كان والدي رحمه الله يوقظنا قبل الفجر لتناول السحور طيلة شهر رمضان. كان سحورنا يتكون من الرز الأبيض والروب ولم يكن ذاك الروب كروب هذه الأيام الأصطناعي إنما كان روباً حقيقيا من الحليب الطازج الطبيعي الذي تنتجه أم سعيد كل يوم في مزرعتها التي تربي فيها الأبقار وتعلفها علفًا طبيعياً من الگت (البرسيم) والأعلاف الطبيعية الأخرى.
نقوم بوضع الحليب الطازج في إناء معدني دون أية إضافات ويكون إرتفاع الحليب في الإناء لا يتعدى سبعة سنتيمترات ونغطيه بقماش رقيق ويترك في مكان درجة حرارته معتدله بالقرب من التنور ، والتنور في ذلك الوقت يطلق على مكان الطبخ حيث أن استخدام كلمة المطبخ كلمة حديثة نوعاً ما في مجتمعنا أتت مع الرفاهية وتخصيص غرفة أو جزء معتبر من البيت للطبخ مرتب بطريقة جيدة وفيه مخازن ودواليب، أما في الماضي فأغلب البيوت كانت تتخذ زاوية من البيت للطبخ فيها وعادة ما تكون تحت كَسرة الدرج وكان الطبخ يتم باستخدام السچم والكرب والسعف اليابس والخوص وبقايا الأخشاب من الوقود الصلب.بعد ذلك أتى استخدام القاز (الكيروسين) حيث كان يتم استخدامه في الدافور والچولة وأم الفتل وهي انواع من المواقد تستخدم للطبخ. بعد ذلك أتى استخدام الغاز او البوتوقاز الذي كان يباع في نقاط توزيع محددة ويتم إحضاره من قبل البائع بالسيكل (الدراجة الهوائية) الى بيوت ميسوري الحال التي بدأت في استخدامه حيث لم تكن السيارات متوفرة للنقل في ذلك الوقت بكثرة حيث كان عدد السيارات الخاصة (الخصوصي) منها يعد على الأصابع وكانت الناس تعتمد في نقل البضائع على الحمير او العربات التي تجرها الحمير او القواري (العربات) المسطحة التي يجرها الحمالية وهم رجال اصحاب اجسام قوية وعضلات مفتولة وكلهم من ابناء البلد. كما كان الناس في ذلك الوقت يعتمدون في تنقلاتهم على التكاسي (سيارات الاجرة) والتي كانت بأعداد محدودة ايضا واصحابها معدودين ومعروفين ومن أهل البلد. بعد ذلك تطور الوضع ومن ضمن التطورات جاء استخدام الأفران العادية ومن ثم الأفران الكهربائية ذات اللمسات الإلكترونية. إنها طفرة حضارية.
نعود الى روبة سحورنا عند وقت السحور تكون حليبتنا قد رابت فنضعها على العيش الأبيض الحاف. لا أتذكر إنا كنّا نأكلها بملاعق أو خواشيق أو كمچات كم كانت تسمى في ذلك الوقت وإنما كنّا نأكل بأيدينا سواء أكان ذلك الأكل هو العيش والروب أو العيش والمرق في الأيام العادية من السنة.
في منتصف الثمانينات الهجرية من القرن الرابع عشر الهجري او الستينات الميلادية من قرن العشرين كان الجو في رمضان بارد ولم يكن منزلنا محكم كالمنازل الحديثة وإنما كانت غرفه تحيط بليوان مفتوح وبالتالي فعند الخروج من الغرفة الدافئة لتناول السحور نشعر بالبرد الشديد رغم أننا كنّا نلتحف بما نستطيع من ملابس ونضع علينا كنابل الا ان قساوة البرودة الشديدة تفرض واقعها وتأخذنا الرعشة والإسراع في تناول السحور لكي نعود للمنام الدافئ. لم أكن أرغب في الاستيقاظ لتناول السحور، أولاً، لأني لم أكن ممن فرض عليه الصيام حينها وثانيا، لأن الجلوس في ذلك الوقت كان مرهقاً جدا ولكن إصرار الوالد والرهبة منه تجعلنا نقوم صغاراً وكبارا لتناول السحور.
في ذلك الوقت كانت الدراسة قائمة في شهر رمضان حيث كنا نستيقظ في الصباح الباكر ونحمل حقائبنا ونذهب إلى المدرسة. كنت ذلك الوقت في المرحلة الابتدائية وبقيت الدراسة في شهر رمضان مستمرة إلى عام ١٩٧٣ ميلادية حيث أصبح رمضان خارج السنة الدراسية بداية من ١٩٧٤ ميلادية.
