مدخل
روى أبو الفرج الأصبهاني عن الأصمعي مرفوعًا: إن الحُطَيئة – لمَّا حضرته الوفاة – اجتمع إليه قومه فقالوا: يا أبا مليكة: أوص، فقال: ويلٌ للشعر من راوية السوء؛ قالوا: أوص، رحمك الله، يا حُطيء! وبعد أن طاف بهم على كل من يحفظ لهم من الشعراء؛ انتهى بهم إلى القائل:
الشعر صعبٌ وطويلٌ سُلَّمه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلَّت به إلى الحضيض قدمُه يريد أن يُعربَه فيعجمُه
هذا الشعر تنازع في نسبته وروايته الرواة بين من ينسبه إلى الحطيئة نفسه، أو إلى رؤبة ابن العجاج، واختلافهم فيه لا يهمنا في شيء، وإنما يهمنا صدقُه على شريحة عريضة لا يستهان بها من الكتبة والمحققين، والشُّرَّاح، والمترجمين، يحسبون فهم النص المتاح أمامهم أيسر من اليسير، والحقيقة غير ذلك تمامًا، ففهم النص – على ما أظن – من الأمور العسيرة، إن لم أقل من أعسرها، فهو يحتاج إلى ريثٍ وتأمُّل، فالقراءة المتعجلة ربما أعجمت المُعرَب، وأخفت الواضح، وطمست الجلي، فبعض المحققين والشرَّاح يعمَون في مواضع لا تحتاج إلى بصيرة.
قرأتُ مرَّة أبياتًا لسيف الدولة الحمداني، هما:
تجنَّى عليَّ الذنبَ، والذنبُ ذنبُه وعاتبني ظلمًا، وفي شِقِّه العتبُ
وأعرض لما صار قلبي بكفِّه فهلاً جفاني حين كان لي القلب؟
إذا بَرِم المولى بخدمة عبده تجنَّى له ذنباً وإن لم يكن ذنب
علَّق المحقق شارحًا لفظة (شِقِّه) فقال: {يعني فمه}، سبب هذا اللبس في اعتقادي أن ضحالة علمه باللغة صرفت ذهنه إلى (شدقه)، فهذا هو الذي يرادف فمه، والصواب أنه أراد بشقه: (جانبه)، أي إنَّ العتْبَ عليه هو؛ لأنه هو الذي تجنَّى، فما صلة (فمه) هنا؟
محقق ديوان الشريف الرضي لم ينج من مثل هذه الغفلة، ففي شرحه لقول الشريف من قصيدة يرثي بها أبا إسحاق إبراهيم الصابئ:
ثكلتكَ أمٌّ لم تجدْ لك ثانيًا أنَّى؟ ومِثلُك “مُعوِز” الميلاد
ولعلها كتبت في المخطوطة “مُعْوذ”، بالذال المعجمة، والصحيح أنها: “مُعْوِز”، بالزاي؛ من عَوِز الشيءُ، يَعْوَزُ عَوَزًا: عزَّ فلم يُوجَد وأنت في أشد الحاجة له، فيكون المعنى: أنَّى لنا بمثلك، ومثلك غير ممكن الوجود؟ وكان عليه أن يصوِّبها، لكنه لم يفعل، وأثبتها كما هي، مكتفيًا بشرح معناها، فجاء شرحه لها هكذا: {معوذ، من أعوَذ: دعا له بالحفظ، وقال له: أعيذك بالله، والمعنى غامض}.
نعم، المعنى بهذه الصورة، فعلاً، غامض، وغير مفهوم بتاتًا؛ لأن “معوذ” بهذه الصورة: ميم بعدها عين فواو، ثم عين؛ لا تأتي – في اللغة – إلا مُعَوَّذ، بتشديد الواو وفتحها، فهي – بهذه الصورة – تخلُّ بزنة البيت ومعناه.
السيد تشارلز شيفر، مترجم رحلة ناصر خسرو، أوقعه التسرع في خضمٍّ من أغلاط فادحة أغفلته عن كثير من نصوص خسرو الجليَّة التي ترجمها هو بقلمه، ومن أمثلتها أنه – بعد أن سرد رواية انقطاع خسرو وإفلاسه التام في الفلج، وتعذُّر وصوله إلى الأحساء، بسبب إفلاسه، واستحالة وصوله إليها لأنَّ القوافل لا تسافر إليها إلاَّ في فصل الشتاء بسبب جفاف الغدران والآبار في الصيف، وأنه اكترى بدويًّا يحمله من الفلج إلى البصرة نسيئة، (كِراءً مؤجلاً) لافتقاره ونفاد المال الذي لديه.
كذلك غاب عنه التأمل في ما ترجم من قول خسرو مثلاً: {وعندي أنَّ كل البدو يشبهون أهل الحسا، فلا دين لهم، ومنهم أناس لم يمسَّ الماءُ أيديَهم مدة سنة. أقول هذا عن بصيرة، لا شيء فيه من الأراجيف، فقد عشت في وسطهم تسعة شهور دفعة واحدة لا فرقة بينها، ولم أكن أستطيع أن أشرب اللبن الذي كانوا يقدمونه لي كلما طلبت ماءً لأشرب، فحين أرفضه وأطلب الماء يقولون: أطلبه حيثما تراه، ولكن عند من تراه؟ وهم لم يروا الحمَّامات، أو الماء الجاري في حياتهم}.
هل هذا وصف من رأى الأحساء؟ ناهيك عن دخولها والإقامة فيها؟ ثم أين هي عيون الماء العظيمة التي قال عنها إنها {تكفي كلٌّ منها لإدارة خمس سَواقِ؟}، فلو قام بعملية حساب بسيطة لمراحل سفره من مكة إلى البصرة لوجدها تسعة أشهر بالتمام والكمال.
كل هذا لم ينبِّه شيفر ولا من اعتمد عليه من المؤرخين القائلين بمجيء خسرو إلى الأحساء.
من شطحات المترجمين أيضًا، ما وقع فيه محمد أمين عبد الله مترجم كتاب (الخليج العربي بلدانه وقبائله)، فقد استأثرت ترجمته للكتاب باهتمام خاص من جانبي، فاستغرقت ملاحظاتي عليها عدة حلقات من مجلة الواحة، توقفت فيها عند الحلقة العاشرة؛ بسبب توقُّف المجلة عن الصدور، وليس لانتهاء الملاحظات، فعدد صفحات الكتاب 534 صفحة، وما نشر من الملاحظات توقف عند الصفحة: 117. أكتفي هنا بمثَل واحد أقتبسه من الصفحة 116من تلك الترجمة: {ومن الهدايا التي أرسلها أمير عُمان إلى الخليفة المقتدر، كما يقول السيوطي – دمية تتكلم، وكانت تردد كلمات هندية وفارسية أفضل من الببغاء}.
:فما ذا يقول النص المترجَم؟
Among the presents to the Khalif , says Al –Soyuti, was a taking Maynah, which repeated Indian and Persian words better than a parrot [1]
فانظر كيف تحول طائر (المينا) الفصيح إلى دمية.
لهذا ومثله ينبغي أن لا يقتحم ميدان الترجمة إلا متسلحٌ بثقافة موسوعية، ذو اطلاع كاف على علوم اللغة من نحو وصرف، وبيان، مع إلمام واسع بالآداب والتاريخ، والسِّيَر، والجغرافيا، وفي الأقل ذو جلد على البحث والتقصي، وفوق ذلك كله أن لا يأنف من الاستشارة، وطلب المعونة، فلا يكفي – مطلقًا – إلمامه باللغة التي يترجم عنها.
كورنوال وأوهامه وأخطاء مترجمة
قبل عامين من الآن، وبالتحديد في الثامن من مارس سنة 2018، كتبت مقالاً نشر في صحيفة (صُبرة) الإلكترونية، ناقشت فيه التخبُّط الذي وقع فيه الآثاري الأمريكي يوريس زاينز (زاينس)، عن تاروت وجسرها وآثارها([2])، والآن أراني – وجهًا لوجه – مع آثاري أمريكاني آخر هو بيتر يوريس كورنوال، في بحث له منشور في مجلة البعثة (الكويتية)، في خمس حلقات، بترجمة محمود محمد مصطفى الشهلب.
سوف أتجاوز الأغلاط الإنشائية المبثوثة في البحث مثل قوله: (فأقاموا سرعان وصولهم)، ومُراده: فور وصولهم، أو لحظة وصولهم، أو عند وصولهم، أو غيرها من الصيَغ المتسعة باتِّساع العربية، فغير خاف أن (سرعان) صيغة تعجُّبٍ من تعجُّل؛ تقول: {سرعان ما نسيت!}، أي ما أسرع ما نسيت! كذلك سأتجاوز الأخطاء الإملائية والنحوية مثل مدينات، ومراده: مُدن، جمع مدينة، وكذا الإملائية والطباعية، مثل (تغتصب، وصوابها: تنتصب)، ووجدت كلمات كتبت بالذال المعجمة، وحقُّها أن تكتب بالزاي المعجمة، مثل عذرا، وصوابها عزرا، ومثل: وهذه الثروة الطبيعية الذاخرة، والصواب: الزاخرة، فالملاحظ أن كثيرًا من الإخوة العرب الذين ينطقون الذال زايًا يقلبون الوضع عند الكتابة، فيكتبون الزاي ذالاً توهُّما منهم أن كل زاي هي عامية، فيصححونها، ومما تجاوزته أيضًا الأسماء التي ترد في البحث نكرة، وهي معرفة، مثل، دمام، عقير، جبيل، فهذه كلها لا تغيب عن فطنة القارئ.
لقد تصدَّى الشاعر والأديب خالد محمد الفرج لكورنوال بالنقد، لكن نقده له انحصر في ثلاث نقط: الأولى – تخصُّه هو بالذات، حيث كورنوال ذكر رجلًا وصفه بأنه (قصير القامة، وملتح)، فبيَّن خالد أنه هو نفسه ذلك الرجل، وأن المعثورات التي ادعاه هي ملكه، والثانية صوب فيها بعض أخطاء المترجم في (حناط) ترجمة للحنَّاة، و(التاج) معرفة، ترجمة لـ (ثاج)، بثاء مثلة، وخلو من التعريف، و(وادي المياح)، وصواب ترجمتها وادي المياه، والثالثة تأريخه للقرامطة بأنهم موجودون في القرن التاسع عشر([3])، هذا ما اشتمل عليه نقده، وترك الباقي لغيره وأنا منهم. فلأدْلِ بدلوي مع المدلين.
الحلقة الأولى([4]) من البحث
– (أول من نقب عن عاديات الأحساء)
لهذا العنوان أرفع رايات الاستسلام التي أعلاها كل المنهزمين قبلي، فقد عجز ما بحوزتي من قواميس اللغة أن تسعفني بمعنى يفسر (العاديات)، بغير الخيل، أو الإبل الغازية، وأن لا دلالة لها على الآثار بتاتًا، ولو توقف الأمر عند هذا لاكتفيت بالوجوم وتقطيب الحاجبين، ولزمت الصمت، لكن الأمر تعدا إلى الزعم بأنه أول من نقَّب عن الآثار في الجزيرة العربية، وهذه فيها نظر فقد سبقه مهندس التعدين كارل تويتشل (Karl Twitchell -1858-1939) ، مكتشف مهد الذهب في المملكة، ومؤلف كتاب: (Saudi Arabia With an Account of the Development of its Natural Resources) ، وقد صدرت منه عدة طبعات، (ونسخة مترجمة إلى اللغة العربية بعنوان :المملكة العربية السعودية)، ترجمة الأستاذ شكيب الأموي، صدرت الطبعة العربية الأولى 1946م، والثانية 1952م، عن مؤسسة فرانكلين للنشر بمصر.
– {قطعت طريقي إلى تلك المغارة جوًّا عبر الباسيفيك وآسيا، وبلغت البحرين، الجزيرة الغنية بالنفط، بضعة أيام بعد حادث قصفها من قِبل الطيارين الطليان في محاولتهم الجريئة لتدمير مصافي نفطها العظيمة}.
هذه المرة على القارئ العزيز أن يكتم نفَسه من تلك المغارة التي قطع طريقه إليها، إذ لا يوجد مغارات بهذا الحجم في الوجهة التي قصدها، وإنما هي مفازة، فعلت بها الترجمة فعلها الذي رأيت.
– {اكتشفتُ تحت سطح أحد الشوارع في (منامة)، مدينة البحرين الكبرى، قاعة مجلس شورى صغيرة غريبة الهيئة؛ إذ تحتوي على تسعة مقاعد منقورة من الصخر على شكل دائرة، وكما يبدو للناظر إن هذه القاعدة ليست عربية المظهر، بل إنها يغلب عليها الطابع اليوناني أو الروماني، ومتأثِّرة بفنَّيهما إلى حدٍّ ماء}.
من يقرأ هذا الكلام سوف يتصوَّر – بدون أدنى ريب – أن شوارع المنامة كانت تضارع المحيط اتساعًا، وكما يقول المثل القطيفي: (كيف عرفتها كذبة؟ قال: من كبارتها). فمهما افترضنا صغر قاعة الشورى تلك التي يدعي اكتشافها، فلا يتصوَّر أن تقل عن 25 مترٍ مربع (5×5)، فهل يمكن إجراء حفريات آثارية في مثل هذا الحيز، دون التعرض للمنازل الواقعة على خط الشارع؟
– {وعبرتُ بعد تنقيب زاد على الشهر الواحد المضيق الضحضاح الذي يفصل جزيرة البحرين عن أرض الأحساء من بلاد العرب، واتخذت من الظهران مقرًّا لأعمالي في مستقر شركة النفط المريحة المكيفة الهواء}.
هذا الوصف لا ينطبق على أي مكان ما بين البحرين وأرض الأحساء، والميناء الوحيد للأحساء المطل على الخليج هو العقير، ولا يوجد مضيق بينهما، ولا ضحضاح، فالضحضاح لغةً: الماء اليسير، الذي لا يغمر ركبتي العابر فيه([5]).
– {كان أول غرضي زيارة ميناء عقير الصغيرة، فعلى مقربة منه توجد منطقة خرائب أثرية يعتقدها العلماء أنها بقايا آثار مدينة (كرحاء)، إحدى مدن جزيرة العرب المفقودة، وكانت كرحاء هذه في العهدين اليوناني والروماني من أشهر الأسواق والمراكز التجارية في الشرق الأوسط}.
عقير تأتي دائمًا معرفة بأداة التعريف العربية المعروفة؛ الألف واللام، ومثلها الجرهاء، التي أثبتها المترجم بلفظ (كرحاء)، أما الصحيح فهي (الجرعاء)، وهي الشائعة المعروفة بهذا الاسم عند الجغرافيين العرب([6])، وكذا في دواوين الشعر العربي القديم.
قال النابغة الذبياني:
لَدى جَرعاءَ لَيسَ بِها أَنيسٌ وَلَيسَ بِها الدَليلُ بِمُطمَئِنِّ
الفرزدق:
وَلَن تَحضُرَ الجَرعاءَ تَرعى ثُمامَها وَلا تَرتَعي بِالدَوِّ مِن خَرِباتِ
وقال محيي الدين بن عربي:
يا خَليلَيَّ قِفا وَاِستَنطِقا رَسمَ دارٍ بَعدَهُم قَد خَرِبا
وَاِندُبا قَلبَ فَتىً فارَقَهُ يَومَ بانوا وَابكِيا وَاِنتَحِبا
عَلَّهُ يُخبِرُ حَيثُ يَمَّموا أَلِجَرعاءِ الحِمى أَم لِقَبا؟
بشار بن برد:
نَظَرتُ بِحَوضى هَل أَراكِ فَلَم أُصِب بَعَيني سِوى الجَرعاءِ وَالأَبلَقِ الفَردِ
الشريف الرضي:
وَيا صاحِبيَّ اليَومَ عوجا لَتَسأَلا رُكَيباً مِنَ الغَورَينِ أَنضاؤُهُم تَخدي
عَنِ الحَيَّ بِالجَرعاءِ جَرعاءِ مالِكٍ هَلِ ارتَبَعوا وَاخضَرَّ واديهِمُ بَعدي؟
وغير هؤلاء كثير.
تكرر ذكر (كرحا) بمعنى الجرعاء، في بقية الصفحة (38)، ثم استبدلت في الصفحة (39) بـ(كوحاء)، بإحلال الراء مكان الواو، وزيدت بعد الألف همزةً، ولكنها على الصفحة (40) عادت (كرحاء) محتفظة بهيبة همزتها.
– {ولقد وجدت الأراضي المحيطة بالعقير جدباء يابسة سطحها، أرياح جافة، وقد رسى (ص: رسا) الملك (أنتيوخ الثالث) أحد ملوك السلاجقة بأسطوله على هذا الميناء، وهو ينوي إخضاع المدينة وعشائرها المجاورة}، ص: 39.
ذكرت – في التمهيد – ما ينبغي أن يتزود به المترجم من العلوم، ومنها الإلمام بالتاريخ، والسير، فهذا موضع يحتاج فيه المترجم لما ذكرت، فلو كان السيد مصطفى مزوَّدًا بمثل هذا الزاد؛ لعلم أن السلاجقة، أمراء تركمانيون، جدهم سلجوق، حكم منهم عدة فروع أهمها السلاجقة الكبار( 1037 – 1175)، وسلاجقة كرمان (1041 – 1118)، وسلاجقة العراق وكردستان (1117 – 1194)، وسلاجقة الروم في آسيا الصغرى (1177 – 1300)([7])، أما انتيوخ الثالث فصوابه: أنطيوخس (3 Antiochos)، وهو من ملك السلوقيين في سورية، ويعرف بأنطونيوس الكبير (242 – 187) ق، م. غزا الهند وآسيا الصغرا، وحالف هنيبعل، وانتصر عليه الرومان في مغنيزيا، قتل في عيلام([8])، وهو من سلالة السلوقيين وهم سلالة أسسها سلوقس الأول، أحد قواد الإسكندر (305 – 64) ق. م، سمي ملوكُها باسم سلوقس أو أنطيوخس، وعرفوا بملوك سورية، امتدت مملكتهم إلى آسيا الصغرى، وفلسطين وبلاد ما بين النهرين، وباقي سيرتهم موفورة في الموسوعات([9]).
يتكرر اسم (انتيوخ) إلى نهاية الصفحة.
الحلقة الثانية([10])
وعلى عهد حكم حفيد “سنحارب أشور بانيبال” المثقف، المترف، المسمى (اسفايار في كتاب عذرا النبي 4/10 ) أشير إلى أن “دطون” مقاطعة من مقاطعات مملكة أشور، ومن هنا كان على مملكة (دطون) أن تخضع لحكم الآشوريين في النهاية، وأن تقسم يمين الإخلاص والولاء بالآلهة العظيمة، ص: 108.
دطون هذه جديدة، والمراد بها مملكة دلمون، لم أقف على أحد من المؤرخين أو الجغرافيين جاء على ذكرها بهذا الرسم (دطون)، وأما من رسم اسمه السيد المترجم “عذرا” النبي، بالذال المعجمة فهو عزرا، بالزاي المعجمة، وقد سبقت الإشارة إلى أنَّ الذين ينطقون الذال زايًا يكتبون الزاي ذالاً توهُّما منهم أن كل زاي هي عامية، فيصححونها، والصحيح عزرا، وهو أحد أصحاب الأسفار في العهد القديم (Old testament)، أما الزعم بأنه {مذكور في عزرا 4/10 أن دلمون مقاطعة من مقاطعات مملكة أشور}، فإن أحسنا الظن عددناه وهمًا، إذ لا وجود لشيء من هذا في السفر المذكور ولا في غيره ألبتة، وهذا نص الفقرة 10 من الإصحاح 4: {مِن رَحومَ الحاكِمِ وشِمْشايَ الكاتِبِ وسائِرِ زُمَلائِهما القُضاةِ والسُّفَراءَ والمُوَظَّفينَ الفُرْسِ والأَكوِّيينَ والبابِلِيِّينَ والشُّوشَنكِيِّين- أَيِ العَيلامِيَين، وسائِرِ الأُمَمِ الَّتي جَلاها أَسنَفَّرُ العَظيمُ الجَليل، وجَعَلَها في مُدُنِ السَّامِرَة، وبَقِيَّةِ الَّذينَ في عِبرِ النَّهر، أَمَّا بَعْد: هذه نُسخَةُ الرِّسالَةِ الَّتي بَعَثوا بِها: ( إِلى أَرتَحْشَشْتا المَلِك، مِن عَبيدِكَ القَومِ الَّذينَ في عِبرِ النَّهْر. أَمَّا بَعْد. لِيَكُنْ مَعْلوماً لَدى المَلِكِ أَنَّ اليَهودَ الَّذينَ صَعِدوا مِن عِندِكَ إِلَينا وأَتَوا إِلى أُورَشَليم، وَيبْنونَ المَدينَةَ المُتَمَرِّدَة الشَّرِّيرَة، ويُرَمِّمونَ أَسْواراً، بَعدَ أن أَحاطوا أَساسَها بِسور. يَكُنْ مَعْلوماً لَدى المَلِكِ أنَّه، إِن بُنِيَت هذه المَدينَةُ ورُمِّمَت أَسْوارُها، لا يُؤَدُّونَ الخَراجَ ولا الجِزْيَةَ ولا الضَّريبَة، فيَلحَقُ ضَرَرٌ بِدَخْلِ المُلوك وحَيثُ إٍ نَّنا نأْكُلُ مِلحَ القَصْر، لا يَليقُ بِنا أَن نَرى إِهانةً تُوَجَّهُ إِلى المَلِك، فأَرسَلْنا وأَعلَمْنا المَلِك، لِيُبحَثَ في كِتابِ ذِكْرَياتِ آبائِكَ فتَجِدَ في كِتابِ الذِّكْرَيات وتَعلَمَ أَنَّ هذه المَدينَةَ مَدينَةٌ مُتَمَرِّدَةٌ مُسيئَةٌ إِلى الملوكِ والأَقاليم، وأنَّهم قد أَثاروا فيها فِتَناً في قَديم الزَّمان، ولذلِكَ خَرِبَت هذه المَدينَة ونُعلِمُ المَلِكَ أَنَّه، إِن أُعيدَ بِناءُ هذه المَدينَةِ وُرمِّمَت أَسْوارُها، لايَكونُ لَكَ نَصيبٌ في عِبرِ النَّهْرِ هذا). 4: 10 – 16([11]).
كان يكفي إيراد الفقرة العاشرة من الإصحاح 4، لكنني آثرت موالاة السياق إلى نهايته زيادة في التوثيق.
على الصفحة 308 نفسها: {وعلى أثر وصولي إلى الظهران أبلغني مهندس أمريكي أنهم قد اكتشفوا أثناء قيامهم ببناء خزانات الماء في (دواوي) الواقعة في قلب الجزيرة العربية نصلاً كبير الحجم}.
لا وجود لبلدة بهذا الاسم، والصحيح (الدوادمي) ([12])، بلدة غربي الرياض وهي المقصودة.
