على غرار الرحالة والمستكشفين، قطعنا دروب الصحراء خلال شهر فبراير باتجاه الشطر الشمالي من المنطقة الشرقية، وبالتحديد في المساحة البرية القريبة من محافظة النعيرية، بحثاً عن مواقع ومحطات عبرناها قبل عشرة أعوام، برغبة اكتشاف معالم أثرية، ومواقع تاريخية، أرشدنا إليها الأجانب الذين وضعوا الكثير من الإحداثيات في هذه الرقعة الجغرافية.
الفوارق بين المشاهدتين، الأولى والثانية، تتصل بطبيعة النشاط في هذه المنطقة التي تعرف بكثافة أنشطة الرعي للإبل والماشية، فهنالك تمدد في هذا الجانب، إضافة إلى مشاريع صغيرة متفرقة للدواجن والأعلاف في مقدمة الطريق الرملي، يبدو ملفتاً للنظر طبيعة المخيمات والمباني المؤقتة التي باتت حاضرة هي الأخرى ضمن حدود المكان، فإلى جوار بيوت الشعر وجدنا تجهيزات متقدمة لتوفير المزيد من الراحة والخدمات في هذه المناطق التي تغيب عنها شبكات الهاتف الجوال.
كانت بداية الرحلة عند القرية السفلى، وهي القرية التي هجرها أهلها باتجاه القرية العليا كما يقال، فيها تبدو المباني المسلحة جنباً إلى جنب مع المباني الطينية، يغلفها الصمت، ما عدا صوت الريح، و أصوات الطيور على أغصان الشجر الرفيعة وهي الشاهد على تجذرها العميق بالأرض، وإلى جوارها مساحة بها بعض الشجر يظهر أنها تستخدم كحظيرة للإبل من قبل أحدهم.
لاشيء تغير من الزيارة السابقة سوى الحاجز الرملي الذي يحيط بالقرية، وكأنه قد وضع لمنع اقتراب السيارات من محيط المباني، لا شيء يوحي بأن القرية في سبيلها لأن تكون ضمن المعالم الأثرية، فكل شيء فيها عرضة لعبث العابثين، الذين مازالوا يخطون ذكرياتهم على الحيطان هناك.
الجبال القريبة من المكان كانت الوجهة التالية في هذه الرحلة، ثمة جبال تمتاز بالدحول والشقوق التي تشبه الكهوف، أخذنا نتعقب المواقع إلا واحدا منها، وكنا قد شاهدنا فيه في الزيارة السابقة عظاماً في جدران الجبل يرجح البعض أن تكون من بقايا عظام حيوانات منقرضة، عظام بارزة في شقوق الجبل، لكن المصادفة الحسنة والسيئة في آن هي أن الجبل قد تم تسويره ضمن خطة حمايته على ما يبدو، ما يعزز القناعة بإدراجه ضمن الآثار المعتمدة من قبل هيئة الآثار..هي مصادفة حسنة لأنها تؤكد على وجود اهتمام رسمي بالمكان، وسيئة لأنها حرمتنا من الوصول إلى داخله والوقوف على تفاصيله.
هذا الحظ السيء جلب معه حظاً جيداً أيضاً، فالجبل الملاصق له لا يقل أهمية عنه، حيث وقعنا على آثار صريحة لعظام كبيرة، في تجويفات الجبل، وبدا واضحاً أن أحدهم قد تعدى على جانب منه بقلع قطعة عظم كبيرة كانت في طرف من أطرافه!..كان ملفتاً أيضاً كمية القطع الصغيرة المتناثرة والتي تعود إلى فخاريات قديمة جداً، ما يدل على أن ثمة حياة قد مرت من هنا في أزمان سحيقة.
القصص كثيرة عن التعدي على الآثار، وفي كثير منها تنسب إلى أجانب وصلوا مبكراً إلى هذه الأماكن واستكشفوها، غير أنه لا يمكن قصر دائرة الاتهام بهم فقط، فالعابثون لا أسماء لهم، ولا سحنات، هم من كل لون وعرق، والعبث لا ينحصر بسرقة أو تخريب، بل حتى أفعال التجريف والتبديل في أحوال المكان.
لم تكن الأجواء المتقلبة وحدها من أثر على اتجاهات الرحلة وسيرها، فالأسلاك الشائكة التي أخذت تتمدد على طول الصحراء كعلامات على حدود ملكيات متناثرة هناك، كانت تعوق التنقلات وتطيل المسافة في بعض الأحيان، الأمر الذي لم يكن موجوداً خلال الزيارة الأولى، ولأن الرحلة مقتصرة على العبور دون التخييم كنا نتنقل بين موقع وآخر دون استراحة، حتى نصل إلى قرية ثاج قبل غروب الشمس في نهاية المشوار.
رفقاء هذه الرحلة لم يحظوا بفرصة مشاهدة قطع الأشجار المتحجرة، فقد جرى تعبيد طريق يقطع هذا الموقع، لا أعرف تحديداً تاريخ هذه الأشجار، إلا أنها بوصف المهتمين تشير إلى تواريخ بعيدة، أي تلك العصور التي يربكنا بها أرباب الجيولوجيا حين النظر إلى الصخور المتناثرة في عمق الصحراء!.
في هذه الصحراء، ثمة حضور مهيب للجبال أو التلال الصخرية المتناثرة على أطرافها، الرياح التي تغدو وتروح بكثير من الراحة تهب الجبال الكثير من تضاريسها، لكل جبل حكاية، أو هكذا يبدو، لكن الوقت القصير لن يهبنا الكثير للتعرف عليها، ما يجعل من النظر إليها والتأمل فيها من بعيد خياراً وحيداً لاستعادة شيء من خواطرنا تجاهها.
قرية ثاج، أو مملكة ثاج، هي خاتمة الزيارة، قصدناها قبل المغيب، فوجدناها تقف بقليل من الملامح البارزة على مسافة من القرى والمدن القريبة، قرأنا وسمعنا الكثير عن هذه الحضارة التي تشاغل الباحثون في دراستها، غير أن الموقع لم يعد يحمل لنا الكثير من الأخبار عن تلك القرية الأثرية، وحدها المواقع المسورة من قبل هيئة الآثارة تذكرنا بتاريخ المكان، ننظر من ثقوب السياج فلا نرى إلا حجارة مصفوفة كأنها الدليل على وجود قبور في هذا المكان..لوحة هيئة الآثار لا تقول شيئا، سوى التحذير من التعدي، بينما الأرض المحيطة بالموقع تكرمت علينا ببعض المعلومات وهي تهبنا قطعاً متناثرة من بقايا الفخاريات، ولو جرى التنقيب والحفر في المكان مجددا سيكون من الممكن الوصول إلى آثار مطمورة تعيد ترميم حكاية هذه المملكة، التي قد تكون كل المواقع التي عبرناها تنتسب إليها بنحو أو بآخر.