النظرية الثانية وهي الماركسية:
يجدر بنا أن نستعرض هنا بعض هذه المناخات التي ولدت فيها النظرية الماركسية:
المناخ الفكري:
لقد طور الفيلسوف الألماني هيغل نظريته الديالكتيكية التي سماها المترجمون بالجدلية. والجدل يعني المناظرة والمخاصمة لإثبات أو دحض قضية معينة. أما جدلية هيغل فتعني انتقال الذهن من فكرة معينة الى فكرة تناقضها ثم التركيب بينهما، وتتكرر هذه العملية الذهنية الى أن يصل الإنسان الى الفكرة المطلقة. وهنا يجب التأكيد على تركيز هيغل على التفكير في المتناقضات والتنقل الذهني في عملية تصاعدية بحثا عن الفكرة المطلقة.
وجاء بعد هيغل، الفيلسوف فيورباخ الذي إعتبر أن الإنسان إبن الطبيعة وينتسب اليها فهي أقرب الأشياء اليه. لذلك فهو أسس الفلسفة المادية التي ترى أن الطبيعة المادية هي الأساس لأفكار الإنسان وليس العكس. ولاشك أن فيورباخ تأثر كثيرا بنظرية الانتخاب الطبيعي لدارون الذي سبقه، والتي تنص على أن الطبيعة هي التي تتغير فتتأثر بعض الكائنات الحية لتتأقلم معها بينما تموت وتفنى الكائنات الأخرى التي لاتتواءم مع المتغيرات الطبيعية. وهكذا يكون البقاء للأقوى. فالطبيعة في نظر دارون حاكمة على حياة الكائنات ومنها الإنسان. في هذا المناخ الفكري وضع كارل ماركس نظريته في المادية التاريخية والمادية الجدلية وهي مركب من جدلية هيغل ومادية فيورباخ.
المناخ الاقتصادي:
لقد تأسست المصانع والشركات الغربية منذ القرن السادس عشر تقريبا وبدأت الثروات في النمو وانطلقت الأساطيل الغربية تجوب البحار بحثا عن المواد الخام والأسواق سواء من إسبانيا والبرتغال وبعدها من هولندا ثم من بريطانيا وفرنسا. وتم صيد البشر من افريقيا وجلبهم الى العالم الجديد «امريكا» وبيعهم ليعملوا كالعبيد في الزراعة وغيرها. وقد عانى العمال في الحقبة الأولى من الرأسمالية وحتى بدايات القرن الماضي من جشع المصانع والأثرياء فمات الكثير منهم نتيجة الأمراض الفتاكة وساعات العمل الشاق الطويلة.
ويرى فريدريك إنجلز زميل كارل ماركس أن العملية الإنتاجية والنشاط الاقتصادي الرأسمالي يكون كمايلي:
تتكون وسائل الإنتاج في المصانع غالبا من الأرض ورأس المال «متمثلا في الآلة والتكنولوجيا والنقد» والعمال. وحين ننظر الى تكلفة منتج معين، «والتي تشمل إيجار الأرض وتكلفة الآلات وقيمة المواد الخام ورواتب العمال وتكلفة التخزين والتوزيع والتسويق»، فهي قد تبلغ دولار واحد فقط مثلا، بينما يباع المنتج في الأسواق بدولارين. فمن يأخذ فائض القيمة هذا وهو دولار واحد لكل منتج يباع في السوق؟ إن مالك المصنع، وهو صاحب رأس المال، هو من يجني فائض القيمة هذا، بينما لا يحصل العامل سوى على أجره اليومي فقط. وهكذا تتراكم ثروة صاحب رأس المال مع كل منتج يباع في السوق.
وحين تستخدم الآلة في المصانع تقل الحاجة للعمال فيتم تسريح قسم كبير منهم، ويضطر بقية العمال للقبول بأجر أقل من السابق، مما يضعف مستواهم المعيشي. وحين تنمو الشركات وتزداد الثروة وتكبر المصانع وتزداد المنافسة، تخسر المصانع والشركات الصغيرة وينتقل مالكوها تدريجيا الى سوق العمل بحثا عن عمل يعيشون بأجره، وهكذا تقل الطبقة الوسطى وتزداد الطبقة العاملة وتتضاعف منافستها على الوظائف المحدودة المتبقية.
ورغبة من الشركات والمصانع في زيادة أرباحها فإنها تعمد إلى الدعاية وتشجيع الاستهلاك مما يزيد في تكلفة المنتج ويشجع العمال على الاقتراض لزيادة الاستهلاك. وهكذا تضغط الديون وأرباحها المستحقة على الطبقة الفقيرة مما يزيدها فقرا بينما تزداد الطبقة الغنية ثراء، وهكذا تتولد طبقية فاحشة في المجتمع.
المناخ الديني:
كانت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى «القرن الخامس الى القرن الخامس عشر الميلادي» دينية ودنيوية. وقد لعب البابا دور الوسيط بين الملوك الأوربيون أحيانا. وسمحت هذه المكانة للبابا عام 1094 للدعوة الى الحروب الصليبية والتي استمرت متقطعة لأكثر من مائتي عام.
وقد دعت الكنيسة المسيحيين الى الإيمان بالإنجيل وبنظريات العلماء الأقدمين كاعتبار الأرض مركز الكون مثلا، واعتبرتها جزءا من العقيدة المقدسة وأقامت محاكم التفتيش لمعاقبة العلماء الجدد الغير مؤمنين بها. كما وانتشرت الرشوة وضرب الفساد الأخلاقي والمالي الكنيسة، واستحدثت صكوك الغفران.
وقد ثار لوثر الألماني «1483 – 1546» في حركته الإصلاحية على الكنيسة الكاثوليكية متحديا فساد الكنيسة
وصكوك الغفران، ودعى الجميع الى قراءة الإنجيل بلغاتهم القومية بدلا من الاعتماد على قراءة الكنيسة باللغة اللاتينية. وبعدها برز كاليفن كقائد بروتستانتي آخر فتوزعت البروتستانتية بين اللوثرية والكاليفنية. وقد عمت اوروبا الكثير من النزاعات الدينية والحروب الطائفية وسفكت الكثير من الدماء في القرن السابع عشر.
وقد اهتزت ثقة الكثير من الناس بالكنيسة خاصة بعد ثورة الاكتشافات العلمية ونجاح الحركات التي طلبت من الكنيسة أن تنكفئ على نفسها وتمتنع عن التدخل في الأمور العلمية والحياة الاقتصادية والاجتماعية. وفي هذه الأجواء المشحونة على الكنيسة، برزت بعض النظريات المنكرة لوجود الخالق و المؤلهة للطبيعة. ومنها نظرية دارون للانتخاب الطبيعي ونظرية فيورباخ المادية وغيرهم.
في هذا المناخ الفكري والاقتصادي والديني عاش كارل ماركس «1818 – 1883» وزميله فريدريك إنجلز «1820 – 1895» ووضعا نظريتهما عام 1848م، وسنستعرض هذه النظرية والردود عليها.
المادية الجدلية:
أكدت فلسفة هيغل الجدلية دور الوعي الفكري في صناعة الواقع، حيث ينتقل الفكر بين المتناقضات ويركب بينها وصولا الى الفكرة المطلقة، والتي عرفت بالفلسفة المثالية. ثم جاءت مادية فيورباخ غير بعيدة عن فكرة ذرية المادة التي بشر بها الفيلسوف اليونان «الضاحك» ديموقريطس «370 ق. م – 460 ق. م» والتي ترى أن المادة تتكون من أجزاء متجانسة صغيرة جدا لا يمكن تقسيمها. وقد دعمها الفيلسوفان هيوم ولوك حيث أكدا أن إدراك الإنسان يتم عبر التجربة والمشاهدة بالحواس ثم البناء عليها في نظريات علمية. وهكذا خالف فيورباخ أستاذه هيغل حيث رأى أن التطور الإنساني يتم عبر صراعه المادي وليس عبر صراعه الفكري كما يرى هيغل. ولكن فيورباخ تحدث عن الإنسان المجرد بصورة عامة، ولم يتعرض لحركة الإنسان الاجتماعية. فجاء كارل ماركس لينزل بأفكار فيورباخ الى حركة المجتمع والتاريخ، مؤكدا أن الواقع الاجتماعي هو الذي يصنع وعي الإنسان وهذا عكس ما يراه هيغل بأن الوعي هو الذي يصنع الواقع الاجتماعي.
باختصار، ترى الماركسية أن الكون مادي ويتحرك ويتطور تبعا للقوانين العلمية المادية وليست تبعا للقوانين الغيبية وكذلك تتطور حركة المجتمع والتاريخ. لذلك يجب تطبيق القوانين العلمية على حركة المجتمع والتاريخ، ومن هذه القوانين التي يجب تطبيقها قوانين الجدل المادي.
الفرد والمجتمع في نظر الماركسية:
ترى الماركسية أن الإنسان كائن اجتماعي منتج، فالعمل والإنتاج لتحقيق حاجاته اللامتناهية هو مايميز الإنسان عن باقي الحيوانات. كما أن لدى الإنسان قدرة ذهنية على التجريد، أي النظر الى ما حوله بهدف تحويله الى منتج يستفيد منه، فحين ينظر الى جذع الشجرة ينتقل ذهنه الى التفكير في صناعة الكرسي والأثاث وغيره.
والإنسان في نظر الماركسية هو مجموع علاقاته الاجتماعية مع بقية أفراد المجتمع، وهو أيضا أحد وسائل الإنتاج المهمة بالإضافة الى الأرض والمواد الخام. ولذلك تربطه مع بقية وسائل وقوى الإنتاج علاقات يسميها ماركس بعلاقات الإنتاج كالملكية الفردية وطرق توزيع الثروة والتي تعتمد على وسائل الإنتاج الموجودة في المجتمع. وفي كل حقبة تاريخية تتطور وسائل الإنتاج وينقسم المجتمع الى طبقات حسب موقعهم وعلاقاتهم في العملية الإنتاجية.
قوانين الجدل المادي
وهي ثلاثة قوانين تنطبق على الطبيعة كما تنطبق على حركة التاريخ:
أولا: وحدة وصراع الأضداد وهي أن كل ظاهرة في الوجود تحمل بذرة فنائها، أي تحمل ضدها ونقيضها بداخلها، مما يجعلها في حالة صراع مع نقيضها. وينتج عن هذا التناقض والصراع الداخلي، حالة تغير وحدوث مستمرة. وهذا الصراع قد يكون تناحريا كما هو بين الماء والنار أو غير تناحري كما هو بين الأقارب.
ثانيا: تتراكم التغيرات الكمية حتى تصل الى درجة يصبح عندها التغير الكيفي حتميا. والمثال هو إرتفاع درجة حرارة الماء مع التسخين تدريجيا حتى يصل الى درجة الغليان فيتحول من حالته السائلة الى حالته الغازية كبخار ماء. ومعيار التحول هنا هو بلوغ الحرارة درجة الغليان. وهكذا ينشأ صراع جدلي بين حالة الماء السائلة السائدة حاليا وبين رغبة بعض جزيئات الماء للتبخر نتيجة الحرارة ويبقى هذا الصراع حتى يتبخر الماء.
ثالثا: نفي النفي «او سلب السلب» وتعني استمرار التغير والتطور من مرحلة الى آخرى كحالة لولبية تتكون من حلقات متصاعدة يدخل بعضها في البعض الآخر وليست كخط طولي متصاعد. فكل مرحلة تنفي سابقتها لتأتي المرحلة التي تليها فتنفيها. وتحوي كل حلقة من اللولب المتصاعد الحالة السائدة وبداخلها بقايا الحالة السابقة كضد سلبي يحاول الرجوع الى الحالة السابقة، وكذلك تحوي بذور الحالة القادمة كضد إيجابي يحاول التغير الى الحالة التالية. وحين ننتقل الى الحلقة التي تليها تتكرر حالة الصراع حيث تصبح الحالة التالية هي الحالة السائدة. ويضرب إنجلز مثالا على ذلك بمراحل تطور الفراشة حيث تنتقل من مرحلة البويضة الى الشرنقة ثم الى الفراشة الكاملة.
تطور وسائل الإنتاج عبر التاريخ
بدأ الإنسان حياته البدائية باستخدام يديه في عملية الإنتاج، ثم صنع الأدوات الحجرية للصيد، ثم القوس والسهام الحجرية للدفاع عن نفسه وللصيد، ثم المطرقة، ثم الفأس والمحراث اليدوي للزراعة، ثم العجلة والعربة التي تجرها الحيوانات، ثم السفن الشراعية، ثم الآلة البخارية والماكينة والسفن والقطارات البخارية، ثم ماكينة الاحتراق الداخلي، ثم الكهرباء والسيارة، ثم الحاسب الآلي والأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والروبوت والذكاء الاصطناعي.
حقب الحركة التاريخية لدى الماركسية:
عاش الإنسان تاريخيا عبر المراحل التالية تبعا لتطور وسائل الإنتاج:
- المشاعية البدائية: بدأ الإنسان حياته البدائية في الصيد، حيث كانت علاقاته بسيطة وغير معقدة فلم تكن هناك كما يزعم ماركس ملكيات فردية. وتطورت الحياة تدريجيا فتعلم الإنسان الرعي ثم الزراعة، أي كيف يحرث الأرض ويزرع البذور ويرويها ثم يجني المحصول ويجري عملية تبادل مع غيره من الناس فيبادل محصوله برؤوس الأغنام مثلا.
- العبودية: أثناء الفترة اليونانية والرومانية، ملك بعض الأسياد آلاف العبيد وسخروهم في الزراعة دون حرية او أجر مادي.
- الإقطاعية: ملك بعض الأرستقراطيين الأراضي الكبيرة وعمل معهم الآخرين مقابل أجور زهيدة، وهذه هي حالة اوروبا في العصور الوسطى قبل القرن الخامس عشر الميلادي.
- الرأسمالية: أنشأت المعامل واستخدمت الماكينة، وإلتحق البعض بهذه المعامل كطبقة عاملة بأجر يومي او شهري بينما يحصل صاحب المصنع على فائض القيمة بعد بيع المنتج في السوق. وهذه هي الحالة السائدة الآن في أغلب الدول الغربية.
- الشيوعية: ما تبشر به الماركسية مستقبلا، وهي المرحلة التي تنتصر فيها الطبقة العاملة وتلغى فيها الملكية الفردية وتنتفي فيها الطبقية.
البنية التحتية والبنية الفوقية لدى الماركسية:
يرى ماركس، أن وسائل الإنتاج في الطبيعة تؤسس علاقات إنتاج تتناسب معها. ويعتبر وسائل وقوى الإنتاج ومعها علاقات الإنتاج البنية التحتية في المجتمع، والتي تقوم عليها البنية الفوقية التي تتناسب معها وتتمثل في العلاقات الإنسانية كالفن والدين والأخلاق. ويبقى الإنسان مؤثرا ومتأثرا بوعيه في العملية الإنتاجية فيخترع ويبتكر ويؤسس لقوى ووسائل انتاج جديدة ولكنها تعود فتفرض عليه علاقات انتاج جديدة تحكمه وتؤثر فيه.
إن حجر الزاوية ومحور التغيير الاجتماعي هو تطور البنية التحتية من وسائل الإنتاج وما يتبعها من تغير في علاقات الإنتاج كالملكية الفردية وطرق توزيع الثروة، ونتيجة له تتغير البنية الفوقية كالأفكار والثقافة والأدب والأخلاق فتفرض نفسها على الإنسان كفرد من أفراد المجتمع. فالتغيير يحدث في البنية التحتية من وسائل وعلاقات الإنتاج وهو الذي يسبب التغيير في البنية الفوقية من أفكار الإنسان ووعيه وليس العكس. وكما يقول الماركسيون: إن واقع الإنسان الاجتماعي هو الذي يصنع وعيه وليس العكس، وهذا هو لب المادية.
المادية التاريخية:
التاريخ في نظر الماركسية يشبه النهر، فرغم أنه يبدو ثابت الشكل حين تراه من مسافة بعيدة، إلا أن الماء يتدفق فيه باستمرار. فالتاريخ يتطور باستمرار تبعا للتغير المستمر في وسائل الإنتاج وتطور القوى المنتجة. وهذا التغيير المتواصل في وسائل الإنتاج يتبعه تغير مستمر في علاقات الإنتاج وكذلك تتغير البنية الفوقية كالأفكار وغيرها، فكل مرحلة إنتاج تستخدم وسائل إنتاج معينة وتسود فيها علاقات إنتاج مناسبة لها ولكنها تحمل نقيضها في داخلها. وحين تتغير وسائل الإنتاج يحدث الصراع بين النقيضين، وهما طبقة المستفيدين من علاقات الإنتاج الحالية والتي تسعى لبقاء الوضع الراهن وطبقة الساعين الى التغيير وهم من سيستفيد من علاقات الإنتاج الجديدة. ونتيجة هذا الصراع الطبقي، يبدأ التغيير تدريجيا ثم يتطور هذا التغيير الكمي الى تغيير نوعي فجأة، فيولد النظام الجديد من علاقات الإنتاج الجديدة التي تتناسب مع وسائل الإنتاج الجديدة.
إن وسائل الإنتاج في أي مرحلة تاريخية تؤسس علاقات إنتاج تتناسب معها. وعند حدوث تغيير في وسائل الإنتاج تصبح علاقات الإنتاج الحالية حجر عثرة ومانعا للتطور، وعندها يبدأ التنافر بين علاقات الإنتاج الحالية وبين وسائل الإنتاج الجديدة التي تحاول أن تؤسس لعلاقات إنتاج جديدة. ويشتد الصراع الطبقي بين الطبقة المستفيدة من علاقات الإنتاج الحالية والتي تريد الحفاظ على الوضع القائم وبين الفئة الاجتماعية التي تؤيد التغيير لأنها ستستفيد من وسائل الإنتاج الجديدة. ونتيجة هذا الصراع، يبدأ التغيير تدريجيا لمدة من الزمن حتى يصل الى مرحلة يصبح التغيير فيها نوعيا فتسقط علاقات الإنتاج القديمة لتحل محلها علاقات الإنتاج الجديدة. وهكذا تستمر التغيرات في تاريخ البشرية بناء على قوانين الجدل الثلاثة المذكورة سابقا.
ولننظر الى الاقتصاد الرأسمالي كمثال:
استفاد أصحاب رؤوس الأموال كثيرا من الصناعة والماكينة كوسائل إنتاج طيلة القرنين الماضيين وراكموا ثروات طائلة من فائض قيمة المنتجات المباعة بينما بقيت الطبقة العاملة تعيش على أجورها. وتتكون علاقات الإنتاج الحالية من الملكية الفردية ومبدأ «الأرباح أولا» الذي تطبقه الشركات المدرجة في الأسواق العالمية المفتوحة. وعند حدوث أي هزة اقتصادية، يتعرض الآلاف من العمال للتسريح وتتبخر مدخرات الملايين من صغار المستثمرين لصالح طبقة الأغنياء. وقد تكونت نتيجة ذلك طبقية فاحشة بين الطبقة البورجوازية الرأسمالية كما تسميها الماركسية وهي طبقة ملاك رؤوس الأموال وبين طبقة البروليتاريا كما تسميها الماركسية وهي الطبقة العاملة.
ترى الماركسية طبقا لمبدأ الجدلية أن نقيض البورجوازية الرأسمالية هي البروليتاريا وهي موجودة معها في النظام الرأسمالي فلا غنى للبورجوازية عن البروليتاريا للعمل في مصانعها واستهلاك منتجاتها. وحبن يشتد الصراع الطبقي بين البورجوازية والبروليتاريا يحدث التغيير الكمي تدريجيا حتى يصل الى مرحلة الانفجار وهو التغير النوعي. وعندها تستولي طبقة البروليتاريا على النظام الإنتاجي ووسائل الإنتاج وتؤسس لمرحلة جديدة وهي مرحلة الاشتراكية في خطوة تمهيدية للشيوعية المطلقة. وبذلك تتأسس علاقات الإنتاج الجديدة وهي الملكية المشاعة حيث تلغى الملكية الفردية وتنتفي الحاجة لسلطة الدولة. هذه هي الجنة التي وعدت بها الماركسية والتي ينتهي فيها الصراع الطبقي اذ تنشر طبقة البروليتاريا العدل والرفاه ولا يوجد نقيض يتصارع معها. وتكون علاقات الإنتاج عندها طبقا لقانون «من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته»، وتختفي بذلك الملكية الفردية بتاتا.
الخلاصة، ترى الماركسية ما يلي:
- يبدأ التغيير في البنية التحتية وهي وسائل وعلاقات الإنتاج ومنها ينتقل التغيير الى البنية الفوقية وهي الأفكار والأديان والأخلاق والفنون وهذه ترجمة عملية لمادية فيورباخ والتي تتبنى المادة كصانعة للأفكار وليس العكس. فكل فكر وفن يتبناه الإنسان هو مصبوغ ومؤسس بناء على علاقات الإنتاج وليس لأي سبب آخر،
- يتأثر الإنسان بعلاقات الإنتاج فيكون إما مع علاقات الإنتاج السابقة او مع علاقات الإنتاج الجديدة، أي يكون إما مع البورجوازية مثلا او مع نقيضها وهي البروليتاريا. وهذا يعني أنه يتأثر بالطبقة الاجتماعية وعلاقاتها ومصالحها. فالأصل هو الطبقة الاجتماعية التي تؤثر في الفرد. فمثلا إن كان مع البورجوازية الرأسمالية فسيدعم الملكية الفردية وإن كان مع البروليتاريا فسيدعم الملكية المشاعة التي تتناسب مع أهدافها،
- تتوقف عجلة الجدلية بمجرد انتهاء الرأسمالية وانتصار البروليتاريا فلا نقيض لها،
- يعتمد الصراع الاجتماعي والحركة التاريخية على تغير وسائل الإنتاج فقط ولا يعتمد على أي سبب آخر.
التقييم الفكري للماركسية:
- يولد الإنسان بفطرة تحب العدالة والفضيلة والجمال وحب الذات بغض النظر عن المرحلة التاريخية او الطبقة الاجتماعية. ولا دليل على أن وسائل الإنتاج وعلاقاتها هي التي تؤسس لهذه الأمور،
- برز في التاريخ آلاف الأنبياء والمصلحين ودعاة الحق والفضيلة الذين غيروا مسار التاريخ وكان التغيير الاقتصادي وعدالة التوزيع والرفاه نتيجة وليس أساسا، «الأفكار صنعت الواقع الاقتصادي وقننت علاقات الإنتاج في بعض التجارب التاريخية»،
- إن حصر أسباب التطور التاريخي والاجتماعي في تغير وسائل الإنتاج كما تدعي الماركسية لا يمكن إثباته فلسفيا ولا علميا. فهناك مثلا تقدم علمي في الطب أدى الى انخفاض الوفيات وتحسن الوضع الصحي والتحكم في الإنجاب مما حقق تطورا تاريخيا اجتماعيا وهذا التقدم العلمي ليس نتيجة لاستخدام وسيلة إنتاج معينة،
- إن تقسيم الأمور الى بنية تحتية من وسائل وعلاقات الإنتاج وجعل الأفكار والأخلاق والأديان والفنون كبنية فوقية تابعة ومتأثرة ومصبوغة بالبنية التحتية لم يقم عليها دليل فلسفي او علمي. ونحن نعرف أن البشر منذ عهد آدم اتفقوا على جمال الصدق والأمانة والشجاعة والكرم والأخلاق الفاضلة، وأحبوا الفنون كالرسم رغم تغير وسائل الإنتاج عبر التاريخ، فكيف تغيرت البنية التحتية وبقيت البنية الفوقية ثابتة،
- يجدر بنا أن نسأل: هل النظرية الماركسية من علاقات الإنتاج فهي من البنية التحتية، او هي من الأفكار الأخرى فهي من البنية الفوقية؟ إن كانت من علاقات الإنتاج فلابد أن تتغير بتغير وسائل الإنتاج، وإن كانت من البنية الفوقية فهي ناتجة عن البنية التحتية ولا تحكم عليها. فالنظرية الماركسية حكمت على نفسها إما بالتغير وعدم الثبات مع تغير وسائل الإنتاج إن كانت من البنية التحتية او عدم الصلاحية كنظرية ثابتة وحاكمة إن كانت من البنية الفوقية،
- إن كانت الجدلية قانونا مضطردا، فأين النقيض عندما تنتصر البروليتاريا وتتحقق الشيوعية؟ فإن كانت الجدلية مضطردة، فلابد أن تحمل الشيوعية نقيضها وهذا سيؤدي الى زوالها والقضاء عليها،
- تعتمد نظرية دارون المادية للانتخاب الطبيعي على تأقلم الكائنات مع تغيرات الطبيعة وهي تعبير واضح عن حب الكائنات للبقاء «أي حب الذات». فلو افترضنا جدلا صحة نظرية دارون «تنزلا مع مادية فيورباخ وماركس»، فكيف غاب حب الإنسان لذاته، المتمثل في حب التملك، عن نظرية ماركس.
التقييم العملي للماركسية:
الماركسية فلسفة تاريخية اجتماعية اقتصادية لم تثبت علميا في المختبرات بالتجربة والملاحظة، ولكنها نظرية طبقت لمدة قرن من الزمن ونستطيع الآن أن نستعرض تاريخها ونتائجها العملية التالية:
- اهتمت الماركسية بتوزيع الثروة والملكية العامة،
- كانت محاولة تطبيق الماركسية دموية ذهب ضحيتها عشرات الملايين في الإتحاد السوفيتي،
- لم تنجح الشيوعية في هدم الدين في دول وسط آسيا رغم جهودها التي امتدت لعشرات السنين، فلو كان الدين من البنية الفوقية كما تقول الماركسية لأمكن هدمه بجهود أيسر وبوتيرة أسرع،
- لم تنجح الماركسية ولم يحدث الصراع الطبقي في العالم الغربي، بل اتخذت الرأسمالية بعض الإصلاحات وأعطت العمال بعض حقوقهم، فأنحسر بذلك المد الماركسي،
- اصطدمت الماركسية بالواقع وهو فطرة الإنسان التي جبلت على حب التملك، فانخفضت الإنتاجية وانهارت الشيوعية في الإتحاد السوفيتي وشرق أوروبا ومعها جدار برلين. أما الصين فقد تبنت أخيرا نظاما رأسماليا يسمح للشركات الخاصة بتملك بعض وسائل الإنتاج ويشجع التجارة العالمية، وكذا روسيا التي تبنت أخيرا بعض الأنظمة الرأسمالية.
- لا نملك بعد مراجعة الملاحظات الفكرية والعملية، إلا أن نستنتج فشل النظرية الماركسية في تحفيز الإنجاز وتحقيق العدالة الإنسانية. فقد حاولت الماركسية معالجة سلبيات الرأسمالية كالطبقية والهزات الاقتصادية وأن تعطي الطبقة العاملة حقوقها، إلا أنها وبكل أسف سحقت حرية الأفراد وسلبتهم الحافز الداخلي للإنجاز وهذه خسارة عظمى امتدت قرنا من الزمن.
تبين فيما سبق، أن النظرية الماركسية ترى أصالة المجتمع والعلاقات الاجتماعية التي تحكم الأفراد، وذلك على النقيض من الرأسمالية التي ترى أصالة الفرد. وتبين أيضا، كم خسرت البشرية طيلة القرون الماضية نتيجة عدم نجاح هاتين النظريتين في بسط العدالة والرفاهية.