– {انكببت على دراسة بعض التصاوير الجوية التي توفرت عن مقاطعة ظهران، وذلك قبل سفري إليها، وعاينت هذه التصاوير بدقة بوساطة المكبرات، البصَريَّة، فاستلفت نظري بقاع معينة شككت أنها قد تكون منطوية على آثار لرجل العصر الحجري}.
كانت هذه المنطقة هي المسماة (جبل المدرة)، والمعروفة باسم (درع الشمال) ص: 208 – 109.
ليس مترجم هذا المقتبس وحده مَن وقع في هذا الخطأ، بل أصبح هذا هو الاسم المعروف لدى جلِّ، إن لم أقل كل، موظفي أرامكو الآن، ومن خالطهم، أو ذو علاقة بهم، الجبل اسمه المُدْرِع، بالعين المهملة، وهما جبلان: (المدرع الشمالي)، و(المدرع الجنوبي) ([13]). ولكن لأنَّ حرف العين لا وجود له في الإنجليزية نطقًا وكتابة كتب الأجانب حرف العين (A)، ونطقوه ألفًا ممدوة (المدرا)، أو مقصورة (المدرى)، أو هاء، (المدره) أو تاء تأنيث مربوطة (المدرة).
لا يصح اعتبار (دطون) خطأ كتابيًّا لتكراره المخل ممتدًا حتى نهاية الصفحة 109، وإن تخللها (دملون) بتقديم الميم على اللام؟
على الصفحة 110يقابلنا وهمٌ آخر من أوهام السيد كورنوال، مشوبٌ بزهو استعماري يشفُّ من عبارته: {وسارت بنا السيارة ميلين نحو الساحل، شمالي (المريكبات) ([14])، فزرت، أوَّلاً، بلدة الدمام الصغيرة، الشهيرة بقلعتها الحجرية، الجاثمة فوق صخرة عالية على شاطئ البحر، والتي يحيط بها الماء عند ارتفاع المد، ووجدت في جوانب هذه القلعة عددًا من المدافع القديمة يعلوها الصدأ، ويغلب على الظن أن هذه القاعدة شيِّدت من قِبَل البرتغاليين، الذين ارتادوا سواحل الخليج في مطلع القرن السادس عشر للميلاد، وقد اقتطع هؤلاء خطوط التجارة المُرْبِحة من يد العرب، وأسسوا أول إمبراطورية أوروبية حديثة، في آسيا، وما هذه القلاع الجبارة التي أسسوها في أطراف وأكناف الخليج العربي، إلا دليل صامت على عظمة سلطانهم القصير المدى، ذلك السلطان الذي سرعان ما انهار أمام هجمات العصاة والمنشقين من الإيرانيين والعرب، ثم ما برح أن تلاشى نهائيًّا أمام جبروت الفتح الهولندي والإنكليزي وفعاليتهما البحرية}.
رأي غير مستغرب من فكر استعماري يرى صاحب الأرض عاصيًّا منشقًّا، والغازي المعتدي القادم من أقاصي مجاهل الأرض، فاتحًا عظيمًا، أما أن البرتغاليين شيدوا القلاع، فهذا قلب للحقائق، فالقلاع لم تعرفها أوروبا إلا في الغزو الصليبي للبلاد العربية، وقد سبق أن طرقت هذا الموضوع في مقال سابق بمجلة الواحة، فيحسن أن أقتطف منه ما يقتضيه المقام:
{لم تعرف أوروبا هذا النوع من التحصينات إلا في القرن العاشر الميلادي، أواخر القرن الرابع الهجري، على يد القائد النورماندي وليم الفاتح (William the Conqueror)، أو النغل (William the Bastard)، على الرغم مما يقال عن القلاع الرومانية التي ظهرت بين القرن الثاني والخامس الميلادي، فتلك المسماة قلاعًا لم تكن – في الحقيقة – سوى أبراج خشبية تقام على الروابي والمترفعات لرمي السهام والحراسة، ولم يُجرِ الأوربيون أيَّ تغيير عليها إلَّا بعد الحروب الصليبية؛ مما يشير، بوضوح، إلى مدى استفادة الأوربيين من خبرات المشرق في مجال الدفاعات الحربية، فقد عُرفت القلاع في الشرق منذ إنشاء سور الصين العظيم([a])، وحضارة وادي النيل في القرن الثالث للميلاد([b])}.
الحصون والقلاع، إذن ، منبتها الشرق منذ القدم، ومن أشهرها حصن (الأبلق) بتيماء، بناه السموأل بن عاديا (ت: 560م)([c])، وكذلك مدينة خيبر، التي افتتحها النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في السنة السابعة للهجرة (629م)، فهي مشهورة بحصونها، وقصة اقتحام الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) لِأكبرِ حصونها واقتلاع بابه؛ من أشهر قصص الفتوحات الإسلامية([d])، وفي العصور المتأخرة تظهر قلعة ألمَوت، أما ابن المجاور (كان حيًّا سنة 626هـ، 1228م) صاحب كتاب: (صفة بلا اليمن ومكة وبعض الحجاز، المسماة تاريخ المستبصر) ([e]) فأغلب كتابه في القلاع والحصون).
وبالعودة إلى البرتغاليين وتوهم قيامهم ببناء القلاع فليس كورنوال وحده من وقع فيه، بل وقع فيه عدد غير قليل من بحاثتنا اللامعين من أمثال علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر (رحمه الله)، ففي كلامه على قلعة تاروت قال: {وتعتبر جزيرة تاروت من أهمِّ الثغور البحرية لبلاد القطيف، فكانت في العهود القديمة ذات ميناء ترسو فيه السفن من موانئ الخليج، ومن بحر العرب، ومن موانئ الهند، وقد شَيَّد فيها البرتغاليون قلعة عظيمة}([f])، وباحث آخر هو الأستاذ مثقف وباحث آخر هو الشاعر عبد الله الشيخ علي الجشي، وهذا رأيه نصًّا: {ليس لدينا ما يدل على أن الدمام سُكِنت قبل هذا القرن كمدينة، أو قرية لها مميزاتها، وكل ما لدينا هو أنها اتُّخذت – في بعض الأحيان – مصيفًا للطارئين من البدو، ومرسى لسفن الغوص عندما تضطرها الرياح للجوء إلى البر القريب، وكان بئرها العذب الواقع في البرج البحري مَورِدًا يَستقي منه الغواصون، وعند هذا البرج حدثت الموقعة البحرية بين رئيس الجلاهمة رحمة بن جابر وبين أمراء البحرين من آل خليفة سنة 1242هـ([g])، والأثر التاريخي الوحيد القائم فيها حتى الآن هو برجُها البحري الآنف الذكر. وقد بناه (البرتغاليون) لحماية القطيف حينما بنو (برج أبو الليف) في وسط البحر والقصر في جزيرة (تاروت)}([h])، مثقف آخر هو الأستاذ تقي محمد البحارنة انتهز فرصة زيارته للبرتغال حين كان سفيرًا لبلده البحرين في القاهرة، فقصد دار المخطوطات والوثائق التاريخية في لشبونة؛ بحثًا عن مخطط قلعة البرتغال، فوافانا بالتقرير التالي: {وتساءلت، فيما بيني وبين نفسي، لو أن (مكرم)([i]) هذا نجح في صدِّ الغزاة البرتغاليين؛ لكان قد حال بينهم وبين احتلال البحرين، وبناء القلعة، وبالتالي قد حال بينهم وبين انتهاب الثروات واختزانِها بين جدران القلعة، ولكن البحرين كانت ستفتقد – مع ذلك – أحد المعالم التاريخية المهمة التي تجتذب إليها السائحين، وتثير فضول العلماء والمنقبين….}([j])، وعن ذلك المخطط يقول: {ولم يكن ذلك الصوت سوى صوت المدير العام للدار ينهي إليَّ – بنبرات من الأسف – أنه لم يوفَّق – رغم ما بذله من جهد – للعثور على الملف الذي يحتوي على المخطط الأصلي لقلعة البرتغال في البحرين …} ([k]).
هذا هو تصور مؤرخينا والنخبة من مثقفينا، فما ظنك بغيرهم؟
عن قلعة الدمام فذكرها في المراجع حديث، وليس لدي أكثر مما قاله أستاذي الجشي، وأما قلعة البحرين فإنها هي التي تصدت للبرتغاليين في أول حملة لهم على البحرين، فوجدوا زعيمها، آنذاك، مقرن بن زامل الجبري، متحصنًا فيها، وقاومتهم مقاومة شرسة([L])، وقلعة تاروت، ورد ذكرها منذ استيلاء ملك قيس؛ الأتابك أبي بكر السلغري عليها في سنة 641 هـ، وقتل أكبر شيوخ بني عامر فيها، وهو أبو عاصم بن سرحان([m]). وقلعة القطيف وصفها أبو الفداء (672- 732هـ، 1273– 1331م)، بما هذا نصه: {وعن بعض أهلها قال: وللقطيف سورٌ وخندق، ولها أربعة أبواب، والبحر، إذا مدَّ، يصل إلى سور القطيف، وإذا جزَر ينكشف عن بعض الأرض، وللقطيف خَورٌ([n]) من البحر يدخل فيه المراكب الكبار الموسقة([o]) في حالة المدِّ والجزْر. . .}([p]), وهذا الوصف لم يتغير حتى تاريخ إزالتها 1404هـ، 1405هـ – 1984م – 1985م([q]).
أما إذا استنطقْنا التاريخ عن دور البرتغاليين في بناء هذه القلاع فستخبرنا أدبياته أن فكرة غزو المشرق راودت أذهان الأوروبيين منذ أيام هنري الملاح (1394 – 1460م)، لكنهم لم يضعوا الفكرة موضع التنفيذ إلا عام 1497 حين أبحر فاسكو دي جاما إلى الهند، فيوصلها في أغسطس 1498. أما الخليج فإن أول محاولة قاموا بها لغزوه فهي غزوة الفونسو دي البوكرك، فوصل عمان في 22 أغسطس 1507، فأشعل النار في المدينة ومينائها، وانطلق إلى صحار فدمر قلعتها الضخمة([r])، ويصف ويلسن قلعة هرمز بأنها – لضخامتها – تحتاج إلى أكثر من ألف شخص للدفاع عنها([s]). أظن هذا يكفي لإثبات وجود القلاع في الخليج قبل أن يعرفها البرتغاليون.
حلقة معادة([15])
فحوى هذه الحلقة هو فحوى الحلقة الأولى والثانية، بشيء من التعديلات والإضافات تشي بأنها إعادة صياغة لترجمة الحلقة الأولى والثانية السابقتين، ومع ذلك لا ينبغي تركها.
التعديلات:
– {لم يكن الوقت، إذ ذاك، مناسبًا لظهور عالم ما في منطقة الخليج العربي}. ص: 211، أضاف إليه (الفارسي) بين حاصرتين.
– {ولقد وجدت الأراضي المحيطة بالعقير جدباء يابسة سطحها، أرياح جافة، وهي عطشى، وقد رسى (ص: رسا) الملك (أنتبيوخ الثالث) أحد ملوك السلاجقة بأسطوله على هذا الميناء، وهو ينوي إخضاع المدينة وعشائرها المجاورة}، ص: 212. زاد في الفقرة، حرف باء واحد في اسم (انتيوخ)، فصار: (أنتبيوخ). وقد أوضحت، هناك، أنه (أنطيوخس)، وأنه سلوقي، وليس سلجوقيًّا.
