أزمة توفير البيض وذكرياته الجميلة – علي الجشي

أثار حماس صديقي للبيض وتفاعله مع أزمة نقصان عرضه في الأسوق وارتفاع أسعاره ذكرياتي مع البيض. وطالما أردت الكتابة عن البيضة التي كنت أتناولها مقلية كل صباح من يد المرحومة أمي قبل ذهابي للمدرسة في المرحلة الإبتدائية وهذا هو طيب الذكر صديقي يقف وراء تحفيزي لتدوين ما يعاود ذاكرتي كلما رأيت بيضة. أتذكر أمي والثلاثة القروش التي تعطيني إياها كل صباح لشراء البيضة وبيت الجيران الذين يبيعونها والحارة الهادئة التي كنّا نقطن فيها وأهلها الطيبون.


أول ذاكرتي مع البيض تعود الى بيضة الجيران. كانت والدتي في كل صباح مدرسي تعطيني ثلاثة قروش وترسلني إلى بيت جيراننا فأذهب إليهم وأنط عتبة بابهم دون إستئذان لأدخل الحوش الذي عادة ما تتواجد فيه نساء ثلاث هن زوجات الحاج. كان الحاج رجل ميسور الحال عنده بيت كبير ويعمل في التجارة وكانت لديه ثلاجة تعمل على “الگاز” ، لا يفتأ يصلح فيها كل يوم دون كلل حتى إن نار الشمعة التهمت ثيابه في أحد الأيام. اثنتان من النساء كنّا راضيتين بحياتهن أما الثالثة أو الصغيرة منهن فكانت متمردة وتريد الإنفصال إلا أن الحاج كان يهددها بالمحكمة الكبرى وهو ما يعني بقاءها معلقة لا تستطيع الزواج من غيره فبقت معه متململة لكنها مستورة. كانت هي من تهتم بالبيض والأخريتان تهتمان بشئون البيت الأخرى،  ‏تسفان الخوص وتنسفان العيش لتزيلا منه الشلوب وتكنسان الحوش وتطبخان للحاج وتجهزان مخدعه وترتبن مجلسه لاستقبال أصحابه كل مساء وهن راضيات أو قابلات بحياتهن التي تختلف عن باقي نساء الحي المتحررات في ذهابن وايابهن ومشاجرة ازواجهن. أناول الثلاثة قروش الزوجة المسؤولة عن الدجاج وتعطيني البيضة مباشرة واقفل راجعاً الى البيت. عادة تكون ايام الدراسة في الشتاء ويكون الجو بارداً. تأخذ أمي مني البيضة وتقليها وتقدمها لي مع خبزة تنور لذيذة من مخبز حارتنا المشهور بجودته.

لم تكن أمي تأكل شيئا من البيضة ولم اسألها يوماً لماذا؟ ربما لأختزن هذا السؤال في ذاكرتي ولأتساءل عنه لاحقاً ولأعرف أنها كانت تهتم بي وتفضلني على نفسها. أليس كل الأمهات هكذا؟ نعم هن هكذا. لم أستوعب او أفكر لماذا كانت أمي تحرص على إعطائي بيضة كل صباح قبل الذهاب إلى المدرسة لكنني الآن استنتج أنها كانت تحرص على تغديتي قبل الذهاب إلى المدرسة لأكون مستعداً لاستيعاب دروسي. كان هذا في المرحلة الإبتدائية، أما ذكرياتي مع البيض في المرحلة المتوسطة فترتبط بسندويشة البيض التي كنّا نشتريها في فسحة المدرسة ‏بنص ريال من البقالة المجاورة للمدرسة أو من بوفية مطر. كانت سندويشة البيض لذيذة جداً تتكون من بيضة مسلوقة وشرائح من الطماطم الطازج يوضع عليها قليل من شطة أبو ديك الحارة وقليل من الملح والفلفل الاسود ‏ونشتري بربع ريال غرشة بيبسي تجعل الساندويشة أكثر لذة. خرجِيتنا في المتوسط كانت ريال واحد يبقى منه ربع ريال بعد شراء السندويشة وغرشة البيبسي ليكون مصروف العصرية.

في المرحلة الثانوية صرنا نذهب الى قهوة الحضرمي في سوق عامر بن ليل ونطلب شكشوكة. أما في مرحلة الجامعة فكان للبيض استخدام آخر وهو مكافحة الصلع الذي يزعج بدايته نفسية الشاب خاصة إذا أتى مبكراً. يتم خلط البيض مع زيت الزيتون ويوضع على فروة الرأس لتقوية الشعر وهو مفيد. ولأهمية البيض وضرورة توفيره قام والدي باستغلال أرض في مقابل بيتنا وربى فيها دجاج بإعداد كبيرة وكان مشروعاً ممتازاً وفر لنا البيض وشيء من المال لإننا كنّا نبيع المتبقي منه وهو كثير. كما كانت تربية الدجاج ولَم (جَمع) البيض مصدر ترفيه للأسرة والأقارب حيث الأطفال يتمتعن بالجري وراء الدجاج ومراقبة الدجاجة الراكة على بيضها والنظر الى تفقيز ال طويرات (الصوص) من البيض والكبار يتمتعن بلم البيض الذي تحرص الدجاج على إخفائه في مكان لا يمكن تمييزه فهي كما كنّا نقول تغير مرجنها باستمرار ويكون اكتشاف المرجن الجديد مصدر سعادة لمكتشفه ولمن معه.

بعد ذلك ظهرت ما كانوا يسمونها بالفقازات أي إنتاج البيض بالحرارة عن طريق المكننة فعرف ما اصطلح عليه بدجاج المكائن وهو دجاج هزيل ضعيف لا يتحمل الأجواء الطبيعية وكانت الناس (بداية) تستنكف من أكله إلا أنه تطور مع الزمن وهو ما يتناوله الناس هذه الأيام واعتادوا عليه. كما ترتبط ذكريات البيض بعبارة “من عنده بيض” وهي عبارة ينادي بها رجل يطوف بين البيوت يومياً منادياً بها بصوت عال ، فيبيع من عنده بيض فوق حاجته (أو من يحتاج الى بعض النقود) الى هذا الرجل الذي بدوره يبيعه في السوق. كما إن للبيض مدخل في الحياة الإجتماعية وبالتحديد في شهر رمضان وذلك عن طريق لعبة المكاسر المسلية حيث يتم التكاسر بالبيض المفيوح (المسلوق) تاه بتاه او رأس برأس والتاه هو قعر البيضة المفلطح ام الرأس فهو قمة البيضة ويكون الفائز من يكسر بيضة الآخر.

ولإعطاء البيضة جمالاً يتم اعطائها صبغة بنية بفوَحانها (سلقها) في ماء بإضافة حثلة القهوة. وفي النواحي النفسية يستخدم البيض لدفع الروعة اذا تعرض أحد لصدمة، إذ يتم كسر بيضة أو دفنها بعد تسبيعها في مكان ما اعتقاداً بأن ذلك يكون سبباً في تسكين روعة المصاب بالصدمة. ومن المناسب مع الحديث عن البيض أن نذكر البيضة المخموجة وهي بيضة تلف في خرقة وتشوى على النار ثم يتم تناولها لمن لديهم سعال أو حشرجة في الحلق كما كان يتم تناول بيضة نية لنفس السبب أي لعلاج السعال. ومع تطور الزمان تطور استخدام البيض وزاد استهلاكه وصار يستخدم في صنع الكيك والفطائر وأنواع الأطباق وتزيين المائدة مما لم نعرفه في صغرنا ولم نكن نحتاج اليه حتى لا نتسبب في أزمة بيض مثل هذه الأزمة التي أثارت مشاعر صديقي وحفزتني لكتابة هذه الذكريات التي آمل أن تنال أعجابكم.

الأستاذ علي الجشي

6 تعليقات

  1. عبدالرزاق الحمود

    ماشاء الله عليك يا ابا حسن رجعتنا الى الماضي الطيب. ايام سندوتش البيض الذي لا يناله الا ذو حظ عظيم ايام الابتدائي. اسلوبك السلس و الجميل شدني الى ان انهي قراءة ما كتبت وكانك اسرتني لتكملة قرآة مقالك. اتمنى التواصل في الكتابه بما تملكه من ابداع و حلاوة. اتحفنا بهذه الكتابات و سوف التزم كأول قارئ. تحياتي اليك و وفقك الله.

  2. تفاصيل رائعة
    ورواية حقيقية جميلة وممتعة جدا❤️

  3. محمد التتان

    أها على الزمن الماضي جميل بكل تفاصيله وبساطته وفقره
    أحسنت التعبير والتصوير والنقل

  4. عبدالرسول الغريافي

    ذكريات رائعه وجميله جدا.. واللطيف اللي لفت نظري انه يبدو عندكم تخفيضات في أسعار البيض يصل الى 25% وهذا السعر أقل حتى من بيع الجمله لأن سعر البيضه في أغلب أحياء وبعض قرى القطيف كما غرفناها بأربعة قروش والدرزن بريالين أي ان سعر الواحده في الجمله تطلع ب 3.33 قروش. وجميل انك ذكرت مكاسر البيض وطريقة التفاهم (طيح..لا.. انت طيح) واثنينك بالراس اوبالتاه الخ.. كانت تنشط خركة المكاسر في شهر رمضان في جميع جوامع وبراحات القطيف:القلعه والشريعه والكويكب الخ.. لك الف شكر

  5. عبدالمحسن المعلم أبو محمد

    أستاذي أبا حسن. أجدت وأصبت.
    جعلتني أتناغم بكلماتك البسيطة وبإسلوبك السهل والراقي.
    لك مني جل الإحترام والتقدير.

  6. أخي العزيز اسعد الله قلبك ذكريات جميلة اتذكر منها الأرض المقابلة لبيتنا التي يربي فيها الوالد رحمه الله الدجاج ونذهب كل يوم مع أمي رحمة الله عليها لأخذ البيض واللعب فيها ومشاهدة الأرانب التي تحفر أسفل جدار الشينكو منظر لم ولن انساه أبدًا وفقك الله ومتبارك بالشهر الكريم تحياتي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *