النظرية الثالثة:
ثبت فيما مضى خطأ النظرية الرأسمالية التي ترى أصالة الفرد وأن المجتمع يشبه تجميعا ميكانيكيا للأفراد، حيث تؤدي مصلحة الفرد بالضرورة الى مصلحة المجتمع. وثبت أيضا خطأ النظرية الماركسية التي ترى أصالة المجتمع، وأن المجتمع يشبه مركبا كيميائيا ذابت أفراده كليا فيه، فما يهم هو مصلحة المجتمع والتي تحقق بالضرورة مصلحة الأفراد. وسنستعرض فيما يلي وجهة نظر النظرية الثالثة للعلاقة بين الفرد والمجتمع.
علاقة الفرد بالمجتمع:
ترى هذه النظرية أن المجتمع مركب حي يتكون من أعضاء حية تتفاعل مع نفسها ومع بعضها البعض. فكل عضو يحافظ على استقلاليته النسبية ولكنه في نفس الوقت يؤدي دوره كجزء من مركب حي كبير إسمه المجتمع. وهذا المركب الكبير أي المجتمع يتحرك ويتطور نتيجة حركة وتطور أفراده ولكن ليس بصورة ميكانيكية. فكل فرد يتحرك ويتطور ذاتيا بنسب مختلفة تعتمد على طاقاته واستعداداته، والمحصلة النهائية لتفاعل وتطور الأفراد هو تطور المجتمع. وحين يتطور المجتمع ينعكس ذلك على جميع الأفراد بصور مختلفة تعتمد أيضا على طاقاتهم واستعداداتهم الفردية. فللمجتمع حياة وقيم وثقافة تنسب اليه كمركب حي كبير، كما أن لكل فرد حياة وقيم وثقافة تنسب له كفرد.
وجدير بنا أن نلاحظ أن لكل فرد مساحة واسعة وحرية في نطاقه الشخصي للتغير والتطور ذاتيا بغض النظر عن بقية أفراد المجتمع، وقد ينجح في التأثير على بعض أفراد المجتمع ويدفعهم للتطور تدريجيا في نفس الاتجاه، حتى يكون هذا التطور هو السمة الغالبة على أفراد المجتمع فيصبح هذا التطور اجتماعيا. وليس من الضرورة أن يكون هذا التطور نتيجة تطور قوى ووسائل الإنتاج كما ترى الماركسية. ثم ينعكس هذا التغير الاجتماعي على بقية أفراد المجتمع الذين لم يتطوروا بعد، حتى يصبحوا جزءا من التغير الجديد. نعم، تتفاوت درجة التأثير والتغير حسب خلفية الفرد وتفاعله مع بقية المجتمع.
ويعزز التاريخ هذه النظرية في التغيير، وهي باختصار «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». فهذا رسول الله محمد بن عبد الله بدأ دعوته الى الإسلام وكان ثباته وعزيمته وحكمته عونا له في نشر دعوته. وقد ورد في الدعاء بيانا لصفاته: «صل اللهم على الدليل إليك في الليل الأليل، والماسك من أسبابك بحبل الشرف الأطول، والناصع الحسب في ذروة الكاهل الأعبل، والثابت القدم على زحاليفها في الزمن الأول، وعلى آله الأخيار المصطفين الأبرار». فمسيرة التغيير التي عاشها وقادها النبي خير مثال لقدرة الفرد على الإنجاز والإنتاجية، فقد نقل مجتمعه من ظلمات الجاهلية ووأد البنات وعبادة الأصنام الى نور الهداية وعبادة الله الرحمن الرحيم. وحين إنتشر الدين الجديد وأسس مجتمعه في المدينة المنورة، جاء فتح مكة ليدخل في الدين الجديد من بقي فيها من غير المسلمين. وهكذا قاد النبي هذا التغيير الذي كسر حاجز المكان والزمان، وستبقى البشرية تستضيء بأخلاقه وسيرته وشريعته الى يوم القيامة.
بنية المجتمع:
ذكر تفسير الميزان للطبطبائي الجزء الرابع (صفحة 95 – 96) أن أعضاء الإنسان المتفرقة كالسمع والبصر والأيدي وغيرهم تؤدي أدوارا مهمة ولكنها حين تتحد في جسم الإنسان الواحد تتولد منها الكثير من الفوائد التي لا يمكن حدوثها بدون هذه الوحدة الجسمية. ومنها خاصية الإنجاب والتكاثر والسمو الروحي مثلا. وهكذا يكون تجمع الأفراد في البنية المجتمعية الواحدة، فتجمع الأفراد الغاية الواحدة، وتتحقق بها أهداف وطاقات تتعدى حدود الفرد وطاقاته المحدودة.
ولتقريب الفكرة، دعنا نتصور المجتمع كجسم كبير، تتكون أعضاؤه من عدة مجاميع من الأفراد، فهناك مجموعة أفراد تمثل يدا وأخرى تمثل رجلا وأخرى تمثل رأسا وأخرى تمثل عقلا وأخرى تمثل قلبا وهكذا. ويتفاعل أفراد كل مجموعة بداخلها ومع بقية أفراد المجموعات الأخرى في هذا «المجتمع» الجسم الكبير. ويجمع هذه المجموعات وحدة نوعية وغاية مشتركة في هذا الجسم المركب الكبير فحين يكون المجتمع سليما يتحرك أفراد هذه المجموعات التي تمثل أعضاء الجسم لخدمة الجسم الكبير أي المجتمع وتتعاون فيما بينها لتحقيق الغاية المشتركة. وهكذا تتضح علاقة الفرد المتفاعلة مع بقية أفراد المجتمع، ووجوده معهم متحدين ضمن الجسم الاجتماعي الكبير.
أنظمة المجتمع:
نعرف أن لجسم الإنسان دورة دموية ودورة هضمية ودورة تنفسية يكمل بعضها بعضا وهي في حالة توازن كامل إن كان الجسم سليما. كذلك فللمجتمع أيضا أنظمة تتكامل وتتوازن فيما بينها مثل: النظام التعليمي والاقتصادي والثقافي وكل الأنظمة التي تعمل في حياة المجتمع. وكل نظام كما هي الدورات البيولوجية في جسم الانسان لها مدخلات ومخرجات وتجري فيها عمليات ولها نظام تحكم يضمن كفاءة المنتج. فكما في التنفس يدخل الأكسجين ويخرج ثاني أكسيد الكربون، ويتم ذلك في الجسم من خلال الدورتين التنفسية والدموية، فكذلك تتكامل الأنظمة الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية. خذ مثلا نظام التعليم فمدخلاته هم الطلبة والأساتذة والمناهج، والمخرجات هم خريجو وخريجات المدارس والجامعات، والعمليات هي التدريس والتدريب، ونظام التحكم هو مراقبة الأداء وتصحيح المناهج. فحين يكون هذا النظام التعليمي قويا تتخرج الكفاءات لتلتحق بالقوى العاملة في المؤسسات والشركات ويثمر النشاط الاقتصادي. ولكن حين يكون النظام التعليمي ضعيفا يكون مستوى الخريجين او الخريجات ضعيفا، فحين تلتحق كقوى عاملة بالمؤسسات والشركات ينتقل هذا الضعف ليؤثر سلبا على النشاط الاقتصادي.
صفات المجتمع:
تبين فيما مضى أن المجتمع يشبه مركبا كبيرا متفاعلا من مجاميع إنسانية يحمل صفات الحياة والتطور والإنتاجية، فله ثقافة وقيم ويشار إليه باستقلالية عن الفرد الذي يعيش فيه. فقد يكون المجتمع منتجا بينما يكون هذا الفرد او ذاك غير منتج والعكس صحيح. وذلك لأن الصفة والروح الجمعية في هذا المركب الاجتماعي الكبير تعكس الصورة الغالبة عليه. وهذه الصورة الغالبة على المجتمع الكبير أو الروح الجمعية قد تكون نتيجة إحدى الحالات التالية:
- أكثرية المجتمع تتسم بهذه الصفة الغالبة،
- الأقلية تتسم بهذه الصفة ولكنها تؤثر وتتحكم في مسيرة المجتمع،
- وجود شخصيات معدودة ولكنها مؤثرة ومحورية تمثل الواجهة لهذا المجتمع.
علاقة المجتمع بالمجتمعات الأخرى:
قد يكون المجتمع متكاملا ومتزنا فيعمل جميع أفراده وأنظمته في حالة تناغم وتكامل فيما بينها وكأنها جسم الإنسان حين تعمل عيناه وأذناه ويداه ورجلاه وبقية أعضائه كوحدة واحدة لخدمة الجسم الواحد. ولكن هذا لا يعني أنه سيتعامل كمجتمع مع المجتمعات الأخرى بنفس الدرجة من الاتزان والتكامل. تماما، كما قد تعتدي يد إنسان فتقتل او تسرق إنسانا آخر. وخير مثال على ذلك هو بعض المجتمعات الغربية التي تتسم بأعلى درجات التكامل في داخلها ومع أفرادها فتهتم بمصالحهم وتسهر على راحتهم ولكنها في نفس الوقت قد تعتدي على مجتمعات أخرى في الدول الفقيرة دون أي وازع من رحمة. فحين ينظر الإنسان الى هذه المجتمعات يجب عليه أن ينظر الى تعاملها ليس فقط مع أفرادها بل أيضا مع المجتمعات الأخرى. وهذه إحدى سلبيات الرأسمالية في سعيها الحثيث للسيطرة على بلدان العالم الفقيرة لتحصل منها على المواد الخام الرخيصة ولتغرق أسواقها بمنتجاتها الصناعية والزراعية.
مصلحة الفرد أو مصلحة المجتمع؟
قد تتفق مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع وقد تختلفان، المهم أن يكون هناك توازن وتكامل بين المصلحتين. خذ مثلا جسم الإنسان فلو أن يد الإنسان تستفيد من أدوية معينة لتعطيها القوة والنشاط ولكن هذه الأدوية قد تكون قاتلة للإنسان فتسبب جلطة قلبية او دماغية فهل سينصح الطبيب بها؟ أو أن هذه المنشطات تنمي يدي الإنسان حجما وقوة على حساب أعضائه الأخرى فيصبح جسمه شاذا، فهل من المفيد استخدام هذه المنشطات مثلا؟ من هنا يتبين أن النظرة الرأسمالية الى مصلحة الفرد كمعيار للإنجاز والإنتاجية بغض النظر عن مصلحة المجتمع ليس صحيحا. فمصلحة اليدين مثلا كما سبق قد تكون قاتلة للجسم أو مشوهة له.
وبالمثل، فليس كل ما يبدو أنه مصلحة اجتماعية يعتبر معيارا للإنجاز والإنتاجية. خذ مثلا، قد تكون هناك منشطات تبعث النشاط والحيوية في جسم الإنسان من خلال تسريع الدورة الدموية، ولكنها تتسبب لاحقا في إصابة عضلة القلب بالتضخم، أي أن ما يبدو أنه مصلحة للجسم قد يكون في الواقع على حساب القلب، فهل ينصح الطبيب بمثل هذا؟. ولذلك فإن نظرة الماركسية بأن مصلحة المجتمع هي معيار الإنجاز والإنتاجية دون مراعاة مصالح الأفراد ليست صحيحة.
يوجد توازن دقيق وحساس بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، وهذا التوازن يمثل المعيار الحقيقي للإنجاز والإنتاجية. أما كيف نستطيع الوصول الى هذا التوازن الدقيق والحساس فذلك ما سنناقشه فيما يلي.
التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع:
تتميز النظرية الثالثة بسعيها الحثيث لضمان صلاح وسعادة الفرد والمجتمع المادية والمعنوية، فهي نظرية أصيلة إنسانية اجتماعية اقتصادية أخلاقية يجب علينا أن نبذل الجهد لدراسة آرائها ومن ثم عرضها في الساحة العالمية للمناقشة والدراسة والتطبيق ما أمكن. وأحب أن أذكر أن هذه النظرية الثالثة في الإنجاز تصلح بصفتها الإنسانية للتطبيق بغض النظر عن الدين والجغرافيا. نعم، قد تبدو بعض الأنظمة كالحقوق الشرعية دينية، ويبدو التشجيع على الصدقات وغيرها من الأعمال الأخلاقية بالجزاء الأخروي غيبيا، وهذا ما نعتقده ونؤمن به، ولكن هذا لا يمنع الإنسان، دينيا او لا دينيا، شرقيا او غربيا، أن يطبق هذه النظرية لأنها تتفوق على النظريتين السابقتين وتقدم الحلول الناجعة للمشكلة الإنسانية. إن هدفنا هو تشجيع وتحفيز الإنجاز والإنتاجية لتتحقق السعادة وتتطور الإنسانية في أرجاء الدنيا شرقها وغربها.
