الرؤية العقلية في اصول التزكية و التعليم – ضحى فيصل المرهون

– الفصل الأول: المنهج العقلي

لمعرفة طبيعة هذا المنهج و قواعده و تشخيص العقل المستخدم فيه كأداة معرفية لابد من تسليط الضوء على أهم مباحث علم المنطق، العلم الذي يتكفل ببيان هذا المنهج و قواعده.

    –  المبحث الأول: القواعد العامة للتفكير الصحيح

إنّ التفكير من الخصائص الذاتية للطبيعة الناطقة الإنسانية، وهو عبارة عن الحركة الإرادية لذهن الإنسان في معقولاته التي تتكون من تصورات و تصديقات بقصد كسب المجهولات التي تكون أيضاً إما تصورية أو تصديقية.

و هذه الحركة التفكيرية في الواقع حركة صناعية مؤلفة من حركتين: الأولى حركة لتجميع المعلومات الملائمة للمجهول المطلوب، و الحركة الثانية لترتيب هذه المعلومات على الصورة الصحيحة المناسبة أيضاً للمطلوب. و كمّا أن الخطأ في الصناعة قد يقع من جهة المادة أو من جهة الصورة أو من كليهما معاً، كذلك الخطأ في التفكير قد يقع من جهة طبيعة المواد المعلوماتية المنتخبة، أو من جهة الصورة.

لذا فإن علم المنطق يبين القواعد الصحيحه التي تصون الذهن في حركتهِ التفكيرية هذه من الوقوع في الخطأ من جهة المادة و الصورة معاً، و ذلك في بابي (المعرّف) و (الحجّة). فيطرح باب (المعرّف) مباحث المعلوم التصوري لمعرفة المجهول التصوري، أما باب (الحجّة) فيطرح مباحث المعلوم التصديقي لمعرفة المجهول التصديقي بوسيلة الاستدلال.

و يعد باب (الحجّة) الأهم في علم المنطق، و الذي يُستهل بمبحث تمهيدي يتكفل ببيان أقسام القضايا و أحكامها، و ذلك لأن القضايا هي مواد الاستدلال و عناصره التي يتألف منها. بعد ذلك يذكر المناطقة ثلاثة طرق لكيفية الاستدلال، هي: القياس، الاستقراء و التمثيل، حيث يعتبر الاستدلال القياسي عمدة الحجج لإنتاجه اليقين. و لكونه يتألف من صورة و مادة، فإنّ البحث يقع فيه من ناحيتين:

۱) ناحية اختلاف صورهِ و بدون لحاظ مواده، و التي يُقسم فيها الاستدلال القياسي إلى قسمين هما الاستدلال الاقتراني و الاستثنائي،  و ذلك باعتبار التصريح بالنتيجة أو بنقيضها في مقدماته و عدمه. و يُعد الشكل الأوّل من الأشكال الأربعة للاستدلال القياسي الاقتراني هو الاستدلال القياسي بديهي الإنتاج.

۲) من ناحية اختلاف مواده، التي تُكون مقدمات الاستدلال، مع عدم لحاظ صورِهِ، و يسمى هذا البحث بـ (الصناعات الخمس). و يطرح المناطقة لهذا البحث مقدمة بعنوان (مبادئ الأقيسة)  يُبحث فيها أحوال القضايا من جهة المادة، فيقسمونها من حيث تعلق الاعتقاد بها و التسليم بصدقها و عدمهما إلى أربعة أقسام: المسلّمات، المظنونات، المشبهات و المخيلات.

أمّا (الصناعات الخمس) فهي تبحث أنواع الاستدلال القياسي من ناحية اختلاف مواده، و الهدف من تأليفها، و ما تؤدي إليه من نتائج، و هي: صناعة البرهان، صناعة الجدل، صناعة الخطابة، صناعة المغالطة و صناعة الشعر.

و تعتبر صناعة البرهان الذي تكون مادته هي القضايا الواجب قبولها الصادقة البديهية بذاتها كقضية (النقيضان لا يجتمعان) أو المبنية على البديهيات المنتهية إليها، و صورته صورة القياس المنتج لليقين بالضرورة العقلية، هو الوحيد من بين جميع الاستدلالات، الذي يفيد اليقين الثابت المطلق المطابق للواقع.

فإفادته لليقين لأن صورته بديهية الإنتاج و مادته القضايا البديهية بذاتها، و أمّا إفادته لليقين الثابت المطابق للواقع فلأن الحد الأوسط فيه علاوة على كونه علة إثباتيه، فهو علة ثبوتية أيضاً، و بالتالي تكون المقدمة علة تامة للنتيجة ويستحيل أن تنفك عنها. و هو مطابقاً للواقع لمطابقة مقام الإثبات العلمي مقام الثبوت الواقعي. و معنى كونه مطلقاً أي غير نسبي، هو أن نتيجته لا تحصل بالذوق و الاستحسان الشخصي، بل تحصل بنحوٍ موضوعي واقعي.

إذن فالحاصل من مباحث علم المنطق أن البرهان هو الطريق الوحيد اليقيني لإثبات الحق من الباطل و لكشف الحقائق و العلوم الحقة الواقعية. و لـذلك يجب على طلاب الحقيقة نَهجَ هذا الطريق الواضح، و هو المعبّر عنه بالمنهج العقلي و الذي يعتمده  الحكماء الإلهيين في صياغة المنظومة الفكرية الإنسانيّة بجميع أبعادها، بما فيها نظام التزكية و التعليم.

  –  المبحث الثاني: العقل البرهاني الفلسفي

إن المراد من العقل هنا بنحو عام هو العقل الإدراكي، أو العقل العام الذي هو عبارة عن القوة العقلية للنفس الناطقة الإنسانية المدركة للكليات بذاتها، و الجزئيات بغيرها، و يمثل مرتبة من مراتب الإدراك وراء الحس و الخيال و الوهم، و به يتميز الإنسان عن سائر المخلوقات.

و يعتبر العقل الإدراكي الحاكم المطلق في مملكة الإنسان، و هو في كشفه للحقائق إمّا أن يكشف عنها بنفسه من دون الاستعــانة بغيره من الأدوات المـــعرفية الأخرى وذلك في القـــضايا العــقلية الكليـة المـجردة، من قبيل (أن النقيضين لا يجتمعان)، و إمّا بالاستعانة بغيره من الأدوات المعرفية الأخرى، كاستعانته بالحس في حكمه على المحسوسات من قبيل حكمه (بطلوع الشمس)، أو استعانته بالتجربة من قبيل حكمه بأن (الجسم يتمدد بالحرارة)، أو بالوحي للحكم على القضايا الاعتبارية الشرعية من قبيل (الصلاة واجبة على المكلف)، و التاريخية من قبيل (أنّ المسلمين انتصروا في معركة بدر).

كمّا أنّ أحكامه تارة تكون قطعيّة، و تارة أخرى ظنيّة، و الأحكام القطعية قد تصيب الواقع فتكون صادقة، و قد تخطاه فتكون كاذبة و هو ما يعرف بالجهل المركب و ذلك لكونه جَهلَ الواقع، و جهلَ بجهلِهِ.

و أما أحكام العقل القطعية الصادقة، فهي إمّا متغيرة كحكم المؤمن العامي بوحدانية الباري تعالى، و تسمى (بشبه اليقين أو اليقين بالمعنى الأعم)، و ذلك لعدم استناده لبرهانٍ عقلي، و إنّما يحصل من أسبابٍ غير ذاتية كالشهرة أو التقليد أو خبر الثقة.

و إمّا أن تكون ثابتة و تسمى (باليقين بالمعنى الأخص) و هو اليقين البرهاني القائم على البديهيات بذاتها، فتكون حجيته ذاتية،  و هذه هي أعلى و أرقى مراتب العقل،  و الذي يسمى بالعقل الخاص أو العقل البرهاني.

–  الفصل الثاني: الرؤية الكونية العقلية

تشكل الرؤية الكونية الأصل الأول في الفكر الإنساني، و التي من خلالها تنبثق الأيديولوجية العملية، و التي تنعكس بدورها على السلوك الاختياري للإنسان في الحياة. و الرؤية الكونية هي عبارة عن مجموعة من الإعتقادات التي تحدد وجهة نظر الإنسان نحو الكون و الإنسان، و تُعرّفه بحقيقة مبدئه، و معاده، و الغاية من وجوده. و امّا الأيديولوجية فهي مجموعة من النظم و القوانين الكلية حول سلوك الإنسان في الحياة.

و بعد أنّ اتّضح كون المنهج العقلي هو المنهج المعرفي الصحيح في كشف الحقائق، فيتحتم من ذلك أنّ تتميز الرؤية الكونية العقلية المنبثقة بصورة رئيسية عن هذا المنهج بالجزم و اليقين، و ذلك لإنها تحصل من خلال البرهان العقلي اليقيني الثابت المطلق المطابق للواقع.

– المبحث الأول: حقيقة المبدأ عند الحكماء

يُعتبر إثبات وجود مبدأ إلهي و محور واحد للوجود من أهم مسائل الرؤية الكونية الواقعية الصحيحة، و التي أقام الحكماء لإثباته العديد من البراهين العقلية المختلفة في جوهرها و أسلوبها. من هذه البراهين (برهان الإمكان و الوجوب)، وهو أنّه لا شك في وجود موجودٍ ما بالضرورة، و هذا الموجود لا يخرج عن حالتين، أمّا أن يكون واجب الوجود بالذات أو ممكن الوجود، فإن كان واجباً بالذات، فقد ثبت المطلوب، و إنّ كان ممكناً إفتقر إلى علّة موجدةٌ له، و علّته إن كانت واجبة بالذات، فهو المطلوب، و إنّ كانت ممكنة مثله، نُقل الكلام إلى علّته و هلمّ جرّاً، فإمّا أن يدور أو يتسلسل، و هما محالان، أو ينتهي إلى علّة غير معلولة هي الواجب بالذات، و هو المطلوب (1).

و هذا البرهان يقتضي كون ذات واجب الوجود مبدأ لكل كمال وجوديًّ، فما في الوجود من كمال، فواجب الوجود واجد له بنحو أعلى و أشرف، كما أنّه تعالى المفيض لكلّ وجودٍ و كمالٍ وجوديّ،  لأن مبدأ الكمال غيرُ فاقدٍ له، و بعبارة أخرى، العلّة المفيضة لشيء يجب أنّ تكون واجدةٌ لحقيقة ذلك الشيء بنحو أعلى و أشرف، لإنّ فاقد الشيء ( الكمال) لا يمكن أنّ يعطيه.

– المبحث الثاني: حقيقة العالم عند الحكماء

اتفق جمهور الحكماء على أنّ عَالَم الإمكان يتكون من عالمين، هما عالم العقول المجردة، و عالم الطبيعة المؤلف من السموات و الأرض، و قد أضاف إليها الفلاسفة الإشراقيون عَالَماً ثالثاً، و هو عالم البرزخ.

والعالم العقلي وموجوداته التي يطلق عليها في الفلسفة الإلهية بـ (العقول)، مجردٌ تامٌ عن المادة و آثارها ذاتاً و فعلاً، و هو أعلى و أشرف الموجودات الممكنة، لكونه طبقاً للقاعدة الفلسفية (الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد)، الصادر الأول و بلا واسطة من الواجب تعالى، و الواسطة في إيجاد ما دونهُ من الموجودات الممكنة، لكون الواجب تعالى واحداٌ بسيطاٌ من جميع الجهات، فلا تصدر منه الكثرة الّإ بالواسطة، و ليس ذلك لعجزٍ منه تعالى، بل لإمتناعه في ذاته.

أما العالم المادي أو مايسمى بعالم الطبيعه، فهو العَالَم المُتعلق بالمادة ذاتاً و فعلاً، و لكونه من الموجودات القابلة للإدراك بواسطة الحواس و التجربة، يسمى بعالم الشهادة، في مقابل عالم الغيب المراد به عالم مابعد الطبيعة، و الذي يُعَد من الموجودات الغيبية الغير قابلة للإدراك بالحواس و التجربة، و إنّما يمكن إثباته بواسطة العقل.

– المبحث الثالث: حقيقة الإنسان عند الحكماء

إن الإنسان موجودٌ له نشأتان: النشأة الظاهرية، و هي البدن العنصري المركب من العناصر الأوليّة، و لكونه مادي فهو عرضةٌ للحركة و التغير، و هذه هي البعد الحيواني الذي يشترك فيه الأنسان مع سائر الحيوانات. و النشأة الباطنية، و هي الروح أو النفس، و التي تُعد حقيقة الإنسان و أصله،  و بها تتقوم إنسانية الإنسان،  و هي موجودٌ مجرّدٌ من المادة ذاتاً دون الفعل. أمّا البدن ما هو إلّا آلة تستخدمها النفس في مسيرها التكاملي من أجل الوصول إلى الهدف الأصلي من خلقة إلانسان و هو الكمال النهائي و السعادة الحقيقية المتمثلة بالقرب الإلهي.

و النفس هي ذاتٌ واحدةٌ لها قوى كثيرة، تتعلق بواسطتها بالبدن العنصري، و هذه القوى النفسانية إمّا مدركة، و إمّا محرّكة. و القوى المدركة أربعة، و هي: القوى الحسيّة، و الخيالية، و الوهمية، و العقلية.

و القوة العقلية هي أرقى قوى النفس البشرية التي يتميز بها الإنسان عن الحيوان، و تنقسم هذه القوة العقلية إلى قوتين: القوة النظرية و القوة العملية، فالقوة النظرية و التي تسمى بالعقل النظري، هي القوة العقلية المدركة للمعقولات الكلية سواء أكانت هذه المعقولات نظرية و هي المتعلقة بما هو كائن، كالله تعالى موجودٌ واحد، أو المعقولات العملية منها و هي المتعلقة بما ينبغي أن يكون، كوجوب العدل. أما القوة العملية و التي تسمى أيضاً بالعقل العملي، فهي القوة العقلية المدبرة للبدن بالإرادة (2).

و العقل النظري له قسمان، و هما العقل الفطري العام و العقل المكتسب الخاص، فالعقل الفطري هو العقل العام البشري بما له من أصول فطرية بديهية ضرورية و قواعد عملية أخلاقية غير مكتسبه. أمّا العقل المكتسب الخاص و هو العقل المدرسي القادر على الاستدلال و هو خاص بالعلماء.

أما العقل العملي فهو المدبر لقوى النفس الحيوانية في الإنسان ، و منشأ لأفعال الإنسان الاختيارية، و الذي يتعلق به المدح في معظم النصوص الشرعية، فهو المقصود أولاً و بالذات فيها؛ لأنّه يدعو للعمل و امتثال الأوامر الشرعية و الأحكام العقلية الضرورية (2).

أمّا القوة المحرّكة فهي القوة المنبعثة عن العقل العملي، و هي قسمان: الفاعلة للحركة، و الباعثة على الحركة، و القوة الباعثة على الحركة و التي تسمى بالقوة الشوقية، و ذلك لأنّ حملها و بعثها للقوة الفاعلة للحركة على الفعل إنّما يكون تابعاً للشوق، و تخدمها قوتان هما القوة الشهوية و الغضبية. فهي إذا حملت القوة الفاعلة على الفعل طلباً للمنفعة تكون شهوية، و إمّا إذا حملت القوة الفاعلة على الفعل دفعاً للضرر تكون غضبيّة.

و القوة الشهویة و القوة الغضبیة هما قوتان تعملان على حفظ البدن من التلف و التحلل، الّإ أنّهما قوتان حيوانيتان فاقدتان للتمييز، و لذلك فقد اقتضت الحكمة الإلهية أن توضع تلك القوتين تحت إمرة العقل العملي، حيث يتمكن من توجيههما إلى العمل بمقتضاهما على طبق القانون العقلي، و تحويلهما إلى قوتان إلهيتان (3).

– المبحث الرابع: حقيقة المعاد عند الحكماء

إن إثبات مسألة المعاد يرتكز على إثبات المبدأ تعالى و صفاتِهِ، و بعدما أثبتنا بالبرهان العقلي وجود المبدأ تعالى و إتصافه بجيع الكمالات الوجودية، سوف نتعرض لإثبات المعاد من خلال صفة العدل الإلهي،  وتقريره: أنّ العدل هو إحدى الكمالات الوجودية الثابتة لذات الواجب تعالى، و الذي هو إعطاء كل ذي حقٍ حقه، و العادل لا يظلم و لا يجور، إذن فالباري تعالى لا يظلم و لا يجور، و بناء على هذا الأساس، فالعدل الإلهي يقتضي أنّ يكون هناك معاداً يحاكم و يحاسب فيه جميع الناس، فيثاب  فيه المطيع و ما يتناسب مع طاعته كما يعاقب فيه العاصي و ما يتناسب مع معصيته، و لكن لكون عالم الدنيا محدود، لا يستوعب ذلك الثواب و العقاب، فلا بد من وجود عالم  آخر يتناسب مع ذلك الحساب العظيم.

كما أنّه لو لم يكن هناك معاداً، للزم حصول الظلم و الجور من الباري تعالى، و هذا ما يتنافى مع غناه تعالى و عدم احتياجه للغير، لأن الظلم نقص فهو لا يكون إلا عن جهلٍ، أو حاجةٍ في ذات الظالم، و الباري تعالى منزه عن جميع ذلك.

–  الفصل الثالث: منهج اصول التزكية و التعليم عند الحكماء

إنّ طبيعة البحث في منهج اصول التزكية و التعليم بحثٌ ايديولوجي يتعلق بالنظام التشريعي العملي عند الإنسان على المستوى الفردي و الاجتماعي، و بعد ما أثبتنا أنّ المنهج المعرفي الصحيح في كشف الواقع،  هو المنهج العقلي البرهاني المعتمد عند الحكماء الإلهيين، و أنّ الرؤية الكونية العقلية المنبثقة منه، هي الرؤية الصحيحة المطابقة للواقع، سنعرج إلى تبيين منهج اصول التزكية و التعليم المنبثق منهما.

– منهج التعليم عند الحكماء   

إنّ الحكماء الإلهيين في مقام التعليم، و بناءً على رؤيتهم الكونية للعالم و الإنسان، يضعون منهجاً تعليمياً يهدف إلى تكميل و تقوية العقل النظري، و ذلك بتحصيل المعارف و العلوم التي تُعد خير زاد للمتعــلم في الدنيا و الآخرة، ففي الدنيا تُعطيه رؤيةٌ صحيحةٌ عن حقيقة الإنسان و العالم الذي يحيط به و مبدأه و معاده، مما يُمَكنه من أن يرسم لنفسه برنامجٍ متكامل و منسجمٍ مع ذلك الواقع و مع فطرته السليمة ، مما يضمن له تحقيق السعادة الحقيقية. و أمّا في الآخرة، فإنها تضمن له الاعتقاد الديني الصحيح الذي يؤهله لدخول الجنة و نيل السعادة الأبدية.

و البرنامج التعليمي عند الحكماء يعتمد على دراسة الحكمة بقسميها النظرية و العملية، فيبدأ الطالب بدراسة الحكمة النظرية المتعلقة بما هو كائن في الوجود، ثم دراسة الحكمة العملية المتعلقة بما ينبغي أن يكون. و الغاية من الحكمة النظرية هي استكمال القوة النظرية للنفس، بإيصالها في حركتها التدريجيه من مرتبة العقل الهيولاني إلى مرتبة العقل بالفعل، و ذلك من خلال تحصيل المعارف و العلوم الواقعية عن العالم و الإنسان و المبدأ و المعاد.

و تشمل الحكمة النظرية على دراسة علم المنطق و الرياضيات و علم الطبيعيات، و الفلسفة الإلهية، يبدأ بعدها بدراسة علوم الحكمة العملية المتعلقة بما ينبغي أن يكون عليه النظام العملي، و ذلك طبقاً للرؤية الكونية العقلية التي تكونت لدى الطالب من دراسته للحكمة النظرية. و الحكمة العملية تشتمل على ثلاثة علوم هي علم الأخلاق و علم الإجتماع و علم السياسة، فيبدأ الطالب بدراسة علم الأخلاق ، ينتقل بعدها إلى دراسة علم الإجتماع و علم السياسة المتعلقين بالقيم العملية على المستوى الإجتماعي، و بإتمام الطالب لدراسة هذه العلوم يكون قد استوفى لعلوم الحكمة بنحوٍ كلي عقلي، و حصّل أصولها و قواعدها العامة، فيمكنه بعد ذلك من أن ينتقل إلى سائر العلوم النظرية والعملية الجزئية، التى تعتمد على مناهج أخرى نقلية كالعلوم الشرعية أو التاريخية، أوحسية استقرائية كبعض العلوم التطبيقية والإنسانية وغيرها.

– منهج التزكية عند الحكماء

إن إكمال العقل النظري لنّفس الإنسانيه بواسطة تحصيل العلوم العقلية، لا يكفي في بلوغ الإنسان سعادته الحقيقية المتمثلة في القرب الإلهي، و لهذا يعتمد الحكماء الإلهيين بالإضافة إلى المنهج التعليمي منهجاً للتزكية يهدف إلى تقوية و إكمال القوة الآخرى لنّفس الإنسانية الناطقة و هي القوة العملية أو ما يصطلح  عليها بالعقل العملي، و هو العقل الذي يقوم بوظيفة تدبير البدن و قواه الحيوانية طبقاً لأحكام العقل النظري.

و الذي يكون بإستنهاض الهمة و الإرادة لدى الطالب نحو الأفعال الإختيارية الحسنة بنحوٍ مكرّر، مما يبعث على اشتداد وجود الهيآت النفسانية لدى الطالب، و بالتالي تحولها إلى ملكات أخلاقية فاضلة يصدر عنها الأفعال الحسنة بسهولة و يسر، كأن يصدر منه العدل في قضائه بعفوية من دون مهلة أو روية، و هكذا في جميع أفعاله.

المصادر:
(1) محمد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة ، ص289.
(2) أيمن المصري، أصول المعرفة و المنهج العقلي، ص71.
(3) أيمن المصري، معالم النظام السياسي، ص49.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *