اللقاح سيعالج الجانب الصحي للبدن ولكن الآثار النفسية (قليلها أو كثيرها) قد تكون طويلة الإستمرار والبقاء وخاصة إذا تركت وشأنها. لابد أن ينال الجانب النفسي درجة كبيرة من الإهتمام، ومفردة “الجانب النفسي” عامة وأتمنى من خلال أسئلتكم أن نسلط الضوء على جوانب نفسية معينة. أتطلع بإهتمام إلى أسئلتكم ومداخلاتكم.
السؤال الثالث عشر:
هل تنصح بعض الأشخاص بطلب المساعدة المهنية للحصول على الدعم المناسب أثناء وبعد هذه الحالة الفوضوية… لأن هذا قد يغير الطريقة التي ينظر بها البعض إلى أنفسهم والآخرين والطريقة التي ينظرون بها إلى العالم مما سيؤدي إلى استجواب الذات؟
***
مقدمة
الطلب للرعاية الصحية ارتفع بشكل ملحوظ في أنحاء العالم. أحد الإستطلاعات في أميركا أشار الى إن ٣٥٪ من الأميركان ذكروا بأن حالتهم النفسية بدأت بالإنحدار منذ اعلان الحالات الاولى من الإصابات بفيروس كرونا. وهناك إحصائيات تشير الى تزايد نسبة حالات الكآبة واضطرابات الخوف وهذه اذا تفاقمت وأهملت قد تساهم في رفع مستوى خطر الإنتحار. أحد الكتاب في هذا المجال ذكر بأن “الناس في بلدنا (امريكا) في عزلة اجتماعية والكثير يملكون سلاح وهذا مزيج مقلق”. إضافة لذلك هناك إرتفاع في شراء وإستهلاك المشروبات الكحولية واستخدام المخدرات كوسائل للتعامل مع ضغوط العزلة والظروف الصعبة الناجمة عن الجائحة.
وارتفاع عدد الحالات التي تتطلب العلاج النفسي والنفساني أعطى فرصة ذهبية لكثير من العيادات والمستشفيات التي توفر خدمة المعالجة عن بعد (teletherapy and telepsychiatry). أحد الشركات المتخصصة في تقديم الخدمات النفسية ومقرها في سان فرانسيسكو أسمها Ginger (مزاجها زنجبيلا)، ارتفع عدد المستفيدين من خدماتها الى ٥٠ بالمئة. ويستغرق وقت الإنتظار للتحدث مع معالج من ٥ إلى ٩ ساعات، وهذا وقت انتظار قصير جدا مقارنة بالمواعيد العادية – وجه لوجه.
كيف نعرف إذا الشخص يحتاج الى مساعدة مهنية؟
من أعراض الضغط النفسي التي قد نلاحظها او يلاحظها الشخص في نفسه هي:
١- قلق وخوف مفرط لدى الفرد على صحته وصحة افراد أسرته.
٢- تغير ملحوظ في النوم والأكل.
٣- صعوبة في النوم والتركيز.
٤- تفاقم الحالة الطبية الموجودة عند الشخص قبل الجائحة.
٥- تدهور في الحالة النفسية (اضطراب وخوف وقلق نفسي).
٦- احتمالية ارتفاع تعاطي الكحول والتبغ وغيرها من الامور التي يعتبرها الشخص مهدئة وتساعد على الهروب المؤقت من الضغط النفسي.
المساعدة المهنية والدعم المناسب
في عالم الصحة النفسية، هناك شيئان يعتمد عليهم في عملية تقييم أولي لاحتياج الشخص للعلاج، وهما: السلامة والقدرة والرغبة على ممارسة الأمور اليومية (Function & Safety). بالنسبة للمقياس الأول، الأسئلة تركز على الشخص وهو ينهض من المنام, هل لديه جدول او خطة لليوم، هل يستعد للبس لباس آخر غير لباس النوم، اذا كان الشخص يعمل عن بعد، هل يستطيع اداء مهمات عمله؟ وأما بالنسبة للمقياس الآخر (عامل السلامة) فهو يركز على الشخص فيما لو يفكر في إيذاء نفسه, تعاطي كحوليات او مواد مخدرة، او يفكر ولديه خطة للموت عن طريق الإنتحار. وهناك درجات صغرى وقصوى في عامل السلامة وعامل الرغبة والقدرة على القيام بالأمور اليومية المعتادة.والمعالج النفسي يركز على تحديد مستوى السلامة.
بشكل عام، الإستشارة والمساعدة المهنية (professional help) إذا لم تعطي فائدة فإنها (أغلب الأحيان) لا تضر. فاللجوء الى الحصول على المساعدة المهنية سيساعد الفرد على فهم حالته وتوسعة خيارات التعامل معها. في كثير من الأحيان، البوح بمشاعر الضغط والقلق والخوف بحد ذاته يجلب راحة نفسية. المشاعر المحتبسة والضاغطة والمهيمنة تجد متنفسا لها في جو اللقاء مع المعالج.
المساعدة قد تغير النظرة الى النفس والآخرين
بالفعل، المساعدة المهنية من معالج حاذق وماهر له ايجابيات كثيرة والتي منها ما ذكر في السؤال عن تغير نظرة الشخص لنفسه وللآخرين. نظرته لنفسه على أن قدرته على تحمل الضغط والحالة النفسية وصلت الى أدنى مستوى ولا بد في هذه الحالة الإستعانة بمن هو خبير في إعطاء الوصفة والتوصيات التي تمكنه من التأقلم والتعامل بثقة مع الظروف الضاغطة. ومع العلاج النفسي، نظرة الشخص لنفسه تبدأ بالتدرج نحو الإيجابية والتفاؤل وهذا ينعكس لرؤيته للناس وللعالم من حوله – مصداق ل”كن جميلا ترى الوجود جميلا”. وهناك العديد من الكتب التي كتبت عن الدور الكبير للنظرة الإيجابية على السعادة ومشاعر الرضا.
المساعدة قد تؤدي لإستجواب الذات
المساعدة النفسية عادة ما تركز على إعطاء الفرد الفرصة لإكتساب مهارات في التعامل مع الضغوط الخارجية وهذه المهارات التي يتعلمها الشخص تتحول مع مرور الوقت الى ملكات او سلوك تلقائي يستعمله الإنسان في التعاطي مع ظروف وتقلبات الحياة.
السؤال الرابع عشر:
هل من المتوقع تزايد حالات الوسواس القهري والخوف من الجراثيم والفيروسات نتيجة هذا الوباء؟ وكيف يمكن التعامل معها كأفراد أو كمختصين؟
تمت الإجابة عليه في الحلقة رقم 6 ، وتجده على الرابط التالي:
السؤال الخامس عشر:
لماذ بعض التوصيات من الدوائر الصحية والأمنية للإلتزام بالإجراءات الحكومية لا ترغب في تطبيقها فئات معينة من الناس ولا يكترثون بها إطلاقا، حتى ان بعضهم خرج للشوارع متمردا في بعض البلدان. قسم من هذه الفئات دافعها سياسي او اقتصادي، ولكن بعض هذه الفئات دافعها ديني حيث يظنون ان الله سوف يحميهم وهؤلاء من مختلف الديانات والايدلوجيات…. فكيف نفهم هذه الفئات وكيف نتعامل معها؟
***
التمرد على التوصيات
التمرد يعكس الرد الطبيعي لدى الإنسان حينما يشعر بفقدان حرية من حرياته التي يعتبره من المسلمات. ولهذا سمعنا عن حالات تمرد وعدم التزام بالقوانين الصحية والأمنية والتي أدت الى الحكومات في كل الدول لضبط الغير منضبطين لضمان سلامتهم وسلامة الآخرين. وعملية الحجر او قوانين التباعد الإجتماعي ومنع التجمهر كان بسبب سرعة انتشار الفيروس المباغت ومحدودية القدرة الاستيعابية للمستشفيات والعيادات الطبية فضلا عن ندرة الفحوصات الخاصة للجائحة وعدم توفر ما يمكن المرء استخدامه ليقي نفسه من خطر الإصابة.
ولكن بعد أسابيع من التعاطي مع الإصابات وحالات الوفاة والتعلم السريع من التجارب اليومية للعاملين في القطاع الصحي والوصول الى درجة من الطاقة الاستيعابية ووجود ما يكفي من الفحوصات وبعد توقف عجلة الإقتصاد وتجلي تداعياتها السلبية على الأفراد والشركات، تعالى نداء الناس لرفع الحضر لكي تعود الناس الى أعمالها لكسب قوت يومها.
الدوافع: السياسية والإقتصادية
نعم هناك دوافع سياسية وقوية أيضا. رأينا مثلا هنا في أمريكا ان الرئيس ترامب عندما أعلن بأنه هو الوحيد الذي لديه السلطة لرفع الحضر أو إبقائه وكيف إن هذا الإعلان لاقى سخط كبير وخاصة من حكام الولايات وفي مقدمتهم حاكم ولاية نيويورك والذي لمع نجمه وزاد من إعجاب الناس بقدرته على إدارة الأزمة بتعقل وبحكمة وشجاعة. وردود فعل حكام الولايات وضغوط من السياسيين أجبر الرئيس ترامب على التراجع وترك الأمر لحكام الولايات لإتخاذ القرار بتوقيت وكيفية رفع الحضر. ولكن طبع ترامب الإنتقامي ممن يجرأون على مسائلته دعته لإطلاق عبارات استفزازية مثل “حرروا الناس”، “الحرية فوق الإستبدادية” وغير ذلك من العبارات التي تعودنا على سماعها من هذا الرئيس. كلام ترامب لاقى صدى عند مؤيديه من الجمهوريين والذين بدأوا بالمظاهرات والمطالبة برفع الحضر. ومن بين هؤلاء المتظاهرون أناس إشتركوا بدوافع ليست سياسية وإنما إقتصادية. وأحد المتظاهرين قال: “لا أدري ما أستطيع عمله. لا أستطيع دفع قسط بيتي وسيارتي الشهري، وإذا خسرت إحداهما ستكون حياتي وحياة عائلتي سيئة جدا. ولهذا قررت أن أخالف الحضر وسأحاربه من أجل كسب معيشتي ومعيشة عائلتي حتى لو أدى ذلك الى خطر على حياتي أوعلى حياة الآخرين”.
الدافع الديني
وهذا هو أكبر دافع معقد من كل الدوافع التي دفعت الناس لرفع صوتها عاليا طالبة رفع الحضر وعدم التعرض او الإعتداء على الحريات التي سنها الدستور. وتمرد البعض من أتباع الديانات (والإيديولوجيات) له جانب عَقدي يتلخص بالإعتقاد بأن الجائحة أمر وقدر من الله وأنه لا يجوز لنا التعدي على إرادة الله، فلنخرج ونؤدي طقوسنا في دور عبادتنا والله سيحمينا، وإذا كانت إرادة الله لنا أن نمرض أو نموت فلا اعتراض على ذلك.
والجانب الآخر هو شعور هذه الجماعات بأن اعتقادها وحريتها الدينية تتعرض للإنتهاك من قبل الدولة وهذا وضعهم في نقطة تصادم مع حكومات بلادهم. حتى إن قسيسا من ولاية فرجينيا اشتهر في الإعلام بتمرده الصارخ وسمعنا بعدها بوفاته بسبب فيروس كرونا.
كيف نفهم هذه الفئات
لفهم هؤلاء وتصرفاتهم يحتاج الى فهم طريقة فهمهم لتعاليمهم الدينية. وهذا يأخذنا الى الوقوف بحيرة أمام ما نراه من تصرف مجنون ومجازف بحياتهم وحياة الآخرين وهذا خرق الى التعاليم الدينية التي تركز على قدسية النفس وضرورة الحفاظ عليها من الأخطار. الفهم المتطرف للمعتقد ينتج سلوكيات متطرفة وخطيرة على الفرد وعلى المجتمع – وفي أزمة كرونا الخطر يتعدى الفرد والمجموعة ويكون خطرا على الإنسانية.
كيف نتعامل معها؟
كأفراد، يجب أن نبتعد عن من نراه متمردا وغير متقيد وغير مكترث وواع بأن سلوكه خطر على الآخرين. التعاليم والإرشادات الأولى التي ركز عليها المسؤولون هو أن نتعامل عَلى أننا مصابون وعلى أن الآخرين مصابون بكرونا وهذا يجعلنا نتوخى الحيطة والحذر لنقي أنفسنا وأهالينا والآخرين من خطر التعرض للإصابة.
على المستوى العام، لا بد للجهات الحكومية أن تقوم بكل التدابير لمنع المتمردون وعدم اعطائهم الفرصة لتعريض الآخرين للخطر. وهذا ما قامت به الحكومات في معظم دول العالم.
المسؤولية ايضا تقع بدرجة كبيرة على من لديهم السلطة الدينية للتعقل وتغليب الحياة والصحة على المرض والموت. ولكن للأسف زعماء التطرّف يعملون بقاعدة “نعمل ما يمليه علينا اعتقادنا حتى لو أودى ذلك بحياتنا وحياة الآخرين!” ، يالها من مصيبة!!!
* أستاذ بجامعة شمال أيوا الأمريكية ومدير المعهد البحثي بمدينة شيكاغو.