مشروعان تزامن ميلادهما في عام واحد؛ أحدهما في شرقية السعوديه وهو مشروع يخص واحتي الشرقيه: فللقطيف مشروع الصرف الزراعي وللأحساء مشروع الري والصرف الزراعي.
وأما ثانيهما فهو بناء السد العالي في أسوان مصر!
فما العلاقة بينهما ومامدى الإرتباط بين مشروعين في دولتين مختلفتين؟ ولماذا اقترن إسم السد العالي بمشروع صرف القطيف الزراعي؟
كانت بداية كلا المشروعين في عام 1960، ولكن من الواضح أنه لم يكن لهذا التزامن أي تخطيط مسبق إذ لاعلاقة لمشروعين في بلدين مختلفين وإنما لعب دور الصدفة في تداخلات بعض الأمور ثم تولدت منها استعارة الأسماء وذلك لتشابه نوعية المشروعين من حيث أنهما في مجال الري والصرف وكذلك من حيث تزامن وقت الشروع ولا ننسى ضجة الإعلانات حول تنفيذ المشروعين في عام واحد ولكل دولة إعلامها الخاص بمشروعها. بالنسبة لإنجاز مشروع شرقية السعوديه فقد تم إنجازه بعد 3 سنوات تقريبا ثم امتدت لسنتين من أجل بعض الإضافات والصيانات بعد عمل متواصل وكان أوجه بين عامي 1963 و 1964 (1383هج) بينما لم يعلن عن افتتاح مشروع سد أسوان إلا عام 1970.
فالسؤال هنا هو: هل خلق هذا التزامن خلفيات ساعدت على استعارة الأسماء؟ أم أنه حدث لبس في التسميات؟ أم أن الإعلام لعب دوره في خلط أوراق التسميات بين القطيف وأسوان حتى صار أهالي القطيف يطلقون مسمى (السد العالي) على مشروع صرفهم الزراعي؟من المعروف أن كلتا واحتي الشرقيه (القطيف والأحساء) كان اعتمادهما الكلي في ري الزراعة على المياه الجوفية التي تنبع من العيون القديمة والمعروفة بعيون السيح النباعه بالإضافة إلى العيون الإرتوازية التي حفرت في مستهل القرن العشرين، وكانت مياه تلك العيون تتدفق عبر قنوات ري و صرف قديمة كقدم تلك العيون وهي كبيرة في الإتساع فبعضها أشبه ماتكون بالأنهار الصغيرة من حيث الاتساع والتي كان يعرفها أهالي القطيف والبحرين بالسابات (مفردها ساب) ويعرفها أهالي الأحساء والقليل من أهالي بعض قرى القطيف بالثبور (مفردها ثبر) علما بأن كلا اللفظين منحذرين من أصل عربي. إن الفائض من تدفقات مياه عيون الأحساء بالإضافة إلى مايتبقى بعد الري فهو يصب في منخفضات مكونة بحيرات عذبة كبيرة كبحيرة الأصفر، وأما القطيف فإن المتدفق والفائض من مياه عيونها له اتجاهان: اتجاه شرقي يصب في البحر (الخليج العربي) مباشرة وهو مياه عيون القرى الشرقية القريبة من البحر وذلك بعد الإنتهاء من الري وهي تشمل أغلب مياه عيون القطيف.وأما في قرى القطيف الغربيه فنظام تصريف مياه عيونها مختلف تماما إذ يشبه نظام تصريف مياه عيون الأحساء أي انها تصب في بحيرات متعددة ولكنها تعرف محليا (بالأخوار) كخور تويريت الشمالي وخور تويريت الجنوبي بالأوجام حيث تبلغ مساحة أكبرهما (الشمالي) 700,000 متر مربع تقريبا، وهذه المساحة بعد تناقصه من أطرافه بسبب الردم الجائر بالأنقاض التي ترمى حول بعض أطرافه. وهناك العديد من الأخوار التي تغذيها عيون قرى القطيف الغربيه وهذه الأخوار بدورها تقوم أيضا بتغذية اخوارا أخرى تقع في الجنوب الغربي والشمال الغربي حول الواحة. لقد كان نظام السابات -الآنف ذكرها- مصمما وفق قوانين هندسية في غاية الدقة والتعقيد وكانت تتدفق من خلالها المياه على مر تلك الحقب والسنين وهي تنساب بين جميع بساتين ومزارع تلك القرى والمدن حتى تصب في الأخير -وكما أشرت- في بحر الخليج العربي أو في تلك الأخوار التي يسميها البعض البحيرات، غير أن اتساعات تلك السابات ليست على مستوى ثابت إذ يتراوح مابين المترين إلى الأكثر من ثلاثين مترا أحيانا وكذلك أعماقها الغير ثابته بالإضافة إلى اختلاف قوة تدفقها من مكان إلى آخر.كل هذه الأسباب دفعت شركة الزيت العربية الأمريكيه (أرامكو) إلى الإقتراح على وزارة الزراعة بالتخطيط والتعاون معها في فكرة النهوض من أجل تنظيم مشروع الري والصرف بشكل موحد في الإتساع والعمق والاتزان في تساوي قوة دفع المياه ومنعها من التسرب او تشكيل المستنقعات مع رصد ميزانية ضخمة له. فكان لكل واحة من الواحتين نصيبها من هذا المشروع حسب ظروفها البيئيه فنصيب الأحساء من نظام الري الحديث كان أغلبه أحواض خرسانيه معلقة وبعض الصرف فيها يشبه نظام صرف القطيف الذي كان عباره عن جداول مائيه حفرت على الأرض وباتساعات وأعماق ثابتة وموحده علما بأنه لم يتم تحويل جميع تلك السابات إلى مصارف حديثة إذ بقي الكثير منها على حالته السابقه وخصوصا السابات الصغيرة منها، كما أن بعض تلك السابات لاتزال باقية حتى أيامنا هذه وبنفس المسميات وهي تؤدي نفس مهماتها، كما ولا يغيب عنا ان بعض السابات نفسها قد أدخلت عليها تعديلات لتتحول إلى مصارف حديثة وبالتالي بقيت محتفظة بنفس الأسماء القديمه لتلك السابات التي هي مكانها كما هو في الساب الكبير والساب الصغير في سيهات فهما حتى وقت تحويلهما الى مجاري قبل 3 أعوام كانا يدعيان بهذين الإسمين (الساب الكبير والساب الصغير)، وكذلك الحال بالنسبة لمصرف (سد) الشويكه القادم من الشمال ثم المنعطف الى الشرق إذ كانوا يسمونه ساب ابو خمسه حتى بعد تحويل أغلبه إلى مصرف لكونه حفر في نفس مكان ساب ابو خمسه وإن كانت هناك آثار من ساب ابو خمسه لاتزال بجانبه. وجدير بالذكر أن سابات صفوى بقيت كما هي سابات تصب في البحر و لم تحولها وزارة الزراعة إلى مصارف في بداية الستينات كبقية سابات مناطق القطيف وكذلك سابات جزيرة تاروت، ولكون أن سابات القرى الغربيه كسابات الأوجام وأم الساهك والدريدي والخترشية والرويحه وغيرها تصب في الأخوار فهي لم تحول أيضا إلى مصارف حديثه بل بقيت كما هي عليه إلى أن اضمحلت كبقية السابات والمصارف إلا ماندر منها.في عام 1960 عندما بدأ المقاول الثابت في تنفيذ مشروع صرف القطيف الزراعي كان موضوعه حديث الساعة عند الناس عامة والمزارعين خاصة حيث كان ينتابهم بعض القلق والمخاوف حول التغييرات التي ستطرأ على نظام الري الذي تعودوا عليه طوال تلك السنين حيث كانوا يضعوا نصب أعينهم بعض السلبيات كفقدان سهولة التحكم في ري مزارعهم وبساتينهم (لمساقا) كما كان يشاء كل فرد منهم والذي كان يتماشى مع نظام (الوضح): وهو نصيب كل بستان يستحقه من الري يوميا خلال فترة زمنية تقدر بالساعات. ومن أحاديث الساعة أيضا والذي جاء متزامنا مع مشروع الصرف الزراعي هو (القص): أي إزالة بعض المنازل لفتح الشوارع وبالأخص شارع الملك عبدالعزيز وقد تناولته الصحف سوية مع مشروع الري و الصرف الزراعي. لقد كانت الصحف المحلية تتابع سير تقدم مشروع الصرف بالإضافة إلى مجلة قافلة الزيت التي تصدرها شركة أرامكو وهناك أيضا البرنامج الإذاعي السعودي (الأرض الطيبه) الذي تعده العلاقات العامه بوزارة الزراعة والمياه والذي يقدمه الإعلامي السعودي عبدالكريم الخطيب وكانت هناك ديباجة موسيقية مع اغنية قصيرة لذلك البرنامج أعدت في لبنان وهي من ألحان العازف عبدالفتاح سكر وكانت كلماتها:
(أزرع واحرث أرض بلادك..
بكره تمطر خير لأولادك).
في ذلك الوقت نفسه كان أهالي القطيف أيضا يتابعون أخبار سيرة السد العالي بإسوان كحدث كبير على مستوى الدول العربيه وذلك من خلال المحطات الإذاعية المصريه كصوت العرب والشرق الأوسط وهنا القاهره وغيرها من محطات إذاعات الدول العربيه الأخرى.قبل بدء مشروع سد أسوان تحدث الرئيس جمال عبدالناصر عن بناء المشروع وقد قال ضمن خطبة له قديمة و مشهورة: (أحنا أممنا القنال) فهو يشير بهذا إلى عام 1956 ثم قال فيما بعد: (قلنا نبني سد عالي..سد عالي). عندها استلهم الشاعر أحمد شفيق كامل كلمات من هذه العبارات لينضد منها قصيدة غنائية وطنيه بمسمى (حكاية شعب) وكان مطلعها: قلنا ح نبني ودحنا بنينا السد العالي فكانت لهذه الأغنية أيضا صدى عالي إذ أن الذي غناها كان أكثر المطربين شهرة بين الشباب في الوطن العربي آنذاك وهو عبدالحليم حافظ ماجعل الأغنية متداولة بين الجميع حيث ذاع صيتها فانتشرت بين الشباب كما وكانت تذاع في كثير من المحطات الإذاعية العربيه بين آونة وأخرى وكان نصيبها في التداول كنصيب أي اغنية جديدة نالت شهرة واسعه يدندن بها جميع الشباب والأطفال في كل مكان.الظريف في الأمر أن أغلب من عمل في شق وبناء قنوات مشروع صرف القطيف الزراعي كانوا من الجنسية اليمنية فبعضهم كان يعمل مشغل معدات حفر ثقيله (سلنقات slings) وبعضهم يستخدم المعدات اليدويه ليمهدوا طرقا للتراكترات والسلنقات الحفاره، فكانوا عند انتهاء ساعات العمل وذلك في وقت الأصيل من كل يوم يخرجون من مقر عملهم زرافات متجهين للسكن وكل واحد كان يحمل على كتفه معوله من مسحاة أو فأس أو مجرفه وهم يرددون هذا البيت فقط من الاغنية دون غيره (وبلهجتهم اليمنيه مع تغيير بعض الكلمات) وذلك أثناء سيرهم هاتفين بصوت عالي: (أحنا قمنا واحنا بنينا السد العالي) والاطفال يرددون وراءهم وهم يصفقون لاهين فرحين في هذا الموكب العمالي اليومي البهيج. لاشك أن معنى هذه الكلمات زرعت انطباعا في أذهان هولأء الأطفال، كما أنه كلما سمع الناس هذه الأغنية -ومع كثرة ماكانت تذاع- أرتسم في بالهم أن السد العالي المقصود هو هذه المصارف التي كانت تشق أيامها في القطيف. فتواتر الأخبار المتعلقة ببناء سد أسوان من جهة بالإضافة إلى انتشارها بين مجتمعات العالم العربي وكذلك تزامن الشروع في بناء ذلك السد مع بدء انشاء نظام الصرف الزراعي في القطيف من جهة أخرى وكذلك قيام مجتمعنا بدمج أخبار المشروعين بالإضافة لتأثر الكثير منهم بمصر آنذاك ومتابعتهم لسماع أخبارها المستمرة من خلال محطاتها الإذاعية وكذلك اسهام هذه الإغنية التي ذاع صيتها في الوطن العربي، كل ذلك خلق جو إنطباعي بشكل سريع دفع أهالي المنطقة إلى أن يطلقوا على مصارف القطيف ذات المناظر الخلابه مسمى السد العالي.ومع أن الناس فيما بعد شرعوا في التنازل عن لفظة (العالي) واكتفوا بمسمى السد إلا أننا نلاحظ ظهور كلمة العالي بين آونة وأخرى وخصوصا عندما يصف شخص موقع قريب لأحد المصارف لشخص آخر -مثلا- وذلك من أجل زيادة التوضيح،
فبالرغم من مضي ثلاث سنوات تقريبا على الإنتهاء من تغطية جميع مصارف القطيف -باستثناء جزء يسير منها- إلا أن الإسم لم يندثر مع أختفاء تلك المصارف، فكلما أراد شخص أن يصف طريقا قريبا من أحد تلك المصارف ذكر لفظة (السد) الفلاني لأن آثارها لاتزال قائمة وهي الجزر أو الأرصفة التي تحيط بأماكنها المغطاه والتي تفصل بين الشارعين في هذه الأيام والتي كانت في تلك الأيام مصارف.ربما يستمر ذكر مسميات هذه المعالم في التداول بين الناس ولعل هذا الإستمرار ينتقل وراثيا إلى أجيال قادمة أخرى ولكن إلى أي مدى وإلى أي جيل؟ الله أعلم.
بومحمد رحم الله والديك، انت كالنهر الذي لا ينضب، بارك الله لك هذا التوثيق الجميل كما أتمنى ان تقف على وضع الري والصرف بالأحساء لتقوم بتوثيقه على وضعه الحالي قبل ان يندثر.
مقال جدا جميل ورائع الله يعطيك العافية أبو محمد
توثيق جدا ممتاز و مجهود تشكر عليه
توثيق جميل جدا لم أكن أعرف سبب التسمية ونورتنا يا أبو محمد الله ينور أيامك