نعود إلى رمضان. رمضان القطيف في ذلك الوقت كان هادئا جدا لا يوجد تزاحم سيارات كثيرة ولا طرامات مزعجة حيث كان عدداً محدود من الشباب يملكون طرامات وهي يابنية من نوع ياماها وسوزوكي (سلطوقا) وهوندا وهذا النوع يطلق عليه اسم النفية لأنه ناعم وأوتوماتيكي.
تكون الفترة الصباحية في رمضان نوعاً ما خاملة وفي المساء تعج بالناس الذين تراهم في براحة الحليب وهي ساحة كبيرة يتم فيها بيع المتطلبات اليومية لشهر رمضان مثل الخضراوات من المنتجات الزراعية القطيفية التي كان الناس يعتمدون في الزمن السابق عليها اعتمادا كليا فلم يكن هناك استيراد من الخارج ولم تكن الفاكهة متداولة بكميات تجارية كما هو الحال الآن وإنما كانت تباع في محلات محددة جدا وكما يذكر أنه في الماضي كانت الفاكهة كالبرتقال يتم جلبها من البحرين بالتوصية إلا أنه كان للقطيف إنتاجها المميز من الفواكه الممتازة التي تشتهر بها مثل الموز والرمان والتين والتوت والبوبي وقصب السكر والبطيخ والجراميز وجذَب النخيل اللذيذ إضافة الى الأنواع المتعددة من الرطب كالماجي والخنيزي والخلاص والحلاو وخصاب العصفور وغيرها كثير مما طاب مذاقه وعظمت فوائده كما يباع في البراحة البيض والحليب ومشتقاته من لبن وروب وزبدة وكلها منتجات محلية ويباع فيها ايضاً السمبوسة والفلافل والچباتي والزلابيا والعقيلي وكلها تنتج بأيادي محلية ورخيصة الثمن اذ كان سعر حبة السمبوسة بقرشين وحبة الفلافل بقرش.
اكتسب براحة الحليب شهرة اجتماعية وتاريخية وقد أخذت إسمها من الحليب فسميت به رغم ما تشمله من مبيعات لأصناف أخرى وهذا يدل على أهمية الحليب في التغذية وخاصة في شهر رمضان.
كما كانت البراحة ملتقى اجتماعي مهم حيث يجتمع فيها الشباب والأولاد ويقضون فيها وقتاً ممتعاً ويتسلون ببعض الألعاب كلعبة مكاسر البيض والمسابچ وهي لعبة تقيس مدى قوة عضلات اليد وتكون حماسية بين الأقوياء من الشباب والأولاد كلاً حسب سنه. والبراحات كانت موجودة في جميع أحياء وبلدات القطيف تقريبا فلكل منطقة براحتها يجتمع فيها الناس وتكون مكان للبيع والشراء ومن المناسب أن نذكر أن الحليب يباع طوال العام في مكان يسمى الجامع إلا أنه في رمضان يتحول الى براحة الحليب.
ومع غروب الشمس يكون الناس قد عادوا الى بيوتهم من البراحة فتصبح الطرقات خالية. ومن الجدير بالذكر إنه كان في القطيف عادة جميله جدا وهي عادة توزيع الأطعمة على الجيران حيث يقوم كل بيت في الحارة وبقدر استطاعته بعمل عدة أطباق رمضانية شهية تشمل الهريسة والثريد والكباب والعصيدة والعفوسة والخبيصة وخبيصة الحب واللقيمات وتلاقيم وممروس وماقوطة ومحلبية وسيوية ومفتوتة وخنفروش ومقرازي وساقو وعقيلي ويتم توزيعها على بيوت الجيران في الليالي المختلفة من الشهر ، وتتكرر هذه العملية بانتظام وتناغم وتنسيق دون قانون مكتوب أو اتفاق مسبق فتشمل جميع البيوت بتوزيع معتدل ويمكن القول أنه يمكن للبيت الذي لا يطبخ أن تأتيه مائدة الإفطار من جيرانه دون عناء ومن الجميل ذكره أيضا أن التبادل البيني للأطعمة بين البيوت يستمر طوال السنة فلو أن أحد افراد العائلة لم يعجبه طبخ بيتهم في يوم من الأيام فيمكن سؤال الجيران عن نوع طبخهم وإحضار الغداء له من بيت أحد الجيران.
