الرؤية العَلمانية في اصول التزكية و التعليم – ضحى فيصل المرهون

    – التمهيد:

إن كلمة العلمانية هي ترجمة خاطئة لكلمة (secularism) في الإنجليزية، أو (secularite) في الفرنسية، فهي كلمة لا صلة لها بلفظ العلم و مشتقاته مطلقاً، و إنّ الترجمة الصحيحة لها هي (اللادينيّة) أو (الدنيوية) بمعنى ما لا صلة له بالدين مطلقاً (1). و تتضح صحة هذه الترجمة من التعاريف الواردة في المعاجم و دوائر المعارف الأجنبية لهذه الكلمة، من ذلك ما جاء في تعريف دائرة المعارف البريطانية لكلمة (Secularim) بأنها:(حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس و توجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا وحدها) (2).

و فيما يلي نحاول إلقاء نظرة على المبادئ المعرفية و الفلسفية للنظام العَلماني و بعدها نتعرض لمنهج التزكية و التعليم المنبثق منها، و في الختام نتناول النتائج المترتبة على النظام العَلماني.

– المبحث الأول: المنهج المعرفي العَلماني

إنّ النظام العَلماني يتخذ من المنهج الحسي التجريبي منهجاً معرفياً له، يُشكل على أساسه رؤيته الكونية للعالم و الإنسان، والتي تُؤسس عليها أنظمتها السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية و غيرها، فدعاة هذا الـمنهج يُـنكرون كل مـعرفة عقـلية لا تـخضع للإدراك الـحسي، و يعـتبرون الـحس و نتـائج الـبحوث التجريبيّة هي المصدر الأساسي و الوحيد لجميع المعارف الإنسانية، و أنها المعرفة اليقينيّة الوحيدة التي لا يمكن تجاوزها، و ينكرون ما عداها من المعرفة (3)، لا سيما فيما يتعلق بما وراء الطبيعة و أسباب وجودها، و بناءً على ذلك فالنظام العَلَماني ينفي الميتافيزيقيا و الفلسفة مطلقاً، و ذلك لكون الموضوعات الفلسفية متيافيزيقيه غير قابلة للإدراك بالحسّ المباشر.

 المبحث الثاني: الرؤية الكونية العَلمانية

وفقاً للمنهج المعرفي العلماني القائم على أصالة الحس و التجربة، فإن الرؤية الكونية المنبثقة منه هي رؤية كونية ماديّة إلحاديّة أو رؤية دينيّة سطحيّة مشوّهة لا علاقة لها بالرؤية الدينية الصحيحة، و فيما يلي نستعرض أهم أصول الرؤية الكونية المادية:

1- إنكار وجود المبدأ الإلهي لأنّه موجود غير مادي و ما فوق الطبيعة، و الوجود مساوق للمادة، أو إثبات وجود خالق للكون و الإنسان، و لكنه يقف بنطاق عمل هذا الخالق عند مجرد الخلق فيسلُب منه ألوهيته و حاكميته، فلا يحق له التدخل في شؤون عباده الشخصيّة أو الإجتماعية. كما أنّه لا يتمتع بأي تأثير أو نفوذ على الطبيعة.

2- إنكار النبوة الإلهية من الأصل أو إثباتها بعد تجريدها من صلاحياتها الاجتماعية و السياسية، و أنّ النبي ليس إلاّ مبلغاً للقيم الأخلاقية الفردية الإنسانية، و داعياً إلى الآخرة لا غير، و لا شأن له بإصلاح الدنيا و لا ولاية له على الناس4.

3- إنكار المعاد من الأصل، و إن الموت هو نهاية الإنسان، و ذلك لإنكارهم غائية الكون و هدفيته. أو إثبات المعاد بعد تفريغه من محتواه، و الذهاب إلى أنّ الجزاء يوم القيامة يدور مدار العلاقة القلبية الشخصية بين الإنسان و ربّه، و لا علاقة له بأعمال الإنسان أو التزامه بالأحكام الشرعيّة، و بالتالي فلا يجوز الربط بين الدنيا و الآخرة.