علاقة الإنتاج ثلاثية العوامل في الرأسمالية والماركسية:
تسعى كل النظريات الاجتماعية والاقتصادية الى تشجيع وتحفيز الإنجاز والإنتاجية في الفرد والمجتمع. ولكن ما هو المجتمع الذي نعنيه هنا؟ المجتمع هو الأفراد الآخرون الذين يعيشون او يشتركون او يعملون مع الفرد. وحيث أن الإنتاج عملية تحتاج الى الأرض والمصادر الطبيعية من الماء والمواد الخام، لذا فإن العوامل الثلاثة المهمة في علاقة الإنتاج، كما تراها الرأسمالية والماركسية، هي عوامل مادية: وهم الإنسان، والإنسان الآخر الذي يعمل او يعيش معه «أي المجتمع»، والطبيعة «أي الأرض». لذلك درست النظريتان هذه العلاقة ذات العوامل الثلاثة بصورة مادية بحتة بعيدا عن الأخلاق والقيم والدين.
العامل الرابع في النظرية الثالثة:
تضيف النظرية الثالثة عاملا رابعا الى هذه المعادلة الثلاثية وهو الله سبحانه وتعالى. وهذا العامل الرابع يرسم علاقة جديدة تختلف تماما عن العلاقة السابقة ذات العوامل المادية الثلاثة، فوجود الله في المعادلة الرباعية يجعل الإنسان خليفة على الأرض ومستأمنا عليها من قبل الله «المالك الحقيقي». ويجعل العلاقة مع الإنسان الآخر علاقة تتسم بالإنسانية، كما ورد عن الإمام علي عليه السلام: «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»، فله حق الحياة بعزة، دون استغلال لحاجته أو امتهان لكرامته. ويضيف هذا العامل الرابع نظاما اقتصاديا واجتماعيا شرعه الدين عبر الرسول المرسل من قبل الله، وهو النبي محمد ﷺ. كما ويضيف اعتقادا راسخا بحياة أخروية أبدية فيها الثواب والعقاب مما يعطي معنى متكاملا مع الحياة الدنيا. إن وظيفة هذه العلاقة الرباعية وما أسست له هو ضمان سعادة الفرد والمجتمع المادية والمعنوية. فهي تضمن تحفيز الإنجاز والإنتاجية وصناعة الحضارة وتكوين الثروة والغنى ومعالجة الفقر في الدنيا وتضمن الخلود في الجنان في الدار الآخرة، فقد جاء الحث صريحا، حيث ورد: «أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا»، وقال تعالى: «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا»، وقال تعالى: «ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون». تجدر الملاحظة بأنه يمكن دراسة هذه النظرية بالتفصيل من زاوية اقتصادية في كتاب اقتصادنا للسيد محمد باقر الصدر.
ركائز النظرية الثالثة:
- تحفيز الإنتاج من خلال: التشجيع على العمل وطلب الغنى، وضمان حرية الإنتاج والأسواق،
- عدالة التوزيع من خلال: ضمان حق السبق لأي إبداع او اختراع وتقدير جهد العامل، وفرض حقوق مالية على الثروات والأرباح، واستخدام هذه الحقوق لتأمين الضمان الاجتماعي لمحدودي الدخل من الفقراء والمحتاجين، وحث الأغنياء على الإحسان وتقديم العون للآخرين،
- السماح بالملكية الفردية الخاصة لتشجيع الأفراد على الإنتاج والادخار والاستثمار، وتلبية لفطرة الإنسان في حب التملك، ومنها يتكون القطاع الخاص كالمؤسسات والشركات،
- السماح بالملكية العامة للكثير من المصادر والممتلكات العامة واستثمارها في البنى التحتية والمشاريع الأساسية ذات الكلفة العالية والمردود الربحي القليل والتي يحجم عنها الأفراد والشركات المملوكة للقطاع الخاص.
- المال أي النقود ليست سلعة تباع وتشترى، فلا يجوز إقراض المال مقابل ربح مضمون «الربا». فبدلا من تكديس الثروة نقدا في البنوك، يفضل المشاركة بها مع اليد العاملة في أعمال تجارية او غيرها على أن توزع الأرباح حسب أتفاق الأطراف المشاركة. وحين ننظر الى الهزات الاقتصادية السابقة نجدها قد أفلست بالكثير من الشركات والحكومات نتيجة الديون المتراكمة والفوائد الربحية الباهظة المفروضة عليها.
سمات النظرية الثالثة:
- التوازن بين القطاع الخاص والقطاع العام يحقق تنمية اقتصادية متوازنة تلبي جميع الحاجات المادية والمعنوية، فبينما يقوم القطاع الخاص بالاستثمار والتنافس على المشاريع ذات الفرص الربحية، يتولى القطاع العام مشاريع الخدمات والبنى التحتية من الكهرباء والماء والصرف الصحي والقطارات والمطارات والجامعات والمستشفيات وغيرها،
- الكفاءة في الإنتاج نتيجة الحرية المتاحة للاستثمار والأسواق وقوانين العرض والطلب لتحديد الثمن مما يشجع المنافسة على ضمان الجودة والإنتاجية بأقل تكلفة ممكنة،
- تحريم الغش والإحتكار مما يضمن تنافسية عادلة وكفاءة مميزة في العملية الإنتاجية،
- تحريم التبذير في الاستهلاك مما يوفر المصادر الطبيعية لتلبية حاجة البشر ولضمان التنمية المستدامة،
- تجنب الدعاية الاستهلاكية ما أمكن وتحريم الاحتكار لرفع الأسعار، عدالة التوزيع تضمن سعادة الفرد والمجتمع في المجالات المادية والمعنوية،
- حيث أن الإنسان فطر على حب ذاته، فإن هذه النظرية تلبي هذه الفطرة في الدنيا والآخرة. ففي الدنيا تشجع الإنسان على العمل والجد لاكتساب الثروة والغنى وتسمح له بالملكية الفردية. وفي الآخرة تبشر الإنسان بالسعادة والدرجات العليا جزاء لإيتاء الحقوق المالية المفروضة عليه ولإحسانه وإعانته للفقراء والمساكين،
- توافق هذه النظرية القيم الأخلاقية في بسط العدالة وتقدير الكفاءات ومحاربة الفساد المالي والإداري.
نناقش فيما يلي تطبيقا عمليا للتوازن بين مصلحة الفرد و المجتمع كما تراها النظرية الثالثة، و التي تنادي بتطبيق مفهوم (الإنسان أولاً) مقارنة بالنظرية الرأسمالية و التي تطبق مفهوم (الأرباح أولاً).
(الأرباح أولا) أو (الإنسان أولا):
حين ننظر الى العملية الإنتاجية في عصرنا الحاضر يتبين بجلاء ووضوح أهمية الإنسان المتعاظمة في صناعة الإنجاز. إن أي خطأ يرتكبه الإنسان في عمله قد يكلف ملايين الدولارات أحيانا. وإن أي اكتشاف أو اختراع يصنعه الإنسان قد يؤسس لمستقبل مشرق للشركات تزيد قيمته عن بلايين الدولارات. وقد تزايدت هذه القيمة للإنسان في عصر المعلومات فأضحت الفكرة والمعلومة جوهرة الاقتصاد الحديث. ولكن مع الأسف، بنيت مدارس الإدارة الغربية على النظرية الرأسمالية التي تحكم أسواق العالم المفتوحة وأسواق البورصة لأسهم الشركات المدرجة. وحيث أن الإدارة تمثل أصحاب رؤوس الأموال المساهمين في ملكية الشركة فإن جل اهتمامها هو زيادة قيمة السهم السوقية وهذا لا يكون إلا بتعظيم الأرباح وتقليل التكاليف «الأرباح أولا». ولذلك قد تدفع أي هزة اقتصادية إدارة الشركات لتسريح مئات الآلاف من العاملين وذلك لتقليل التكاليف. وهذا ما يسبب قلقا متزايدا لدى الطبقة العاملة وشعورا بعدم الأمان وعائقا يثبط عملية الإنجاز الفردي والاجتماعي.
لقد آن الأوان أن تتغير مدارس الإدارة الحديثة الى نمط (الإنسان أولاً) والذي يعطي حافزا قويا ودافعا صادقا للإنجاز والإبداع على مستوى الأفراد والشركات. إن نمط (الإنسان أولاً) يتأكد بناء على النظرية الثالثة التي توازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع والتي أضافت الطابع الإنساني الأخلاقي الى العوامل المادية.
أمثلة تاريخية على أهمية الفرد في صناعة النفط:
أكتشف رينولدز حقل مسجد سليمان النفطي عام 1908، ليكون أول حقل يكتشف في منطقة الشرق الأوسط، ثم أنتقل الى فنزويلا وأكتشف حقل روزا النفطي عام 1922. إن رينولدز والكثيرون من أقرانه خير مثال على أهمية الإنسان القصوى في الصناعة البترولية. وفي المقابل، تعرضت صناعة البترول الى كوارث فنية وبيئية واقتصادية نتيجة إهمال بعض موظفيها او عدم كفاءتهم، فمثلا تسببت كارثة السفينة فالديز التابعة لشركة اكسون عام 1989 في تسرب النفط مما كلف الشركة خمسة بلايين دولار. وأدت كارثة ماكوندو في خليج المكسيك الى الحريق الذي أتى على المنصة البحرية عام 2006، ففقد إثرها أحد عشر عاملا، وخسرت شركة البترول البريطانية عشرات البلايين من الدولارات كتعويضات للمتضررين. وهناك الكثير من الأخطاء الفنية التي قد تحدث ويتم تبريرها لغير المختصين، منها مثلا:
- أخطاء في حفر بعض الآبار مما يرفع تكلفة البئر الى عشرات الملايين من الدولارات
- أخطاء في إدارة المكامن البترولية قد تتسبب في خسارة احتياطيات تقدر ببلايين البراميل
- أخطاء في تصميم وتنفيذ بعض المشاريع قد تؤدي الى رفع التكلفة ببلايين الدولارات
- أخطاء في تطوير الحقول قد تؤدي الى نصب منصات بحرية لا يمكن استخدامها، وتبلغ تكلفتها مئات الملايين من الدولارات.
تبين فيما سبق أن الإنسان في الصناعة البترولية يستطيع أن يوفر بكفاءته او يكلف بجهله البلايين من الدولارات. لذلك فإنه من المهم لشركات البترول تطبيق مبدأ «الإنسان أولا» في إدارة الصناعة البترولية.
كيف تطبق الشركات مفهوم (الإنسان أولاً):
آن الأوان أن تطبق الشركات البترولية ثلاث قيم مهمة جدا مع العاملين والموظفين في الصناعة البترولية. وهذه القيم هي: الكفاءة، والعدالة، والشفافية. والكفاءة هي المهنية والمعرفة والخبرة في التخصص المطلوب وتطبيق أحدث التقنيات المعمول بها عالميا. ولكن كيف يتم اختيار وتوظيف وتطوير هذه الكفاءات؟ هنا يأتي دور العدالة في إعطاء كل ذي حق حقه، فلا تمييز في التوظيف، ولا محاباة في التطوير وتنصيب الأشخاص في الوظائف القيادية، ولا حرمان لأحد او مجموعة تتسم بالكفاءة من التوظيف والتطوير. وحين نضمن الكفاءة والعدالة، يصبح التنافس شريفا، فمعيار الأداء والتقدير السنوي هو الإنجاز والإنتاجية، وهذا هو النظام المعمول به في الصناعات المتطورة.
ولكن كيف تتأكد الشركات من ترسيخ قيم الكفاءة والعدالة؟ يتم ذلك عبر تطبيق مبدأ الشفافية، ونشر أكبر قدر ممكن من المعلومات عن التوظيف والتطوير داخل الشركة وخارجها، كأسماء المتقدمين للتوظيف والمقبولين منهم، وأسماء المرشحين لتبوء المناصب القيادية في الشركة وأسباب ترشيحهم. نعم، قد يستغرب البعض من مستوى هذه الشفافية ويعتبره ليس عمليا، ولكن الحقيقة أن إخفاء هذه المعلومات وعدم نشرها يتسبب في فقدان الثقة وزرع الشكوك وفسح المجال للتلاعب وعدم العدالة. ولذلك فقد بدأت الكثير من الشركات العالمية المدرجة في الأسواق العالمية في نشر تقاريرها السنوية عن التنوع ونسب التوظيف والتطوير والتأهيل للمناصب العليا من الطوائف والأعراق المختلفة. وهذا يمثل تطبيقا عمليا وحضاريا لمبدأ الشفافية الذي يزرع الثقة ويلمس قلوب العاملين ويضمن كفاءة أفضل وعدالة أشمل.