الطريق الى نبع الوجود (16)
رحلة الحائرين إلى الله
قراءة في كتاب “وجود الله بين العلم و المنهج العلمي”
القسم الثاني
الكاتب : علي ديلان
يرى الـ”ديلان” أن لزوم اتباع اليقين في صورته الإستنباطية يقع في القضايا الرياضية و أشباهها. لكن هناك جملة من الموارد يكفي فيها الوصول إلى درجة تصديقية معينة حتى يكون العمل بها راجحا. فما هي هذه الموارد؟
القوانين العلمية
يرى البعض بكفاية الوصول بالفرضية العلمية إلى درجة تصديقية عالية لتكون فرضية صحيحة و ناجحة. فلا يجب تحصيل اليقين بشكليه الاستقرائي و الاستنباطي في القوانين العلمية كقوانين الفيزياء و الكيمياء و لا حتى القوانين الانسانية كقوانين علم الاجتماع أو الاقتصاد. فيكفي العمل بالاحتمال الراجح في حال عدم توفر الشواهد المفضية إلى اليقين. فالعمل بالاحتمال الراجح في حال افتقاد اليقين الاستقرائي هو الخيار الافضل في مقام التحقيق العلمي. و قد يندفع الإنسان بوحي من الاحتمال الراجح إلى المزيد من البحث العلمي كأن يواصل الإنسان بحثه العلمي لمعرفة ما إذا كانت حياة أخرى موجودة في مكان آخر من الكون أو لا. و قد يندفع الإنسان أحيانا و لو كان الاحتمال ضعيفا للبحث و التحقيق فيما إذا كان الموضوع خطيرا و يتعلق بمصير الإنسان ، فإن الاحتياط يقتضي الأخذ بهذا الاحتمال الضعيف. و هنا يشير الـ”ديلان” إلى رهان باسكال باعتباره أحد الأدلة العلمية التي يقيمها الإلهيون في مسألة ترجيح إثبات وجود الله (ص 232-233).
الرؤية الكونية:
يرى البعض أن تحصيل اليقين في الرؤى الكونية الإلهية كانت أو الإلحادية منوطة باليقين الاستنباطي ، بينما يعتقد البعض أنها – الرؤى الكونية – منوطة باليقين الاستقرائي. و قد افترضوا ضرورة الحصول على درجة اليقين لما لهذه الرؤى من أهمية كبيرة على المستوى الإنساني. و يحاول بعض الملاحدة أن يجعل من الإلحاد موقفا علميا أي نتاج العلم التجريبي و ليس رؤية كونية. لكنها محاولة سقيمة كما يصفها الـ”ديلان” لأنها لا تعدو أن تكون موقفا تجاه بداية الكون المعتمدة على بعض الفروض العلمية بينما تتجاهل تماما الفروض الأخرى التي قد يكون بعضها أرجح احتمالا. و يطرح الـ”ديلان” سؤاله التالي: “هل يجب أن تناط الرؤى الكونية بدرجة اليقين؟” (ص 233).
بخصوص الإتجاهات الدينية يذكر الـ”ديلان” أن بعض هذه الإتجاهات ترى أن فرضية وجود الله لا يكفي أن تبلغ درجة تصديقية عالية بل لابد من الوصول إلى درجة اليقين (ص 218). أما معظم الإتجاهات الأخرى رأت كفاية الاعتقاد الراجح المأخوذ عقلائيا بنظر الإعتبار. و يؤيد الـ”ديلان” هذا الإتجاه بقوله “و هذا الإتجاه الثاني ( يقصد المذاهب الترجيحية ) هو الأحرى بالقبول ما دام الاحتمال الراجح يمثل درجة تصديقية ملزمة فكريا و عمليا في نظر صاحبها ، و يحمل نفس النتيجة المترقبة من اليقين سوى أن اليقين يغلق معه باب الخلاف فيكون أكثر استحكاما في الذهن ، و ليس هذا شرطا في قبول قضايا العلم و المعرفة و الفكر” (ص234).
بقي أن نعرف العلاقة بين القرينة و نمو الاحتمال ، كيف يمكن للقرينة (ملاحظة أو تجربة) المتوافقة مع الفرضية أن تؤثر في درجة الاحتمال؟
ذكرنا قبلا أن بوبر يربط بين المحتوى المعرفي و درجة الاحتمال ، فكلما زدا المحتوى المعرفي قلت درجة الاحتمال. يوافق الـ”ديلان” بوبر في أن المحتوى المعرفي إذا كان أكثر تعقيدا حظي بدرجة إحتمالية أقل ، و يضرب لذلك مثالا “فإن احتمال نجاح الطالب في الرياضيات إذا كان بنسبة 80% و نجاحه في مادة الجغرافيا بنسبة 90% فإن درجة نجاحه في المادتين معا أقل من كل واحدة منها و هي نسبة 72% على أساس قاعدة الضرب في الاحتمالات المستقلة” (ص 187). لكن الـ”ديلان” يؤكد أن نمو الاحتمال ليس له علاقة ببساطة المحتوى المعرفي أو تعقيده. فنمو الاحتمال و نقله من درجة تصديقية إلى أخرى لا يرتبط سلبا او إيجابا بالمحتوى المعرفي “فثمة فرق كبير بين تحديد درجة الاحتمال القبلي الواقع قبل تعزيز الشواهد للمحتوى المعرفي ، و بين قابلية هذا الاحتمال للنمو بعد تحصيل الشواهد و القرائن…” (ص 187).
إن القرينة المؤيدة ترفع من درجة الاحتمال و كلما توالت القرائن فإن درجة احتمال حادثة ما تزداد. و لكي نعرف العلاقة بين القرينة و نمو الاحتمال يجب أن نعرف أن القرينة الخارجية تمثل معطا حسيا و أن هذه المعطيات الحسية ليست السبب المباشر في نمو الاحتمال ، لماذا؟ لأن الاحتمال ينتمي على حقل الاعتقادات الذهنية و يمكن أن نعتبر القرينة سببا غير مباشر في نمو الاحتمال. و هنا يتساءل الـ”ديلان” عن الصورة الذهنية التي أوجدتها القرينة الخارجية و أثرت في نمو الاحتمال. و هنا يطرح الـ”ديلان” ثلاثة فرضيات يناقشها و يرجح الفرضية الثلاثة، فما هي هذه الفرضيات؟:
فرضية التطابق
فرضية التطابق تعني تطابق القرينة المؤيدة مع الفرضية المحتملة. الفرضية عبارة عن صورة ذهنية يتوقعها الباحث في تفسير الظاهرة. فإذا كانت الفرضية مركبة من أجزاء ( أ ،ب ،ج ، د) مثلا ، فإذا ما وجدنا قرينة تتطابق مع أحد أجزاء هذه الفرضية المركبة و ليكن الجزء ( أ) فإن احتمال الفرضية يزداد. فإذا تظافرت القرائن المؤيدة بحيث أن كل قرينة تتطابق مع أحد أجزاء الفرضية (ب، ج،د) لتثبت مجموعة القرائن الصورة المتوقعة بتمام أجزاءها ( أ،ب،ج،د) فإن الاحتمال يتصاعد إلى درجة اليقين.
تواجه فرضية التطابق بعض الصعوبات منها:
أولا إن فرضية التطابق لا تشمل القضايا الاستقرائية التي تكون نسبة القرائن المؤيدة نسبة الأثر و المؤثر كما في إثبات الصلة بين حبة الأسبرين و أثره في علاج الصداع. و بالتالي سوف تخرج جميع القضايا الاستقرائية التي لا يلحظ في إثباتها الأجزاء (ص 190).
و ثانيا إن اليقين الناشىء من تطابق الفرضية المركبة ذات الأجزاء مع مجموعة القرائن التي تستوفي جميع أجزاء الفرضية ليس يقينا ناشئا من تراكم الاحتمالات و إنما هو يقين استنباطي قائم على المنطق الارسطي ، و يوضح الـ”ديلان” ذلك من خلال العلاقة الاتية:
” الفرضية رقم (1) هي ( أ ، ب، ج ،د) ……………..المقدمة الأولى
و ( أ، ب، ج،د) موجودة ……………………………المقدمة الثانية
إذن الفرضية رقم (1) موجودة ……………………..النتيجة ” ( ص 191).
فهذه الفرضية لا يصح توظيفها في حساب الاحتمالات لأنها تصح في المنهج الاستنباطي و ليس المنهج الاستقرائي.
فرضية الكشف و الدلالة
تتجاوز فرضية الكشف و الدلالة المعضلة في فرضية التطابق ، فهي تنطبق على جميع الموارد الاستقرائية سواء كان السير فيها من الأجزاء الى المركب أو الاثار إلى المؤثر (ص 192). إذ تقرر فرضية الكشف و الدلالة أن كل قرينة تحمل دلالة تدعم من خلالها الاحتمال المتوقع و لكن بدرجة تتناسب مع قوة القرينة و درجة احتمالها. فكيف ينمو الاحتمال في مثل هذه الفرضية؟
إذا كانت الادلة التي تدعم الفرضية ناقصة أي غير كافية لانتاج اليقين ، فإن كل قرينة تحمل درجة دلالية ناقصة و هي بالتالي قابلة للنمو و التقدم ، وكلما زاد عدد القرائن فإن درجة احتمال الفرضية يزداد إلى أن نصل بالأدلة حد النضج و ذلك عندما تتظافر القرائن لنصل بالفرضية إلى درجة اليقين و عندها يكون وجود القرائن الاضافية أو عدم وجودها سيان. و لكن ما الذي نقصده بتظافر القرائن و تعاضدها ؟ هل يعني أنها تقع في الجانب الموافق للفرضية أم في جانبها الآخر المعاكس للفرضية؟ يضرب الـ”ديلان” مثالا ليوضح أن هذه الفرضية – فرضية الكشف و الدلالة – ليست دقيقة في تفسير المعنى الدلالي للقرينة و بالتالي نحن بحاجة إلى فرضية أخرى تكشف سر العلاقة بين القرينة و الاحتمال. فلو أردنا أن نتحقق من س هل هو عالم في الفيزياء أو لا ؟ و كان لـ س عدد من المحاضرات فإن المحاضرات تشكل قرينة ، فما وجه الدلالة في هذه القرينة؟ إن لهذه القرينة دلالتان أحدهما علم س بالفيزياء و أخرى معاكسة. و إذا افترضنا تكافؤ الدلالتان فكيف ينمو الاحتمال في الجانب التوافقي المعزز لفرضية علم س بالفيزياء و كيف يقل الاحتمال في الجانب المخالف. هذا ما لا يمكن إيضاحه من هذه الفرضية. و ينقلنا الـ”ديلان” بعدها الى الفرضية الاخيرة التي يراها الفرضية الصحيحة.
فرضية الاحتمال المزدوج و الدلالة الاحادية
أن هذه الفرضية تقرر أن القرينة تحمل دلالة أحادية لكنها ذات احتمالين ، و الاحتمال يتصاعد في الاحتمال المستبطن للدلالة. و يمكن أن نجري حساب الاحتمال لجميع القرائن التي تركز على الاحتمال الغير مستبطن للدلالة و عندها يمكن معرفة درجة الاحتمال الدلالي أي المستبطن للدلالة. كأن نعرف مثلا أن الاحتمال غير المستبطن للدلالة في قرينتين هو ¼ فنعلم عندها أن الاحتمال المستبطن يساوي 3/4 وذلك بطرح الاحتمال غير الدلالي من رقم واحد و هو رقم اليقين. فتظافر القرائن يضعف من قيمة الاحتمال غير المستبطن للدلالة و يزيد بالتالي من قيمة الاحتمال المستبطن كما لو جاء خبر عن وجود بلد مثل بغداد فإن هذا الخبر يعزز من احتمال وجود بغداد ، و إذا تعددت القرائن فإن احتمال وجود بغداد ينمو بينما يضعف احتمال الكذب لعدم قابليته للنمو و احتفاظه بمستواه القبلي (ص 194).
لنستوضح المعنى من هذه الفرضية يضرب لنا الـ”ديلان” مثالا. إن قرينة تأليف كتاب في علم الفيزياء يتضمن احتمالين أحدهما هو نتاج علم س بالفيزياء و الاحتمال الآخر أن يكون الكتاب من تأليف هاو غير متخصص. يفترق الاحتمال الأول عن الثاني في أن الأول يستبطن كشفا و دلالة في إثبات أن س عالم بالفيزياء بينما الاحتمال الثاني لا يتضمن هذه الدلالة. و لو كان الاحتمالين متكافئان لما أمكن التصعيد الاحتمالي في جانب علم س بالفيزياء. و هكذا فإن حقيقة القرينة هي الكشف و الدلالة على شيء بما يحمل من درجة احتمالية فينتج النمو الاحتمالي للشيء الذي وقعت عليه القرينة.
احيي الدكتور على هذا التحليل الرائع واسال عن بقية السلسلة؟