نتحدث عن التلقائية ونعني بها مجموعة من الظروف التي وفرت ملاحظات اهتدى من خلالها البشر لإدراك معارف ساهمت في تطور الحالة المدنية والمعيشية واعتماد سبل وممارسات ساهمت في بلوغهم مستويات معيشية أرقى.
نحن نتكلم هكذا بشكل تنظيري بحت، وبعيدا عن بيانات الآركيولوجيا التي حتما سوف تسهل علينا تقنين تصوراتنا في هذا الشأن وطبعا في حال توفرها، ولكننا هنا نحن فقط ننظر.
فعندما نحاول تصور الظروف التي اهتدى من خلالها البشر لركوب البحار، وهذا على سبيل المثال، نستطيع افتراض عدد من السيناريوهات التي قد تكون ساعدت مجاميع بشرية للإهتداء لهذه المعرفة.
أحد هذه السيناريوهات هو مداهمة أمواج ساحلية عاتية لمستوطنة بشرية استقرت على الساحل واضطرار بعض أفراد المستوطنة للتمسك بقطع خشبية طافية وركوبها حتى سكون الموج. وأن هكذا سيناريو كفيل بهداية هؤلاء لاحقا للإستعانة بالطوافات ومن ثم تطويرها إلى قوارب واستغلالها في عبور المسطحات المائية (1).
مايميز هذه المكتسبات المعرفية التي تأتي عن طريق الصدفة أو “التلقائية” – كما عبرنا عنها – عن مفهوم الإختراع هو أنها قد تحدث في أي وقت وفي أي مكان. أي أن قابلية تعرف مجموعتين أو عدد من المجاميع البشرية عليها في أماكن معزولة زمنيا وجغرافيا واردة.
أما الإختراع فيأتي ضمن آلية أخرى، فاختراع العجلة أو القوس المعماري على سبيل المثال، ليس من السهل مصادفة التوصل إلى إنجازه في مكانين منعزلين، بل عادة مايتم انتقال هذه التقنية الصناعية عبر التواصل بين الأمم. بينما قد تتكرر سيناريوهات المعارف التلقائية في أكثر من مكان مهما ازدادت العزلة بين هذه الأماكن وكبرت المسافات الفاصلة بينها.
حقيقة الأمر فإن المعارف التي تعلمها البشر عن طريق التلقائية كثيرة. منها تطويع النار وتهجين الحيوانات والإهتداء للزراعة التي أسهمت في نشوء ما بات يعرف بالثورة النيوليثية Neolithic revolution قبل حوالي 12 ألف سنة، وهي التي عدت إحدى الثورات الإنسانية الكبرى (2).
وحيث قادتنا الآركيولوجيا وتقنيات التزمين إلى التعرف على المواطن الأولى التي شهدت ظهور بذرة الزراعة ألا وهي منطقة الشرق الأدنى، إلا أن ذلك لايعني بالضرورة عدم اهتداء مجاميع بشرية أخرى للزراعة وبشكل معزول وأحيانا مواز زمنيا.
فبينما يرفض فراس السواح في كتابه لغز عشتار نظرية التطور المتوازي (3)، وهنا نتحدث تحديدا عن ظاهرة الإهتداء للزراعة في أماكن متعددة ومعزولة، يناقش جاريد دايموند Jared Diamond في كتابه أسلحة جراثيم وفولاذ Guns Germs And Steel بأن شعوب غينيا الجديدة وهي أراض شديدة البعد والعزلة (4)، اهتدوا لزراعة محاصيل قريبة من شجر الموز في وقت مقارب لتعرف شعوب الشرق الأدنى على زراعة الحبوب، ما يسهم في دعم مبدأ التلقائية.
لابد لنا هنا أن نراعي بأن ماذهب إليه السواح وآخرون قد يكون صحيحا وتحديدا فيما يخص المعارف التي أسهمت في بناء المدنيات الأولى ولكن صحته مبررة في نطاق العالم القديم، أي آسيا وأوروبا وإفريقيا حيث السهولة النسبية في التواصل بين قاطني هذه القارات الثلاث. ولكن رفض مبدأ التطور المتوازي إجمالا يدخلنا في إشكالية حينما نعلم بأن محاصيل بدائية لنباتات البطاطا والطماطم وغيرها تمت زراعتها في أراضي القارة الأمريكية وفي فترات تعود لحوالي 10 آلاف سنة (5).
يتضح لنا وجه الإشكال عند مراقبتنا لرقمين أساسيين، الأول، هو زمن اهتداء شعوب الشرق الأدنى للزراعة وهو قرابة ال 12 ألف سنة. والثاني، زمن هجرة شعوب مايعرف بثقافة كلوفيز Clovis Culture أي سكان الأمريكتين الأصليون، وعبورهم مضيق بيرينغ Bering Strait قبل حوالي 14 ألف سنة (6) وهي الفترة التي كان لايزال فيها متجمدا، وتحوله بعدها بقرون قليلة إلى مضيق مائي لايزال يفصل القارتين الأمريكتين عن باقي العالم.
بمعنى أن سكان الأمريكتين تمكنوا من الوصول إلى هناك قبل اهتداء سكان الشرق الأدنى للزراعة بحوالي الألفي عام، وأنهم عزلوا بعدها عن العالم بشكل تام بحيث لايمكنهم التعرف على معارف وتقنيات شعوب العالم القديم.
إذا فليس أمامنا لشرح الأسباب التي تمكنت من خلالها شعوب الأمريكتين من الإهتداء للزراعة إلا ذات التلقائية التي ساقت تجمعات استيطانية في الشرق الأدنى يرجح انتمائها إلى الثقافة النطوفية وهم سكان وادي النطوف في فلسطين، إلى مراقبة البذور بعد دفنها في الرمال وبعد هطول الأمطار من النمو وهو مامكنهم من التعرف على طبيعة عمل هذه الخاصية الطبيعية واستغلالها لضمان حاجتهم الغذائية عبر فصول السنة (7).
ولكن ماقد يهدد صمود مبدأ التلقائية الذي افترضناه وعلى الأقل في هذا الجانب هو أن يتم التوصل لمعارف تفيد بأن الأمريكتين وإن كانتا معزولتين جغرافيا فإن شعوبهما توفرت على وسائل تواصل معينة مع باقي العالم وهو ما بدأنا نقرأه بأشكال مختلفة كوجود آثار في أمريكا الجنوبية تعتمد تقنيات بناء وجد أنها تتشابه في معماريتها مع الصروح الحجرية العظيمة Megalithic Structures وهي آثار متوزعة بشكل غير مبرر في كل بقاع العالم (8). ولكن هذا شأن آخر نناقشه في مساحات قادمة.
أقول أن هذا قد يهدد صمود المبدأ ولكن دحضه لا يبدوا سهلا.
*باحث في علم الإنسان القديم
المصادر:
- يذكر أن نقاشات علماء الإنسان القديم ترجع ظاهرة ركوب الطوافات إلى سلالات بشرية قديمة كالهومو هايدلبيرغنسيس الذي يعتقد أنه تمكن بواسطة هذه الطوافات عبور مضيق جبل طارق قبل أكثر من 800 ألف سنة. بل أنه استغل هذه الطوافات للوصول إلى جزيرة كريت.
https://www.nationalgeographic.com/news/2010/2/100217-crete-primitive-humans-mariners-seafarers-mediterranean-sea/ - الثورة الزراعية أو النيوليثية هو تعبير عن مرحلة انتقالية شهدتها البشرية حيث بدأت مجاميع بشرية تتخذ طبيعة حياة الإستقرار الزراعي بعدما ظلت طوال مراحلها الأولى متنقلة وتعتمد طبيعة الجمع والصيد.
https://www.history.com/topics/pre-history/neolithic-revolution - لغز عشتار للمؤرخ فراس السواح (ص 15 و 16)
- Guns Germs And Steel لجاريد دايموند Jared Diamond
- The development of agriculture in the Americas: an ecological perspective
https://esajournals.onlinelibrary.wiley.com/doi/full/10.1890/ES10-00098.1 - من المفيد توضيح العلاقة المباشرة بين ظاهرة المد الجليدي كنمطية مناخية مترددة مع تشكل هذا المضيق البحري المسمى بمضيق بيرينغ حيث أنه يتحول إلى طريق سالكة بين أراضي أقصى الشمال الشرقي لجمهورية روسيا وولاية ألاسكا الأمريكية وذلك في أقصى استعار لدرجات الحرارة التي تنخفض فتؤدي بتجلد مياه المضيق. إضافة لتأثير انخفاض درجات الحرارة وتجمع كميات كبيرة من مياه المحيطات على شكل كتل جليدية حول الدائرة القطبية الشمالية مايؤدي إلى انخفاض شديد في مستويات البحار.
https://www.livescience.com/64786-beringia-map-during-ice-age.html - الثقافة النطوفية The Natufian Culture هي ضمن أهم ثقافات العالم من حيث الترجيح الذي يقول بأن أفرادها هم من تنبه لخاصية إنبات الحبوب. وهي ثقافة استمرت من بدأت قبل حوالي 15 ألف سنة وانتهت قبل 11 ألف وانتشرت في نطاق واسع جنوبي منطقة الشام حيث أخذت اسمها من وادي النطوف بفلسطين.
https://www.academia.edu/33008657/The_Natufian_Culture_The_Harbinger_of_Food-Producing_Societies - مصطلح الصروح الصخرية العظيمة Megalithic Structures هو حديث نسبيا حيث بدأ تداوله حديثا خلال الثلاث عقود السابقة. مايميزه هو تقنياته البالغة الدقة وضخامة القطع الصخرية المستخدمة في البناء. إلا أن أهم ماتتميز به هذه الآثار هو عمرها الذي يعود أحيانا لماقبل 12 ألف سنة. كما أن هذا النوع من الآثار ينتشر بشكل لافت في جميع قارات العالم.
http://www.terradegliuomini.com/megalithic-civilizations-in-the-mediterranean-area-and-south-america.html
إلى جانب التعلم (التلقائي) وهو أمر وارد جداً. وله ما يؤكده في عصرنا الحاضر. الا يمكن افتراض انه يحصل جرة فردية (منقطعة) شخص أو اثنين، أو أكثر. تنفلت لسببٍ أو لآخر. ثم تصل إلى مجموعة أخرى. بالصدفة. ثم تعيش معها. وبهذا تنقل لها ما لديها من أشياء تعلمتها بالتلقائية. لكن في موطنها الأصلي. التي أتت منه. وهنا يكون تعلم المجموعة الأصلية. ليس بالتلقائية. إنما بالنقل من طرف آخر (انسان). تعلم الشيئ من (التلقائية).