وفي رمضان يقوم الناس بتزيين سياكلهم ووضع رأس في مقدمة السيكل والرأس هو عبارة عن مصباح ضوئي يوضع في مقدمة السيكل ويستمد الكهرباء عن طريق دينامو تنتج الطاقة بالاحتكاك مع الكفر (العجلة) الخلفية للدراجة ويتم تركيب الرأس على السياكل في رمضان لأن حركة الناس تكون في الليل.
أما بالنسبة للعبادة في شهر رمضان في تلك الأيام فكانت في القطيف (المركز) ثلاثة مساجد رئيسية تقام فيهم صلاة الجماعة ، أحدهما في القلعة ويصلي فيه آنذاك الشيخ عبد الحميد الخطي رحمه الله والآخر في حي المدارس ويصلي فيه الشيخ فرج العمران رحمة الله عليه ومن بعده ولده الشيخ حسين العمران حفظه الله والمسجد الثالث فيقع في المسعودية ويصلي فيه الشيخ علي بن الشيخ منصور المرهون رحمة الله عليهم ، فكان الناس في رمضان يقصدون هذه المساجد المباركة ويكون الحضور فيها أكثر من الأيام العادية و تتم إقامة صلاة ليلة القدر في هذه المساجد في الليلة الثالثة والعشرين من الشهر وكان الناس يقبلون عليها إقبال شديد أما في الليالي العادية فيتم فتح المجالس الأهلية لبعض الوجهاء وفاعلي الخير وكذلك الحسينيات لقراءة القرآن والأدعية وبالخصوص دعاء الإفتتاح وتكون هذه الفعاليات مكان لممارسة تلاوة القرآن وقراءة الأدعية والتدرب عليها وخاصة لليافعين.
كما يوفر رمضان فرصة للأولاد للتجمع في الليل وممارسة الألعاب الفكرية والرياضية مثل لعبة الهول وهي لعبة تعتمد على الجري السريع حيث يجري أحدهم ويلحق به آخر ليصيده فتبين قدرة الأشخاص المختلفين على العدو واللياقة والقوة البدنية وهذه اللعبة تمارس من قبل الكبار أكثر من الصغار. ومن الألعاب الأخرى “خاست” و “هذا من قال” و “السلطنة” و “خشيشوة” و “طاق طاق طاقية” ، كما تقام او تصطنع في رمضان معارك بين الأحياء المتجاورة حيث تشكل جيوش ، والإتفاق على وقت معين للقاء والمقاتلة وتكون فيها أهازيج مثل “جيش الحارة قادمون أرفعوا سيوفكم” ويسمون حارتهم ويكون في المعركة هازم ومهزوم وبعد المعركة يتم عمل صلح بين الطرفين يتم فيه الإتفاق على عدم التعرض لأي فرد من أفراد الحي إذا مر في الحي الآخر وتكون هذه المعارك عادة بين الصغار من بين الأحياء ولكن اذا حميت يتدخل فيها بعض الشباب الأقوياء من الطرفين بالخفاء في محاولات لتغيير نتيجة المعركة. وتكون المعارك حماسية حيث يتم التعارك بالعصي والمصارعة بين الأفراد. وعند الساعة الخامسة بالتوقيت الغروبي (خمس ساعات بعد الغروب) وهو النظام المستخدم في تعريف الوقت قبل استخدام التوقيت الزوالي الذي نستخدمه الآن والذي كان الناس لا يستسيغون استخدامه في بداية العمل به، يعود الناس الى منازلهم ليناموا ومن ثم يوقظهم المسحر لتناول السحور وكان لكل حي مسحره الذي يمر بين البيوت قارعاً طبلته بصوت عال منادياً “السحور يا عباد الله السحور” فيوقظنا والدي لتناول السحور المكون من الروبة والرز الأبيض. وها أنا ذا وبعد نصف قرن من الزمن لا يستقيم صومي دون عناء إن لم يكن الروب والرز هما مكونات سحوري الأساسية ، فأتذكر والدي وأنا أتناولهما وأترحم عليه مع كل سحور. تقبل الله طاعاتكم وكل عام أنتم بخير.
جميل أبو حسن
ذكرتنا بأيام الأول
جميل جدا
نقلتنا بسهولة إلى صور الماضي وإن لم أكن أعيش بعضها كما عشتها أنت
سلم قلمك 🌹
ابو حسن
اجدت الشرح و التفصيل في حقبة عشناها و لا يعرفها ابناؤنا. اتمنى ان يقرأوها ليطلعوا على جزء جميل و وديع من حياتنا. رحم الله والدك فقد كانت له هيبة و حضور.
أحسنت أخ علي وبارك الله فيك ومتبارك بالشهر الكريم. أعدتنا لأيام الصبا. رائع تدوينك لتلك الحقبة مع ذكرياتها الرائعة.
أحسنت أخونا ابوحسن… الحمدلله إن لحقنا على آخر هذه الأجواء وخاصة لما نسافر من الدمام إلى الأحساء لزيارة الأجداد في الهفوف شارع الفوارس وهي فرجان شبيهة بالقلعة في القطيف
الله الله على هالذكريات الحلوة أبو حسن
وأنا أتمعن في هذه المشاركة القيمة تذكرت المرحوم والدك في في كثير من المناسبات فنعم الرجل كان ونعم الخلف انتم.
عرض جميل وشيق وشامل لفعاليات شهر رمضان .
جهد طيب أبا حسن .
رحم الله والدكم المؤمن الموالي للرسول وأهل بيته الطيبين الطاهرين .
توصيف جميل لمرحلة زمنية مع سرد ينقلك الى تلك الفترة الزمنية ربنا لم احضرها جلها ولكن بعض ما طرح كان في الذاكرة فشكرا الكاتب
تستحق أن تكون مادة لرواية
احسنت ابن الخالة على هذا العرض الجميل. ولدي ملاحظات إضافية . فيما يخص السحور من الممكن ان يستخدم اللبن او الحليب نفسه مع الرز كسحور.
كما يمكن ان يكون بعض المتبقي من طعام الإفطار كالهريس مثلا ضمن طعام السحور. . نقطة أخرى كانت الدورية بيننا كأطفال ، فكان كل طفل ( حسب وضع العائلة المادي) يقوم بدعوة أطفال الحارة ، والتي تنحصر في البيوت المتجاورة لبعضها ، مثلا كنت السدرة ، التي عشت فيها طفولتي ، فكان أطفال الحي معروفين ومحصور عددهم ، يتناوبون العزيمة . وفي العزيمة يتم تقديم الحلويات المنزلية القطيفة التقليدية كالخبيصة والساجو والمفتوتة وغيرهم ، والمكسرات المعروفة آنذاك ومنها الانقال، والبيدان( اللوز) وطرس الغزال ( الفستق ).. كما كان الأطفال يمارسون لعبهم الليلية كخش شو شة، وهي اختباء احد اللاعبين في مكان ما ثم على البقية العثور عليه في مخبئة. ولعبة هذه عندي، ولعبة والهول التي كما ذكرت تعتمد على بنية المتسابق وقدرته على الركض السريع. ، ولعبة الكرباج وهي لعبة عنيفة لحد ما ، يلعبها المراهقون اكثر من الأطفال ، الذين عليهم إظهار صلابتهم حين يضربون على أيديهم بالكرباج ، ولا يبدون أي ضعف او وهن… كما كنا ونحن صغار نتباهى بالاتاريك ( المصابيح اليدوية ) التي تعمل على البطارية، وقوة كل مصباح والمدى الذي يبلغه نور المصباح . وفي نفس الوقت ، فبالإضافة إلى بعض الحسينيات والمساجد ، كانت مجالس الذكر الرمضانية ايضاً تعقد في بعض بيوت الأسر الميسورة ، ممن يملكون في بيوتهم مجالس واسعة تسمح باستقبال المستمعين ، ويقدم فيها القهوة والشاي.. كما لا يغفل ان بعض الشباب يجتمعون للعب الزنجفة ( الورق )وكانت اللعبات السائدة آنذاك الجوكر والطلب ، أما البلوت فلم يكن منتشرا آنذاك ومحصورا في عدد محدود من لاعبي الورق .،ولم يكن التلفزيون منتشر في البيوت ، ولكن كان هناك عدد محدود من الأسر ممن امتلكوا تلفزيون في بيوتهم وكان أصدقاء صاحب البيت يجتمعون في مجلسه لمشاهدة تلفزيون الظهران / ارامكو. ولكن كان في قهوة المرحوم احمد الجصاص الواقعة في براحة الخيل وبالقرب من عين الوارش ، ايضا تلفزيون والدخول اليها بمقابل مالي ( قروش ) ويشمل تقديم بعض من الأكل البسيط.
المهم كان للشهر الكريم طعم ونكهة خاصة لم تنحصر فيه كشهر عبادة، وإنما ايضا كشهر للقيام بواجب صلة الرحم وللتواصل الاجتماعي والألفة والمحبة بين أهل الحي .
الله يعطيك العافية إبن العمة ويرحم والديك. ذكرتنا بزمان لول.
موضوع جدا شيق