4- إنكار وجود عالم غير هذا العالم المحسوس، و القول بأنّ هذا العالم المادي المحسوس أزلي و أبدي و غیر مخلوق، و أنّ الأسباب الطبيعية التي كشفت عنها البحوث التجربيبة، هي الأسباب الأولية للوجود، فالطبيعة المادية هي كل شئ و الخالقة لكل شئ، و كل ما هو خارجٌ عنها فهو أوهام، أو حقائق طبيعية معقدة أو غير عادية.

5- إنكار وجود الروح الإنسانية المجردة، و إنّ الإنسان موجود ذا  بُعدٍ واحدٍ هو هذا الجسم المادي لا غير، و القول بأنّ الإنسان هو محور الوجود، و مبدأ التشريع، و خالق القیم، بالتالی فهو لا يفتقر إلى قيّم غيبيه عليه، فهو موجود حرّ و مستقل.

– المبحث الثالث: منهج اصول التزكية و التعليم العَلماني

بعدما تعرفنا على المنهج المعرفي المعتمد عند العَلمانيون و الرؤية الكونية المنبثقة منه، سوف نبحث هنا معالم نظام التزكية و التعليم العلماني المادي من ثلاثة جهات: أهدافه، و خصائصه، و اصوله.

– الجهة الأول: أهداف منهج التزكية و التعليم العَلماني

يسعى النظام العَلماني من خلال المناهج التعليمية الوضعية، و المتبعة في الكثير من المدارس و الجامعات المعاصرة إلى تحقيق أهدافه و غاياته المنبثقة من تفسيره المادي للكون و الحياة و الإنسان، و التي من أبرزها:

1- السعي إلى تهيئة الأرضيّة اللازمة لتكامل الإنسان في بعده المادي دون التكامل المعنوي، و إرضاء غرائزه و رغباته الحيوانيّة بنحوٍ مطلق و من دون أيِّ قيود.

2- السعي إلى تحقيق السعادة الدنيوية و الأمن و الرفاه الإجتماعي في أعلى درجاته.

3- توجيه مسير البحث العلمي في الإتجاه المادي من أجل السيطرة على الطبيعة و تسخيرها لخدمة الأهداف الماديّة للإنسان و تحقيق التطور المادي التكنولوجي فقط.

4- تأمين الحريات الشخصية و الاجتماعية، كحرية الفكر و العقيدة، و الاهتمام بتربية النزعة الفردية، والدفاع عنها بكل غال ورخيص.

– الجهة الثانية: خصائص منهج التزكية و التعليم العَلماني

لمنهج التزكية والتعليم العَلماني خصائص ذاتية نابعة من طبيعة المنهج الحسي التجريبي و الرؤية الكونية المادية لنّظام العَلماني، من ذلك:

1- بشرية المنشأ، فالإنسان هو المشّرع و الواضع الوحيد لهذه المناهج، و ذلك بحسب ما يراه صالحاً للفرد و المجتمع البشري في حياته المادية فقط.

2- تبعية أحكام مناهجه للمصالح و المفاسد الماديّة لا غير و ذلك بحسب ما يقتضيه العرف الإجتماعي، و بالتالي فهي قابلة للتغيير حتى في أصولها الكلية الأولية بحسب تغيّر الظروف الزمانيّة و المكانيّة و الاجتماعية.

3- عدم ارتكازها على القيم الروحية و الخُلُقية. حيث تطغى عليها الصبغة المادية. فلا تعترف بغاية إلّا بإسعاد هذه الحياة المحدودة بمختلف المتع و الشهوات.

4- عدم قدسيتها عند الناس، و إن التزموا بها فبضغوط خارجية، لا بوازع داخلي إيماني.

– الجهة الثالثة: اصول التزكية و التعليم العَلماني

إنّ من أهم أسس النظام التعليمي العَلماني، هي:

1- إعتماد المناهج التعليمية في المدارس و الجامعات المعاصرة المنهج المعرفي الحسي المادي بنحو رئيسي في تحقيق بحوثه العلمية، و ذلك انطلاقا من رؤيته الكونية و آيديولوجيته المادية حول العالم و الإنسان.

2- ترتكز العملية التعليمية فيه على التعرف على ظواهر الحوادث الطبيعة و عللها القريبة منّا، لتسخير الطبيعة من أجل تأمين المصالح المادية للإنسان في هذه الحياة الدنيا.

