ضيقنا المخارجَ من همومِ الحياة على أنفسنا، فلم تعد إلا حيطاناً وأرصفةَ أسمنت تحدنا من الجهات الست. قلما تكون في منازلنا فسحةً تنمو فيها شجرة، وقلما تجد خارج أسوارنا سوى السيارات الصدئة والطوب.
لم ندرك أن أفضل علاجٍ لأجسامنا وعقولنا هي الطبيعة التي نرى فيها الخلق والخالق. لو عدنا لها واعتنينا بها أكاد أجزم أنها هي الدواء من كثيرٍ من أمراضِ العصر وأتعابه، لكننا نهرب سريعاً نحو الطبيب فلابد أن يكون عنده الشفاء في حبةٍ أو إبرةِ دواء!. في أجسادنا قدرة الترميم والإصلاح لكثيرٍ مما يصيبها لو أعطيناها الفرصة وهيئنا لها الظرفَ المناسب وراحة النفس، فالطبيعة هي ذلك الظرف.
لابد أن الأمراض تنشأ فينا نتيجةً لخرق قوانين الجسم الطبيعية، فإذاً يكون الـشـفـاء، بقدرة الخالق، مـن وفي الطبيعة حين يعمل الجهاز الذاتي على تقوية الجسم لسرعة الشفاء. حلل باحثون من كلية الطب في جامعة إكسيتر بإنجلترا بيانات الصحة النفسية لعشرة آلاف شخص من سكان المدن، واستعملوا خرائط دقيقة لِتتبع المناطق التي سكنها هؤلاء الذين شملتهم الدراسة على مدى ثماني عشرة سنة. وتوصلوا إلى أن الأشخاص الذين يعيشونَ في مناطق أقربَ للمساحات الخضراء هم أقل شكوى من الغم، وذلك حتى بعد الأخذ في الاعتبار مستويات الدخل والثقافة والوظيفة. وفي عام ٢٠٠٩م، وجد فريقٌ من الباحثين الهولنديين معدلات أقل لظهور خمسة عشر مرضًا تشمل الاكتئابَ والقلق ومرض القلب والسكري والربو والصداع النصفي لدى الذين لا تبعد منازلهم أكثر من كيلومترٍ واحد من المساحاتِ الخضراء.
كما اكتشف فريق بحثي من الجامعة ذاتها، أن العيشَ في المدن الساحلية، لا سيما بجانب البحر، يساهم في تخفيض مخاطر الإصابة باعتلال الصحة العقلية، وعلى رأسها الكآبة والإجهاد الذهني، أكثر خمسَ مراتٍ من العيشِ في المدن الأخرى.
في الطريق إلى العمل والمدرسة لا مناظر سوى السيارات المسرعة أو التالفة أو مستودعات وورش البناء والصناعة، مناظر كلها خالية من ألوان الطبيعة ولا تبعث فينا الهدوء والراحة. رحلاتٌ قصيرة نصل بعدها وجهتنا وكأنها في طول ساعاتٍ أو أيام! لذلك علينا أن نجعل الطبيعةَ حاضرةً أينما ننظر.
أيام قليلة ننتقل بعدها من الشتاء المعتدل نحو فصل الربيع الدافئ. سوف تستيقظ فيها الطبيعة فنرى البلبلَ البلدي الذي قل عدده يسكن ما توفر من أشجار، ونسمع أصوات كأننا لم نسمعها من قبل ونرى مناظر لم نرها من قبل! أشهر لو زرعنا فيها شجرةً واحدة سوف تعلمنا الصبر ورِقةَ القلب، فالطفل والشجرة يحتاجان الرعايةَ والإهتمام، ويبقى صاحبهما مشغولاً بهما.
ليس غريباً أن يكون أطول الناس أعماراً وأصلحهم أجساداً من يسكن الصحراءَ وقرب البحر والبساتين بعيداً عن الطوب والحجر. أماكن ومناظر يصح فيها العقل والجسد ويتعرف فيها الإنسانُ على عظمة الكون وقدرة الخالق. ولا غرابة أن مشاكل البدانة والكآبة هي أكثر في ساكني الأماكن المغلقة!
إنسانٌ وقليل من الماء والتراب والوقت هو كل ما تحتاجه الحياة والطبيعة! فلا غرابة حين عدَّ المفكر مالك بن نبي الإنسانَ والترابَ والوقتَ من أهم البناء الحضاري.