– {لم يتسنَّ لي معرفة هوية أولئك المدفونين في التوابيت التي يرجع عهدها إلى العصر النحاسي، أو تثبت حقيقتهم إلا بعد عدة أشهر قضيتها في أعمال الحفر، يضاف إلي ذلك سنوات عديدة من البحث والاستقصاء، كان هؤلاء القوم يعرفون باسم (الدطونيين)، وكان ملكهم يملك الأحساء وجزيرة البحرين، وقد انصرف هؤلاء إلى التجارة مع السومريين والآشوريين، وشغلتهم الحروب معهم لمدة لا تقل عن ألف امتدت من الألف الثاني قبل المسيح، إلى سنة 500 ق، م}. ص: 213. الدوطيين هنا هم (الدلمونيون) في الحلقتين السابقتين، وتتكرر في باقي الصفحة، ثم تعود دلمون مصفحة إلى (دملون)، ثم تعود إلى عترها كما عادت لميس، وتعود (مملكة دطون) سيرتها الأولى في بقية الصفحة، فالسيد المترجم بهذه التعديلات، يطبق المثل الشعبي الدارج في بلدان الخليج: (راح يطبُّبها عماها)، وأمَّا (كرحا) التي أنِسنا بصبحبتها، في ما سبق فأبت أن تفارق الحلقة، ولازمتها إلى نهايتها.
الحلقة الثالثة([16])
– {كان رحمة بن جبر أعظم القرصان الذين جابوا البحار شأنًا}. ص: 266.
رأي الكاتب في رحمة بن جابر له وحده، لا يهمُّني منه شيء، ولكن يهمني تصويب اسم أبيه الذي أخطأ المترجم فيه، فهو (جابر)، وليس جبر. كذلك كلمة (قرصان) التي وضعها المترجم موضع الجمعِ، هي مفرد، والجمع قراصنة. فيكون صواب العبارة: (أعظم القراصنة).
وعلى مقربة من القطيف وجدت نماذج من (الطويلة)، وهي قطعة من النحاس المخلوط بالنيكل، وهذه الطويلة على شكل حر V إحدى شعبتيه مستقيمة والأخرى منحنية قليلاً إلى الأعلى، وقد ضربت من قبل أحد الأمراء (الكرماتيين) قبل أن تطأ قدما “وليم” الفاتح أرض إنكلترا بمائة عام، ص: 266.
لا تظنن أنَّ هذه غلطة إملائية سقط بسببها الكراماتيين، أي أهل الكرامات، بل هم القرامطة.
في وصفه لعيون القطيف البريَّة، أتى على وصف سواقيها المحفورة تحت الأرض، وأبراجها العالية، وما تؤيده التحريات العلمية بشأنها، وما يدعيه الأعراب أن وسائل الري كانت موجودة قبل عهد الإسلام، منتهيًا إلى نتيجة مؤداها: >ونظرًا إلى أن طراز البناء لهذه الآبار إيراني فالمعتقد، إذًا، أن يكون أحد ملوك السلالة الساسانية هو الباني لهذ الآبار.
هذه السواقي ليست قديمة، وهي فوق الأرض لا داخلها، لكنها مغطاة بسقف جملوني، من أحجار الفروش”البحرية”، لحمايتها من زحف الرمال، وهي ترمم باستمرار، أما التي سماها أبراجًا ونسبها بناءها إلى الطراز الإيراني، معتقدًا أن الذي بناها هو أحد ملوك السلالة الساسانية، فهي ليست أكثر من بناء اسطواني عادي، مادته الحجر والجص، خال من النقوش، أو الكتابات، ولا يحتاج عملها إلى خبرة، ولا مهارة، وهي تسمى محلِّيًّا: “تناقيب”، من النَّقْب، وهو الثُّقب في الجدار وغيره، ومنه النقاب، ومن ينطقون القاف جيمًا يسمُّونها “تناجيب”، وفي المنطقة موضع يسمى “التناجيب”، وهو رأس يقع بين منيفة، والسفانية، وقد اشتبه الشيخ عبد الرحمن العبيد حين عدَّها في الجيم، حتى ذهب بعيدًا في تصريفها، فقال: (تقول: نجب وانتجب الشيء: اصطفاه، واختاره، والنجيب الفاضل النفيس في نوعه)[17])، وهذا سهو يعذر الشيخ فيه، وقد بقيت هذه التناقيب مشاهدة حتى زمن متأخر، وقامت إدارة المتحف الإقليمي في الدمام بتسييجها باعبتارها مواقع أثرية، لكنها انهارت بسبب عوامل التعرية وعدم الترميم.
سأتخطى كثيرًا من تخبطاته في الصفحة: 213، فأهمها توقفه عند عيون القطيف، والينابيع البحرية المحيطة بجزيرة البحرين، وهذه تعرضت لها في غير موضع ومناسبة، وصدر لي فيها كتاب (عيون القطيف الفردوس الموؤود)، فلا داعي لتكرار الكلام فيها هنا. كذلك زعمه في آخر الصفحة أن البرتغاليين بنوا في القطيف قلعة بعد دخولهم فيها سنة 1550م، فهذا أيضًا زيف، والقلاع في القطيف وغيرها كانت قائمة منذ فجر التاريخ. ويمكن مراجعة ما كتبته عنها في مجلة الواحة[18]).
الحلقة الرابعة
ليس في الحلقة شيء مهم سوى اتهامهم لأهل القطيف بأنهم <تنقصهم الفطنة>، وزعمه بأن سكان القطيف (كسائر سكان موانئ الخليج العربي من أجناس مختلفة، وينتمون إلى سلالات نزحت من العراق وإيران وانضم إليهم – في مستهل قرابة هذا العصر الحاضر – طوائف من المسيحيين الفسطوريين (النسطوريين))، وهذا القول يدمغه الواقع، فالهجرة كانت من القطيف إلى إيران والعراق لا العكس، والمسيحية انتهت بدخول المنطقة في الإسلام، وأما من كان من القطيف من الإيرانيين في الفترة التي كان فيها في القطيف فهم مسلمون ويعدون على الأصابع، بعضهم عمال في مكائن حفر الآبار، يعملون على مكائن حفر يملكها القصيبي والشيحة، ولا يقيمون في القطيف إلا حين يكون لديهم عمل حفر، وأما المقيمون في القطيف، فهم ثلاثة؛ واحد منهم كفيف، ويعمل محاميًا، والثاني خباز، والثالث حفار تزوج في القطيف واستقر بها ومات فيها.
