارب للتعامل مع وضع فريد مثل هذا الذي فرضته جائحة كرونا على العالم. وسبب آخر يرتبط بعدم قدرة الشخص او عدم وجود رغبة لديه في التكيف او التأقلم مع الوضع الجديد، مما يؤدي إلى مجموعة من المشاعر السلبية كالحزن والقلق والخوف والكآبة ونوبات من الانفعال والغضب.
فئات غير متأثرة
وهناك فئة أخرى نقيض للفئة الأولى تنظر للأزمة بتعقل على أنها حقيقة وواقع ويجب التأقلم معها بحكمة. الأزمة المفاجئة تمحص ما عند الإنسان من رغبة في التعامل مع الأزمة وقدرته على ذلك في ظل التحديات غير المتوقعة سواء الصغيرة منها أو الكبيرة.
فئات بين الفئتين (وسط المسار)
صحيح إن هناك فئة بين الفئة المتأثرة سلبًا والأخرى غير المتأثرة إطلاقًا وقد تعود الأسباب الى ظروف الشخص المعيشية والإجتماعية وتركيبته النفسية.
كيف نفهم الفئة الأولى؟
نفهم الأولى عن طريق معرفة المؤثر (عامل التأثير) السلبي: هل له علاقة بالعامل الإقتصادي والمتمثل بإنحسار الدخل المالي وعدم القدرة على دفع الفواتير الشهرية، أم هي عوامل إجتماعية تتمثل بغياب حلقة عائلية مساندة، او نفسية تتعلق بشخصية الإنسان وطريقة تعامله مع الأزمات: هل التعامل بالمواجهة او بالكر والفر وإلقاء اللوم والتشكي والتذمر، أم ترتبط بعدم ثقة الإنسان في قدرته على التعامل مع أزمة بهذا الحجم والشعور بعدم الجدارة والذي يخلق حالة يأس تنتج عنها كآبة، والتي قد تصل عند البعض الى القناعة بأن لا قيمة في بقائه على قيد الحياة وقد يؤدي به الى محاولة الانتحار.
إذًا ماهو العلاج؟
العلاج نأخذه من طريقة تفكير وتعامل الفئة الثانية التي سأتحدث عنها في النقطة الأخيرة التالية على شكل نقاط.
كيف نفهم الفئة الثانية غير المتأثرة نفسيًا؟ وكيف وماذا نستفيد من مستوى تفكير هذه الفئة؟
الفئة غير المتأثرة سلبًا تتمتع بنظرة إيجابية للحياة غير متجاهلة أو منكرة للتحديات والظروف الصعبة التي تتعرض لها وإنما تنظر للأزمات على أنها تحمل في طياتها فرصًا ذهبيةً لا بد من اقتناصها. أي أن طريقة تفكير هذه الفئة هي إنه على الرغم من الصعوبات والمتاعب التي تسببها الأزمة لها، لا بد أن تبقى صامدةً في وجهها لا تنكسر أو تنثني أمامها وهذا يدل على الهمة والثقة العالية بالقدرة على التعامل مع الظروف القاهرة والضاغطة والإنتصار عليها. و عدم تأثر هذه الفئة سلبًا يعود لأسباب عديدة ومنها:
١- إستقاء المعلومات المفيدة وعدم الإفراط في تلقي الأخبار (تجنب وباء المعلومات infodemics) وذلك بتجنب مشاهدة ومتابعة كل شاردة وواردة تخص هذه الجائحة والتي كثير منها يركز على ما يثير القلق ويؤجج مشاعر الخوف.
٢- النظر إلى الماضي والتجارب الناجحة في التعامل بمرونة مع التحديات التي مر بها الشخص كالكوارث البيئية او الصحية وغيرها.
٣- اللجوء الى الوسائل الترفيهية التي تجدد النشاط والحيوية والفاعلية وعدم الاستسلام بالجلوس مكتوف الأيدي بدون حركة او عمل.
٤- استغلال الوقت واستثماره في القيام بنشاطات وإنجاز أعمال معطلة أو متراكمة من السابق أو جديدة. وعادة ما يمتاز أفراد هذه الفئة بالتعامل مع الوقت بكفاءة والإدارة الحكيمة له.
٥- المحاسبة والمراقبة الذاتية اليومية للإنجازات والنظر بإيجابية لما تم إنجازه.
٦- النظرة الواقعية لما يستطيع الإنسان أن يتحكم به او يسيطر عليه. ليس بإستطاعة الإنسان التلويح بعصا سحرية ليجعل الجائحة تختفي في الحال ولكن يستطيع أن يبقى في البيت ويتبع إرشادات التباعد الإجتماعي والمحافظة على التعليمات الصحية من غسل اليدين بالصابون وممارسة العادات الصحية العامة.
٧- رسم جدول أعمال لكل يوم ووضع أهداف معينة والعمل على إنجازها.
٨- كسب المهارات او الهوايات الجديدة والتي تجعل الإنسان منشغلاً بشيء مفيد ومرغوب فيه.
٩- تطوير طرق التعامل مع التحديات المختلفة اليومية، مما يوسع من نطاق قدرة الشخص على التحكم في الظروف بدلا من أن تتحكم هي فيه وتسيطر عليه.
١٠- اللجوء الى القوى المساندة والداعمة نفسيًا واجتماعًيا من أفراد العائلة والأصدقاء والزملاء.
١١- أن يتذكر الإنسان نعمة من نعم الله عليه كل يوم وذلك كفيل بتطويع اتجاه نظرته الى الإيجابية والشعور بالشكر والحمد على النعم الكثيرة.
١٢- قراءة وتعلم شيء جديد كل يوم.
١٣- التعود على الاسترخاء والتأمل.
١٤- أخذ قسط وافر من النوم والراحة كل يوم/ليلة.
١٥- التعود على الحركة وعدم المكث جالسًا كثيرا. الحركة سواء عن طريق التمارين الرياضية القصيرة او الطويلة تنتج طاقة وراحة وتفرغ أي طاقة سلبية.
١٦- الفصل المعقول والمرن بين واجبات العمل وواجبات البيت لمن يعمل عن بعد من المنزل.
١٧- البحث عن طرق لمساعدة الآخرين بأي طريقة كانت لأن خدمة الآخرين تجلب المسرة للآخرين وللنفس أيضا.
١٨- مكافأة الشخص نفسه بعد إنجاز اعمال اليوم.هذه قائمة طويلة وكل توصية منها لا تتطلب جهدًا كبيرًا لتحقيقها وخاصة بعد أن يبدأ الإنسان ويروض نفسه عليها. القيام بمثل هذه الإعمال وانتهاج هذه النظرة يعتبر أحد المصاديق النشطة للتوكل على الله وترجمة عملية لما نردده دائما من قول “لا حول ولا قوة الا بالله” فمنه نستمد الحول والقوة التي تعيننا على التعامل مع تحديات وصعوبات الحياة.
* أستاذ بجامعة شمال أيوا الأمريكية ومدير المعهد البحثي بمدينة شيكاغو.