الإنجاز و الإستقامة:
إن الفساد المالي والتلاعب في القوائم المالية أفلس بشركة إنرون (Enron) وبالمضارب المالي برنارد مادوف في البورصة العالمية وبالكثير من الشركات والمؤسسات في أقطار العالم. وهناك الكثير من الشركات تعاني من الخسائر بسبب التلاعب وعدم أمانة الجهات التنفيذية والسبات الشتوي لمجالس الإدارة. وتقدر تكلفة الفساد المالي العالمي بمئات البلايين من الدولارات سنويا في العقود والمشتريات والمبيعات والاستحواذات مما ينعكس سلباً على مسيرة التطور والحضارة الإنسانية. ولمعالجة هذه المخاطر، أسّست الشركات وأسواق المال والبورصات العالمية الكثير من الدوائر الرقابية الداخلية والخارجية. وتصدّرت الأمانة قائمة القيم داخل الشركات وعقدت الكثير من المؤتمرات وورش العمل للحديث عنها وعن الشفافية. وطلبت الشركات من جميع الموظفين توقيع تعهد عدم تعارض المصالح وتعهد السلوك السوي «Code of Conduct».
أما على مستوى الأفراد فالأمر لا يقل خطورة. أتذكّر أحد العلماء الرواد المشهورين عالميا أنه بينما كان يستقل دراجته العادية من مسكنه الى الجامعة إصطدم بشجرة وهوى في الوادي وفارق الحياة. ثم تبين بعدها أن هناك دعوى قضائية أقامها عليه أحد طلبته متهما الأستاذ المشهور بممارسة الشذوذ مع إبن الطالب.
إن بريق المال والشهوة والجاه يسرق القلوب ويعميها عن المبادئ والأخلاق. إنها الرقابة الذاتية الداخلية التي غابت فأفسدت رحلة الإنجاز وأضاعت بوصلة المسيرة! والسؤال المهم هو كيف يضمن الإنسان أنه بعد التحصيل العلمي والثقافي والمثابرة لا ينتكس؟ أي كيف نعزز البوصلة ونضمن سلامة الاتجاه؟
ان كانت العقيدة توجه الإنسان نحو خالقه والتشريع يقنن له علاقته بربه من خلال العبادات وعلاقته بالآخرين من خلال المعاملات، فإن كل هذا لا يضمن سلامة التطبيق والرقابة الداخلية. إن بريق الشهوة واللذة السريعة تتغلب أحيانا على الأهداف البعيدة فيبحث الأنسان عن مبررٍ قانوني وشرعي ليتحايل به على القانون والضمير. من هنا، نرى أن من يكتب القانون يتحدّث دائماً عن احترام روح القانون وليس فقط اللفظ. أتذكر أحد رؤسائي حين كان يقول: (إذا حدّثت نفسك بعمل ما فتصور أنك تعمله أمام الناس، فهل ستستمر في عمله أم لا؟).
ماذا تعني الاستقامة في عالم المال والأعمال؟
- قمة النزاهة والشفافية وأداء الأمانة للبر والفاجر والإنضباط في العمل،
- قمة العدالة وتكافؤ الفرص وإعطاء كل ذي حق حقه،
- الكفاءة دون استقامة لا تحقق الإنجاز بل هي سبب الفشل والخسارة، لذا تعمد الشركات للبحث عن خلفية المتقدمين التاريخية قبل تعيينهم في المناصب العليا للتأكد من سلامة سيرتهم من الانحراف المادي والفساد الإداري والأخلاقي،
- على المتقدمين للعمل في الشركات أن يدرسوا ثقافة الشركة وتاريخ مسؤوليها للتأكد من استقامة الشركة المالية والإدارية قبل الالتحاق بها،
- على من يرغب مشاركة الآخرين في تأسيس الشركات والأعمال دراسة تاريخهم واستقامتهم والتأكد من نزاهتهم.
ماذا تعني الاستقامة في عالم الأفراد والمجتمعات؟
- قمة التقوى والعفة والشرف والصدق والنزاهة والأمانة والحب للآخرين،
- عدم استغلال الجاه والمكانة للحصول على مكاسب ماليةٍ غير مشروعة أو إقامة علاقاتٍ تخرق القيم الاجتماعية،
- القيمة الاجتماعية ليست بالمسميات وإنما بالاستقامة والتقوى،
- الاستقامة جوهرة ثمينة فلا تباع بأبخس الأثمان كالمال والشهوة. فعلى الأبناء والبنات صونها والحفاظ عليها لأنها مطلوبة وأساسية لحياة الفرد ولأصحاب المال والأعمال: «إن خير من استأجرت القوي الأمين». ومن تزل قدمه، فعليه الرجوع للاستقامة قبل فوات الأوان،
- الحذر من الانسياق وراء المحتالين في وسائل التواصل الاجتماعي وغيره.
إن قلب الإنسان بحرٌ متلاطمٌ تصب فيها أنهارٌ ثلاثة:
- نهر العقل المطمئن بالعقيدة ومصدر التشريع،
- نهر الجوارح العاملة بالتشريع كما وضعه الخالق،
- نهر النفس اللوامة التي تراقب الإنسان فتضمن الاستقامة في جادة القانون.
وحين نضمن صفاء هذه الأنهار الثلاثة وعذب مائها يعم الخير والرفاه: ﴿وألّوِ استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقًا﴾، فنأتي الله بقلوب سليمة: ﴿إلا من أتى الله بقلبٍ سليم﴾.
الطموح و المثابرة:
لماذا يتميز فقط عدد قليل جدا من البشر بإنجازات ومشاريع تعبر الزمان والمكان فتخلد عبر التاريخ؟ ولماذا لا يلعب باقي البشر دورهم التاريخي في ساحة الحضارة الانسانية؟ الجواب هو أن الكثير من البشر لا يملك طموحا، أو أنه يملك طموحا ولكنه يصاب بالبرود والكسل فيتهاون في تحقيق طموحه ويبقى يراوح مكانه حتى تحترق زهرة شبابه ويودع الدنيا دون أن يحقق مشروعه في الحياة.
إن سبب التميز أمران مهمان، هما: الطموح والمثابرة لإنجاز ذلك الطموح. لذا يجب رفع سقف الطموح عاليا، فالمرء يطير بهمته كما يطير الطير بجناحيه. وهذه ثقافة يجدر بنا أن نزرعها في أذهان الجيل الجديد. إن الطموح الذي يلامس قلب الإنسان، يستغرق نهاره وليله وصحوته ونومه وصحته ومرضه لأنه أغلى شيء يملكه الإنسان، فهو أمله وغايته التي يسعى لتحقيقها ويعيش لأجلها. وهذه هي مرحلة الانسجام والانغماس الكامل في الهدف، التي تشحذ طاقات الإنسان وتفجرها لتصبح كالنهر الجارف المنحدر من قمة الجبل لا تصدها العوائق ولا تحبسها الموانع. وهذا ما يسميه عالم النفس البروفيسور ميهالي سيكز ينتميهالي بالتدفق «flow»، وهو يعادل مستوى مائة درجة على مقياس الاندماج «راجع كتاب يوميات الرئيس، لكاتب المقالة، صفحة 201». فكلما كان الطموح محبوبا ومناسبا، كلما كان أقرب الى قلب الإنسان وأعمق أثرا في تفجير طاقاته.
وفي الحقيقة، هناك عائقان يحولان دون تحقيق الطموح، أولا: تدافع الحياة، وثانيا: غفلة النفس. وعلى الإنسان أن يكون حذرا في مراعاة الأمرين:
أولا: تدافع الحياة: إن الحياة مليئة بالمنافسة والصراع، وهذه سنة الله في خلقه ليميز الخبيث من الطيب، «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض». وفي هذا التدافع تنكسر الكثير من الهمم وتموت الكثير من الطموحات نتيجة خيبة الأمل تارة، وعدم القدرة على التنافس والتدافع تارة آخرى. فيختار الفرد أن يهبط بسقف طموحه الى مستوى متوسط أو متدن جدا ليخفف من وطأة التنافس وثقل المسؤولية. فمثلا، قد يبدأ دراسته وطموحه أن يحقق جائزة نوبل في علم معين، ثم يبحر في دراسته وتكبر مسؤولياته الاجتماعية فيكتفي بإنهاء دراساته الجامعية أو العليا كالدكتوراة، والبعض قد تضطره الظروف إلى أن يلتحق مبكرا بعمل يدبر به معيشته. وبينما يبقى طموح البعض مشتعلا ونهره متدفقا فيبدع في مجاله الجديد وتزهر له أشجار أخرى في مجالات الحياة المتعددة، يصاب البعض الآخر باليأس والإحباط فتضمر عضلاته وتموت طاقاته وقد يعيش ميتا بين الأحياء.
ثانيا: غفلة النفس: قد تغفل النفس عن طموحها بعيد المدى شريف الغاية، فتغلب العقل وتحرف الإنسان إلى لذات قصيرة المدى تشغله وتشتت تركيزه. خذ مثلا الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي التي قد تملأ وقت الإنسان وتشتت تركيزه دون أن تحقق إنجازا لطموحه وغايته. إن النفس ميالة الى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو، لذا فهي تحتاج إلى مراقبة شديدة حتى لا تضيع البوصلة وتنحرف مسيرة الإنسان عن طموحه وغايته.
إن الحياة طموح ومثابرة تقهر المصاعب وتفتح الآفاق لمستقبل مشرق، فلا خير في طموح بلا مثابرة. فمن أراد ان يتميز ويحقق طموحه فلتقهر عزيمته مصاعب الحياة، ولتنبه بصيرته النفس من غفلتها.
إن مشوار عشرات السنين يبدأ الآن، فلنرفع سقف الطموح ولنعقد عزيمة المثابرة، وما أسرع ما تنطوي السنوات وتحلو الذكريات، وقد قهر الإنسان المصاعب وأنتصر على التحديات وحقق أشرف الغايات، وإن غدا لناظره قريب.