وأما ما زعمه من اكتشافات، فقد بيَّنت أن خالدًا الفرج تصدى له، ورد عليه، وكذبه، فلم يبق ما يستحق الذكر سوى اعتباره جزيرة دارين هي المدينة الرئيسية في الجزيرة، وأنه لم ير {أي أثر لهيكل أو معبد قديم على سطح جزيرة تاروت مما يمكن اعتباره من الخرائب الأثرية}. فالتلال الأثرية ممتدة من البحرين إلى عين السيح جنوب الظهران، وتاروت، وثاج، وقد شاهدها جفري بيبي، كما يظهر من كتابه: (البحث عن دلمون)، ولا أكبر من قلعة تاروت الشهير، القائمة إلى وقتنا هذا. بل وحتى القطيف نفسها كانت بها تلال دلمونية، وقد كنت أراها منذ طفولتي في بر البياض، غربي القطيف، لكنني لم أدرك ماهيتها إلا بعد أن كبرت، وبعد أن اندثرت بفعل العبث، ونقل الرمال ليدفن به البحر.
الحلقة الخامسة([19])
ليس في هذه الحلقة ما يثير الاهتمام، عدا غلط طباعي هو: (السومرييم)، صوابها: (السومريين)، وبواقي الأخطاء موضوعية، منها قوله: {وعقيب رجوعي من زيارتي لتاروت، توفرت على زيارة القسم الشمالي من منطقة الأحساء، وصادفت في طريقي أثناء السفر قوافل الجمال تدلف في سيرها الوئيد نحو الواحات المختلفة في الربع الشمالي الغربي. وكانت الأرض مجدبة، لا شجر فيها تقريبًا، ولا شيء يسترعي الاهتمام، غير أني وجدت على بعد سبعة أميال إلى جنوبي جبيل البحري، الميناء الصغير مدينة غربية مهجورة على قمة جبيل البحري، وعلى قمة هذا التل تقع أنقاض بيوت حجرية مستطيلة الشكل تفصل بينها شوارع مرتبة ترتيبًا نموذجيًّا حسنًا، ولم يكن فوق التل أو سفحه أثر لبئر، كما أني لم أعثر على خزان أو مستودع لماء}، ويكمل هذه الفقرة بحديث عن مناعة المكان وحصانته، معللا ذلك إلى مقاومة السكان غارات وغزوات فجائية شنها فرسان غزاة من الصحاري المجاورة، ويتم الفقرة بالاستدلال بألوان كسرات الفخار الزرقاء والخضراء التي عثر عليها هناك على أن هذه المدينة نسي اسمها من أمد طويل في القرون الوسطى. وأنه طرق سمعه بين الفينة والفينة حديث عن قلاع ساحلية على بعد 85 ميلاً غربي جبيل، فقام يبحث عن آثار تلك الخرائب، ترافقه سيارتا الحمل، وكان طريقه نحو الشرق عبارة عن بحر متموج من الرمال، فكان في هذه السفر أشبه براكب قارب من سلسلة من الأمواج غير المتناهية، ص: 438.
كذا! قلاع ساحلية على بعد 85 ميلاً غربي الجبيل يسير إليها من الجبيل ترافقه سيارتان متجهًا نحو الشرق. ونحن نعلم أن الجبيل ليس شرقيه سوى البحر. فهو كالحبشي، يشير إلى يده بتمرير يده خلف عنقه.
محطة قوافل قديمة
من آخر الصفحة 438 وحتى آخر المقال في الصفحة 440، يقابلنا السيد المترجم بالأخطاء التالية:
– {وقفنا في “حناط” نتزوَّد بالبنزين، وحناط هذه واحدة من بضع قرى في هذا القفر النائي}، ويتكرر اسم حناط حتى نهاية الصفحة 439.
– {ويقع المكان المسمى بالتاج على طريق القوافل المهم الذي يربط المملكة (الحيرة) في بلاد ما بين النهرين، بنجران في جنوب جزيرة العرب}.
– تحت عنوان: أول القلاع الجبلية، نقرأ: {بلغنا – بعد أن قطعنا سلسلة منحدرات حوضية الشكل تسمى وادي المياح – حافة الجرف الشرقية، وعندها أسرعنا إلى تسلق أولى القلاع}.
– بعد وصف للقلعة التي تسلقها لا طائل من نقله، نقرأ: {والمعقول أن هذه القلعة شيدت في غضون القرن التاسع عشر، القرن المشحون بالقلاقل والفتن عندما كان القرامطة الغلاة يجوبون شرقي جزيرة العرب، ويتحاربون، ثم هجرت منذ أمدٍ ليس بالقليل}.
غني عن البيان أن حناط، صوابها: الحناءة، والأهالي يسهلون الهمزة فينطقونها (الحناة)، وهي قرية قديمة وصفها الشيخ عبد الرحمن العبيد في معجمه بأنها تقع شمال ثاج([20])، وأنا شخصيا – توقفت بها عصر يومٍ من أيام ذي القعدة سنة 1366هـ، سبتمبر 1947م، في طريقي إلى الحج برفقة والديَّ، وأتذكر أنني رأيت بها جدران أحواضٍ مستديرة، ملئية بالطمي تشبه عيون القطيف تمامًا. أما الموضع الذي سماه (التاج) معرفًّا بالألف واللام، وبتاء مثنَّاة فوقية صوابه: ثاج بثاء مثلثة فوقية، وهو نكرة، وهو مقع أثري مشهور، ويبقى من أغلاط هذا المقال تحديده حقبة ظهور القرامطة بالقرن التاسع عشر، فهذه سبقت الإشارة إلى أن خالدًا الفرج قد رد عليه فيها، لكني أرجِّح أنها إمَّا سهوٌ من المترجم، أو خطأ طباعي.