منح الإسلام التزكية و التعليم أهمية كبيرة، فلقد كانت أولى الآيات القرآنية قوله تعالى: {اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَم}1، فهما الوسيلتان التي ميز بها الله الأنسان على غيره من المخلوقات، والأداتان اللتان استخدمهما الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في نشر الإسلام وتنظيم الحياة بجميع ميادينها.
– المبحث الأول: المنهج المعرفي الإسلامي
إن المنهج المعرفي الذي يعتمده الدين الإسلامي الأصيل في إستقاء معارفه الحقة، يتشكل من ثلاثة مصادر رئيسه، هي: العقل و القرآن و السنة المطهرة.
– العقل:
يمثل العقل المصدر الأساس للمعرفة الإنسانية، و الركيزة التي تُبنى على أساسها الأصول الإعتقادية للدين الإسلامي، وقد بيّنت الكثير من الروايات لأهل البيت عليهم السلام دور العقل التأسيسي، وأكدت على أهميته الكبرى، و من تلك الروايات، ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: (أساس الدين بني على العقل وفرضت الفرائض على العقل، وربنا يُعرف بالعقل، …)2. فالإسلام يرتكز على ركيزتي التوحيد و النبوة، و التي منهما تنبع تعاليم الإسلام و أحكامه، و الإسلام يعتمد في إثباتِهِما على العقل، لا على التقليد و المتابعة العمياء3.
إذن فالعقل في المعارف الأعتقادية يعتبر الميزان الذي على أساسه تثبت حجية النقل، كما أنّه ملاك التكليف و المسؤولية أمام الله و الناس، و هو الحجّة الباطنة، فقد جاء عن هشام بن الحكم قوله: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: ( يا هشام إنّ لِلهِ على النّاسِ حُجّتَيْنِ: حُجّةً ظَاهِرَةً و حُجَّةً بَاطِنَةً فَأمّا الظّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ و الأنبِيَاءُ و الأئِمّةُ عليهم السلام و أمّا البَاطِنَةُ فالعُقُولُ)4.
– القرآن الكريم:
و هو الوحي الإلهي المُنزّل من قبل الله تعالى على قلب نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله و سلم تبيان لكل شيء، فيما احتوى عليه من حقائق و معارف عالية، قوله تعالى: {وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ}5.
– السنة المطهرة:
و المقصود بها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و أحاديث الإئمة الأطهار عليهم السلام لكون أسنادها تنتهي إلى رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم، و تشمل السنة المطهرة لقول و فعل و تقرير النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم و الإئمة الأطهار عليهم السلام.
– المبحث الثاني: الرؤية الكونية الإسلامية
إنّ نظام التعليم والتزكية الإسلامي يُبنى على أساس الرؤية الإسلامية للحقيقة الوجودية للكون و الإنسان. و التي تقوم على ثلاثة أصول، هي: التوحيد، النبوة، المعاد.
أوّلاً: التوحيد
و الذي يعتبر محور الفكر الإسلامي، و يعني الإعتقاد بأنّ الله تعالى واحد في ذاته، {لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}6. و أنّه مُتصف بجميع الصفات الكمالية من العلم و القدرة و الحياة و العدل و الحكمة و غيرها من الصفات الوجودية اللامتناهية، {و لِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسنَى فَادْعُوهُ بِهَا}7. كذلك الإعتقاد بأنّ الله سبحانه و تعالى مبدأ هذا الوجود و خالقه و مدبّره، فلا مـدبّر في الوجود إلّا الله : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ}8، و قد خلقه وفق حكمته على طبق النظام الأصلح ، فهو قائم على أساس الخير و الرحمة و إيصال جميع المخلوقات إلى كمالها المرغوب، و أنّه لا يوجد في خلقه تعالى شيئاً عبثاً.
والخالق سبحانه و تعالى لهذا الوجود و المدّبر، هو الملك و الحاكم و المتصرف فيه :{إنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ}9، كما أنّ الخالق أعرف بخصوصيات المخلوق و ما يصلحه و يفسده، بالتالي فهو أولى بالتشريع و التقنين: {أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}10. و هذا يستلزم كونه تعالى وحده المستحق للعبودية: {وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}11.
– ثانياً: النبوة
إنّ النبوّة وظيفة إلهية، يجعلها الله سبحانه و تعالى لمن ينتجبه من عباده الصالحين و أوليائه الكاملين، فيرسلهم إلى خلقه لغاية إرشادهم إلى ما فيه منافعهم و مصالحهم في الدنيا و الآخرة، و لغرض تعليمهم الحكمة و المعرفة، و تزكيتهم من درن مساوئ الأخلاق و مفاسد العادات، و بيان طرق السعادة و الخير ، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ}12، ومن هنا فإن النبوة هي من اللطف الإلهي على عباده. كما أنها منصب الهي، لا يعلم بمستحقها و اللائق بحمل هذه الرسالة السماوية العظيمة غير الخالق تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ}13.
و يجب أنّ يتوفر في شخص النبي شرطين، الأول العلم لكونه هو الملجأ العلمي للناس. و الثاني هو العصمة المطلقة من الوقوع في المعاصي صغائرها و كبائرها و كل ما يخدش بوظيفته الإلهية. {وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى}14.
و قد ختم الباري تعالى النبوة بأفضل الأنبياء و أكملهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي جاء بالدين الكامل و الخاتِم للرسالات السماوية و الحجة لكافة البشر في كل عصر و مصر إلى يوم القيامة، { ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ}15.
كما أنّ الحكمة و اللطف اللهي يقتضي وجود خليفةً للنبي صلى الله عليه و آله في كل عصر يخلفه في وظائفه من هداية البشر، و إرشادهم إلى ما فيه صلاحهم و سعادتهم في النشأتين، و هو ما يصطلح عليه بالإمام: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فيها نَذِيرٌ}16، و الإمامة هي استمرار للنبوة كما أنها مثلها منصب الهي لا تكون إلّا بالنص من الله تعالى على لسان النبي أو لسان الإمام الذي قبله.
– ثالثاً: المعاد
إنّ حقيقة الإنسان في الرؤية الإسلامية مطابقة للرؤية الفلسفية، فالإنسان موجود يتكون من بُعدين أساسيين: بُعدٌ روحي مجرد عن المادة، يمثل حقيقة الجوهر الإنساني الباقي، و بُعدٌ مادي يتمثل في البدن العضوي :{ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ}17. حيث تتعلق الروح المجردة بالبدن المادي من جهة أنّه آلة مؤقتة لتحصيل كمالاتها في النشأة الدنيوية، فإذا حصل لها الكمالات الإنسانية التي كانت في استعدادها أن تحصل لها، استغنت عن البدن لا محالة، و انقطع تعلّقها به، وهو ما يُعبّر عنه بالموت: { كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ * وَ قِيلَ مَنْ راقٍ * وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ * وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ}18 والموت ليس نهاية الحياة، و إنّما هو رحلة نحو الله تعالى تبدأ من مفارقة الروح للبدن، و جسرٌا لينتقل الإنسان عبّره من حياة إلى حياة أخرى أكمل من الأولى، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: {أيّها الناس، إنّا خُلِقْنا و إيّاكُم للبقاء، لا للفناء، لكنّكم من دارٍ إلى دارٍ تُنقلون}19.
و إنّ النشأة الأخروية، هي منتهى السير و غاية الغايات، و الحياة الحقيقية الأبديّة التي يجب أنّ يوظّف الإنسان كلّ طاقاته في النشأة الدنيوية من أجل الفوز بنعيمها، وهي لا تُنال إلّا بالسعي و الجد: {وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}20، حيث يعيد الله سبحانه و تعالى الخلائق و يحييهم بعد موتهم في اليوم الموعود للجزاء، فيثيب المطيعين، و يعذّب العاصين: {أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ}21.
– المبحث الثالث: منهج اصول التزكية و التعليم الإسلامي
سوف نتطرق في البحث حول نظام التزكية و التعليم الإسلامي في ثلاث جهات: أهداف التزكية و التعليم الإسلامي، خصائصه، و أصوله:
– الجهة الأول: أهداف التزكية و التعليم الإسلامي
كلما كان الهدف المرجو تحقيقه واضحاً و محدداً كان العمل منتجاً و بعيداً عن العبثية، وللإسلام على الصعيد الفردي و الإجتماعي أهداف واضحة يسعى على تحقيقها من خلال عملية التعليم و التزكية:
۱- إعداد الأرضية المناسبة لتكامل الإنسان في بُعديه المادي و المعنوي، مع التأكيد على التكامل المعنوي الذي فيه حياته الحقيقية؛ {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}22.
۲- بناء شخصية الإنسان و إعداده الإعداد الصالح لينهض برسالته في الحياة. فيسعى إلى تنمية الطاقة الفكرية للمتعلم، و يعطيه الاستقلال، يقول الإمام علي عليه السلام: (لاَ تَكُوْنَنَّ عبدَ غيرَك فَقد جعلك الله سُبحانهُ حَرّاً) 23.
۳- تأهيل الإنسان ليكون مديراً لنفسه و شؤونه، ومسيطراً على نزواته وأهوائه النفسانية، ومبعداً عن نفسه كلّ ما هو غير منطقي وغير عقلي، ومنجزاً ما يليق بإنسانيته. يقول الإمام محمد الباقر عليه السلام: ( إنّ المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها فمرّة يقيم أودها و يخالف هواها في محبة الله، و مرّة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه الله فينتعش، و يقيل الله عثرته فيتذكر و يفزع إلى التوبة و المخالفة فيزداد بصيرة و معرفة لما زيد فيه من الخوف)24.
۴- نشر الحرية و اشاعة الفضائل الأخلاقية في المجتمع و إقامة القسط و العدل، و القضاء على الرذائل الأخلاقية و العادات و التقاليد المنحرفة و مواجهة الظلم و الفساد، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم في هذا الخصوص: (إنّما بُعثت لإتمّم مكارم الأخلاق)25.
۵- تزويد الإنسان بالروح العلمية، أيّ الروح الباحثة عن الحقيقةٍ كما هي عليه بدون تعصبٍ و جمود. كما جاء في قوله تعالى: {وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا}26.
– الجهة الثانية: خصائص اصول التزكية و التعليم الإسلامي
إنّ لنظام التزكية و التعليم في الدين الإسلامي الأصيل خصائص تميّزه عن سائر الأنظمة الوضعية الآخرى، أهمها:
۱– الربانيّة
يمتاز نظام التزكية و التعليم الإسلامي بالربانيّة من جهتين، أوّلاً: من جهة النشأة، أيّ أن الباري تعالى هو الواضع له، فهو خالق الوجود و الإنسان، و المودع فيه الإستعدادات و الرغبات الذاتية، و هو العليم بكل شيء و القادر على كل شيء و الحكيم، و بالتالي فهو يعلم باحتياجات مخلوقه، فيضع له من الأنظمة و ما يتلائم مع تلبية احتياجاتِهِ، و تتصف الأنظمة الربانية المصدر بالكمال و القوة لإنّه لا يصدر الناقص من الكامل و الضعيف من القوي، كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)27. كمـا أنّ الربانيّـة تُعـطي المنهـج و النظـام تقديسـاً، ممـا يدفع الإنسـان المؤمن بالله تعالى إلى تقديس ذلك المنهج والعمل بشكلٍ دؤوب لتطبيقه في حياتِهِ الفردية و الإجتماعية.
ثانياً: من جهة الغاية و المصير، فالتزكية و التعليم الرباني ليس له غايةٌ إلّا الوصول للسّعادة الحقيقية المتمثلة في القرب الإلهي. {هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}28.
۲– الشموليّة
يتمتع النظام الإسلامي في التزكية و التعليم بالشمولية لجميع الأبعاد الإنسانية، الروحي منها و الجسمي، العقلي والعاطفي، الفردي و الإجتماعي، فلا يُولي اهتماماً لبعدٍ و يُهمل الآخر، بل يُعطي لكلا منها برنامجاً متكاملاً يُلبي جميعَ احتياجات ذلك البعد في سبيل وصوله إلى الهدف الإساسي من وجوده. كما يقول الباري تعالى: {وَابْتَغِ فيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}29.
كما إنّ النظام الإسلامي شاملٌ لجميع أفراد النوع الإنساني، فهو يُخاطب جميع الفئات البشرية في جميع الأزمنة و الأقطار.{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ }30. كما يدعوا الدين الإسلامي إلى طلب العلم بشكلٍ دائمي متواصل، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: ( اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد )31.
۳– الواقعية و الإنسجام مع الفطرة الإنسانية
إنّ النظام الرباني للتزكية و التعليم يتلائم مع واقع الإنسان و احتياجاتِهِ و البيئةِ التي يعيش فيها، فيلبي رغباتِهِ و يسد حاجاتِهِ، و ينسجم إنسجاماً تاماً مع الفطرة الإلهية المودعة فيه، و مع الهدف الأساسي من خِلقة الإنسان، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ }32.
۴- الثبات و المرونة
إن التعاليم الإسلامية مع كونها ثابتة و دائمة لكونها صادرة من العليم الحكيم، فهي مرنة في ذاتها بحيث تتلائم مع مقتضيات الزمان و المكان، فالمنهج الإسلامي يجمع في تناسق بديع بين الثبات و المرونة، واضعاً كلاً منها في موضعه الصحيح، فقد جاء عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قوله: (لا تقسِروا أولادكم على آدابكم، فإنَّهم مَخْلوقُون لزمانٍ غير زمانكم)33.
– الجهة الثالثة:اصول التزكية و التعليم الإسلامي
إنّ من أهم الاُصول التي اتّخذها الإسلام أساسأ في عملية التزكية و التعليم، و بناءً على نظرتِهِ الإلهية لحقيقة الإنسان و أبعاده الوجودية، هي:
۱- إنّ الدين الإسلامي يحفظ أصالة الفرد و المجتمع، فيضع منهجاً لبناء الفرد بوصفه مقدمة لبناء المجتمع و الأمة، فيكون بناء شخصية الفرد ضروري من جهة أن الفرد نفسه هدف للتزكية و التعليم، و من جهة كونه مقدمة لبناء المجتمع الصالح. یقول الباری تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}34.
۲- إن الإنسان هو موضوع التزكية و التعليم، من هنا فإنّ إحدى اصول التزكية و التعليم في النظام الإسلامي هو معرفة حقيقة الإنسان و أبعاده الوجودية و حاجاته الضرورية، و قد حدّد الإسلام الأُسس و المرتكزات لمعرفة هذه الحقيقة و أبعادها و كيفية الرقي و الانطلاق في مسيرته نحو الكمال المنشود.
۳- إن أساس التزكية و التعليم الإسلامي مرتكز على التعقل و التفكر و توظيف القوة العاقلة، حيث يقول الباري تـعالى في كـتابه الـعزيز: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَ الْمـَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}35.
۴- التكامل، إنّ مسؤولية الإنسان في الحياة هي حمل الأمانة الإلهية، و التي تريد للإنسان أن يسمو و يرتقي و يتكامل على ضوء القيم الإلهية، و هذا التكامل لا يتحقق في وثبة واحدة بل يتطلبُ عمل دؤوب و حركة متواصلة لكي يصل إلى القمة، و يتكامل الإنسان بالعلم و العمل معاً كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: (العِلْمُ يُرْشِدُكَ و العَمَلُ يَبْلُغُ بِكَ الغايَةَ)36.
– المبحث الرابع: النتائج المترتبة على المنهج الديني اللاعقلي
اُبتليت الأمة الإسلامية بظاهرة التحجر العقلي الذي كان له انتشاره الواسع في الأوساط الإسلامية. فكانت بعض التيارات التي ظهرت في العالم الإسلامي من قبيل أهل الحديث، و الحنابلة، و السلفية، و الإخباريّة، و الصوفية، قد قرعوا طبول معارضة التفكير العقلي و إنكار العقل كمصدر من مصادر المعرفة الإنسانية و نفي حجيته في الكشف عن الحقيقة، و اقتصروا على كتاب الله تعالى و السنة النبوية في تشكيل الرؤية الكونية الإسلامية و أدّت هذه الظاهرة إلى خسارة فادحة في الأمة الإسلامية و خلّفت أضرار جمّة غير قابلة للترميم، من أبرزها:
۱- إنّ الاستهانة بالعقل و استدلالاته، يُعد إستهانة بالحقيقة الإنسانية و تدمير لإستعدادتها الذاتية الفطرية و كبت لإبداعتها، لأن إنسانية الإنسان بعقله.
۲- محاربة المنهج العقلي البرهاني و إقصاء العلوم العقلية عن ساحة التعليم الديني و اضطهاد و تشويه الفلاسفة و الحكماء المسلمين الذين كانوا يمثلون عقلاء الأمة، و ذلك من جانب الكثير من رجال الدين المتعصبين و المدعومين من السلطة السياسية الجائرة.
3- انتشار التخلف العلمي بين أبناء الأمة الإسلامية و عمّ الجهل و الضياع بين المسلمين و التردّي المتفاقم في مختلف ميادين الحياة.
4- ضعف الأساس و البنية العقائدية للفرد و المجتمع المسلم و بالتالي تزلزله أمام الشبهات الوارده عليه من قبل أعداء الإسلام و يصبح فريسة لحملات الغزو الثقافي الأجنبي.
5- إنّ التحجر العقلي حمّل الإسلام ماليس فيه، و زيّف حقيقة الدين الإسلامي الأصيل و شوه صورته في أذهان الناس، ممّا سبّب في ضعف الواعز الديني و إعراض البعض من فئات المجتمع عن الدين.
6- إنّ التعصب و عدم التعقل أدّى إلى نشوء و إثارة العصبيات المذهبية و التي تحولت إلى حالات طائفية عصبية متطرفة، ممّا أدّى إلى تمزيق الأمة الإسلامية و تفتيت مقومات الوحدة فيها.
7- شيوع ظاهرة التكفير و القتل الوحشي للمسلمين، فكلّ ما نعانيه اليوم من مذابح و فظائع تمارس بإسم الدفاع عن الدين هو بسبب قمع العقل البشري و الجمود الفكري الذي خلّف الكثير من الدمار. يقول الشيخ ابن حاتم الحنبلي: ( من لم يكن حنبليّاً فليس بمُسْلم )37.