3- سيطرة العلوم الحسية المادية كالطبيعيات ، و حتى ما يسمى بالعلوم الإنسانية كعلم النفس و الاجتماع ، فهي مبنية على المنهج الحسي و الرؤية الكونية المادية. أمّا البحث الوحيد الفلسفي لديهم فإنّه يُدرّس بنحو تراثي تاريخي يصلح للمتاحف لا للتحقيق العلمي و كشف الواقع كما هو عليه.

فيطغى على الجانب الفكري عندهم الفوضى المعرفية و النزعات التشكيكية و النسبية المقابلة تماما لكمالات العقل النظري و للمنهج العقلي البرهاني الرصين.

  أما منهج التزكية العَلماني فلا توجد فيه أيُّ عنايةٍ بتقوية العقل العملي أو تهذيب النفوس، لأنها أمور معنوية لا قيمة لها في ميزان الاعتبار عند الماديين، بل تحول مفهوم التزكية عندهم إلى اكتساب المهارات الفنية و التقنية المتعلقة بالأمور المـادية فقط. و لهذا نجد طلاب المدارس و الجامعات يسعون سعياً حثيثاً لتحصيل المدارك العلمية من أجل الحصول على وظائف ومهن تدر عليهم المال، وتُكسبهم المراكز الاجتماعية المرموقة لا غير.

النتائج المترتبة على المنهج العَلماني اللاعقلي

لقد كان للمنهج العَلماني و توجّهه الطبيعي المادي المعادي للدين و العقل، على الرغم مما وصل إليه من تطور تقني كبير، آثاره السلبية على صعيد الفرد و المجتمع الإنساني ، و من تلك النتائج السلبية:

1- أدى إلى تفكك بُنيان الأسرة و إنحلال أواصرها الأخلاقية و إسترخاء أُسُسُها التربویة، باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية.

2- انتشار الإنحطاط و التفسخ الأخلاقي و الجريمة المنظمة في المجتمعات البشرية، و تفشي الأمراض النفسية بين أفراد المجتمعات لا سيما المتطورة مادياً.

3- سيطرة المستكبرين من أصحاب رؤوس الأموال على سائر مراكز البحوث العلمية والصناعية و الخدمات الإجتماعية ، و القيام بالعمل على تأمين مصالحهم غير المشروعة و المنافية لخدمة الناس و المستضعفين.

4- السيطرة على جميع التقنيات الإعلامية المختلفة و إستخدامها في تشويه الحقائق و ترويج الفساد من محاربة الفضيلة و نشر الرذيلة.

5- إنّ طغيان التوجه المادي أفضى إلى إنبهار أبناء الأمة الإسلامية بالتقدم الحضاري المادي في الغرب، و بالتالي شيوع الدعوة إلى الإرتماء في أحضان الغرب و أخذ حضارته دون وعي و لا تمييز.

المصادر:

1- أيمن المصري، معالم النظام السياسي، ص ۱۱۸. علاء أبو العزائم، العلمانية الوجه الآخر للیهودية، ص۱۷.
2-  أيمن المصري، معالم النظام السياسي،ص ۱۱۸. سفر بن عبد الرحمان الحوالي، العلمانية نشأتها و تطورها و آثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة.
3- یقول الفیلسوف الوجودي الآلماني كارل ياسبرس: ( إنّ الفلسفة لا تمنح علماً يقينيّاً… و بمجرد أن تكون هناك معرفة بأدّلة قطعية و مسلّمة لدى الجميع فإنّ تلك لا تعدّ معرفة فلسفية و إنّما هي تتبدّل في الحال إلى معرفة علمية). محمد تقي مصباح اليزدي، المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، ج۱، ص ۱۰۲.
4- أيمن المصري، معالم النظام السياسي، ص142.

تعليق واحد

  1. عبدالله الخباز

    مرة يقول كاتب المقال ان مبدأ العلمانية يخضع كليا للامور الحسية و مرة يصفها باللاعقلية
    و الامور الحسية هي بالاصل خاضعة للتحليل العقلي المبني على التجارب العملية
    كذلك يسمي الكاتب المناهج التعليمية بالمناهج الوضعية
    السؤال هنا
    ما هي المناهج الغير وضعية
    و ما الانظمة السياسية الغير وضعية
    ما هو البديل في وقت لا يوجد من يستطيع تطبيق المنهج الاسلامي المعصوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *