تداول البعض من المغردين العرب هذه الأيام عناوين مختلفة حول إصدار الصين عملتها الرقمية التجريبية. والكثير منها امتازت بالتزوير والتحوير لتكون رنانة وجاذبة للآخر. فمنها الذي هز أركان أمريكا، وآخر يقول ان القرار الصيني المفاجئ يهز أركان العالم كله، وسبقهم آخرون في السنة الماضية بالتغريد بعناوين مختلفة، وكان منها: العملة الرقمية الصينية الخطر المالي الحقيقي الذي يخشاه الغرب.
نحن هنا لا ننفي أهمية العملة الرقمية الصينية، ولكن هذا التهويل والمبالغ فيه كثيرا يبعث على الشفقة والاشمئزاز في آن واحد، حيث ذهب بعض المغردون الى تزوير نص مقالات بعض الجرائد المرموقة في الغرب مثل الغارديان البريطانية وجعلها تنطق بالويل والثبور الى ما تؤول اليه الأمور من هذه العملة الصينية الرقمية القادمة.
وعند القراءة للنص الإنجليزي لا تجد أي علاقة بهذه العناوين المزورة ولا بالنص العربي المشوه والمرفق للرابط. ودعني اشارككم باقتباس لأحد النصوص المرفقة لمقال الجارديان: “فاجأت الصين العالم اليوم وقررت إلغاء ربط عملتها بالدولار في معاملات البورصة وقررت التعامل الرسمي (والرابط الرسمي) باليوان الصيني بدلاً من الدولار، وهذه خطوة جريئة ومهمة في تاريخ الصين الاقتصادي. وهذا يعني أن الدولار أصبح غير موجود في التداول الصيني وأن الدولار الأمريكي سوف ينخفض بقوة مقابل اليوان الصيني وقد يؤثر عليه في الأسواق العالمية”. بالإضافة الكثير من النصوص المختلقة للكثير من التغريدات المتناثرة وأتخمت منصات التواصل الاجتماعي. للتنويه: المقال المشار اليه في صحيفة الجارديان كان تحت عنوان: الصين تبدأ تجربة رئيسية لعملتها الرقمية والتي تديرها بنفسها.
والسؤال: هل هي مهمتنا أن نعلق وننقد كلما ينشر من غث في وسائل التواصل الاجتماعي؟ فاذا كان الجواب نعم، فإننا نحتاج الى جيوش من الأقلام لكي تتصدى لهذا الموج الجارف من المعلومات المغلوطة، ولن نستطيع توفير هذا الجيش وإن استطعنا فإننا سوف نستنزف طاقتنا وقدرتنا في مشروعات يكون فيها العلاج أغلى من المرض نفسه. وإذا كان الجواب لا، فلماذا نكتب هذا المقال أصلا؟
ومن أجل الإضاءة على الجواب الأخير ب (لا) هو التالي: وجدت شخصيا من هذه التغريدات المشوهة فرصة سانحة للتعريف ولو باختصار عن العملة الرقمية المشفرة بشكل عام، ثم التوضيح الى أهمية العلاقة بين الصين وامريكا اقتصاديا. وسوف استعرض ذلك في نقاط موجزة هي كالتالي:
أولا – تعريف عام ومختصر جدا عن العملة الرقمية وبعض خصائصها:
- هي عملة رقمية يتم استخدامها وتوزيعها إلكترونيًا، ولا يمكن طباعتها. ويتم انتاجها بواسطة أجهزة كمبيوتر عالية الكفاءة وعبر خوارزميات معقدة.
- هي شبكة لامركزية من نظير إلى نظير (شخص الى شخص)، ولا يوجد مؤسسة أو شخص واحد يسيطر عليها. وتخلو من وسيط أو طرف ثالث في عملية المدفوعات (تحويل الأموال)، وهو البنك.
- وبما أن هذا الطرف الثالث غير موجود، فهو يجعل هذه العملة معفاة من الضرائب، حيث لا تسيطر الحكومة على تنظيمها.
- توفر مستوى أمان عالي لارتفاع درجة التشفير فيها، وهي العملة الوحيدة التي تستخدم كوسيلة أساسية لأوامر الدفع في تقنيات الذكاء الاصطناعي مثل سلاسل الكتل (Blockchain) والسجلات الموزعة التي تستخدم في تداول العملات الرقمية.
- لها الكثير من نقاط القوة ونقاط الضعف، وأيضا الفرص والمخاطر. ونأمل أن نتطرق اليها لاحقا في مقال مستقل.
ثانيا – ما هي خصائص العملة الصينية الرقمية:
- مدعومة من بنك الشعب الصيني (البنك المركزي)، ولها احتياطي من أصول الدولة. وهي مربوطة مباشرة بسعر صرف العملة الوطنية (اليوان). ويعني أن قيمتها معروفة وموجودة، بعكس تلك التي تصدر عن المنصات التجارية والتي يمكن أن تعلن افلاسها نظريا، مما يسبب أضرارا مالية لمن يمتلكها.
- بنك الشعب الصيني سيسمح بتدفق مدفوعات مجهولة المصدر، وسيمنع غسيل الأموال من أجل تحقيق التوازن في المدفوعات المالية، وذلك حسب تصريح نائب مدير إدارة المدفوعات في بنك الشعب الصيني السيد مو تشانغ تشون.
ثالثا – ملخص مختصر للعلاقات التجارية بين الصين وامريكا:
- تعتبر الصين من أكبر المستثمرين في السندات الامريكية، حيث بلغ إجمالي استثمارات الصين في الأوراق المالية الأمريكية ١,٦ تريليون دولار، بزيادة ٦٦،٢ مليار دولار (٤،٣٪) عن مستويات يونيو ٢٠١٧، مما يجعل الصين ثالث أكبر حامل بعد اليابان وجزر كايمان. وذلك حسب تقرير صادر من خدمات البحوث في الكونجرس في أغسطس ٢٠١٩م.
- من جهة أخرى انخفضت استثمارات المستثمرين الصينيين حيث بلغت ٤،٨ مليار دولار فقط في الولايات المتحدة في ٢٠١٨، مقارنة بـ ٢٩ مليار دولار في ٢٠١٧ و ٤٦ مليار دولار في ٢٠١٦، وفقا لبيانات نشرها معهد روديوم جروب للأبحاث.
- السوق الامريكية تمثل أكبر قوة شرائية في العالم، حيث بلغ إجمالي تجارة السلع والخدمات الأمريكية مع الصين ما يقدر بـ ٧٣٧،١ مليار دولار في عام ٢٠١٨. وبلغت الصادرات ١٧٩،٣ مليار دولار، كما بلغت الواردات ٥٥٧،٩ مليار دولار. ومن هذه النتيجة بلغ العجز التجاري للسلع والخدمات الأمريكية مع الصين ٣٧٨،٦ مليار دولار في ٢٠١٨. وذلك حسب تقرير من موقع القسم التجاري للمكتب التنفيذي للرئيس الأمريكي.
وقبل الختام، أحب أن اذكر بهدف المقال الأصلي لصحيفة الغارديان وهو فقط نقل خبرا من الصين في إطلاق عملتها الرقمية في مرحلة تجريبية تشمل أربع مدن رئيسة داخل الصين باسم الرنمينبي وهي أول عملة رقمية يديرها اقتصاد كبير.
وحيث أنها تجريبة وداخل الصين فقط، فالوقت لا زال مبكرا في الحكم عليها. وان نجحت كثيرا فستبقى قيمتها مربوطة بالعملة الوطنية الصينية (اليوان) والتي لم تستطع الى الآن أن تضاهي العملات الأساسية مثل الدولار الأمريكي أو الجنيه البريطاني بالإضافة الى اليورو الأوربي. هذه العملة لن يكون لها تأثيرا كبيرا في النظام النقدي الدولي، وذلك حسب الكثير من آراء المحللين الاقتصاديين.
مما تقدم يتضح لنا أن العملة الصينية الرقمية لن تستطيع منافسة الدولار، كما ليس من مصلحة الصين أن ينخفض قيمة الدولار لأن ذلك سوف يسبب ضررا كبيرا لاستثماراتها ولميزانها التجاري مع أمريكا.
أن تشويه الأخبار والأحداث عبر تزوير العناوين في الإعلام يفقد مصداقية المنصة الاعلامية، وبالتالي يفقد ثقة القارئ، كما أن القارئ العربي لم يعد ساذجاً بعد هذا الانفتاح المعرفي الضخم، بل أن هناك الكثير من القراء العرب من يتقنون لغات أجنبية فلا ينطوي عليهم هذا التحوير والتزوير في الأخبار.
يبدو أن هؤلاء المغردون وقعوا تحت تأثير العاطفة العمياء ضد خصم مزعوم (أمريكا) ومناصرة لصديق مزعوم (الصين)، ونسوا أننا جميعا خارج حلبة المنافسة في ميادين التصنيع، وقد ينطبق علينا المثل الشعبي: كالمستجير من الرمضاء بالنار.