تعملُ الفلسفة على إيقاظ الفكر الإنساني، وإدهاشه، عبر طرح الأسئلة الصادمة للبداهة والوضوح، والتي اعتادَ الإنسان أن يُسلِّم بإجابات جاهزة، سهلة، قدَّمتها له البيئة أو سلطات معرفية مهيمنة داخل مجتمعه، دون أن يفحصها، ومن ثمَّ يُخرجها من دائرة المفكر فيه. إذ هي – أي الفلسفة- في أغلب الأحيان مُحاولة للتفكير في اللامفكر به. إنَّها تخوض معركتها ضد عدوِّها الأساس: الخمول الفكري، المتمترس خلف جبهة عريضة من المسلَّمات في كافة الميادين. فغاية الفلسفة تحطيم هذا الجدار العالي من المسلَّمات، الذي يقبع خلفه عقلٌ أريد له -أو أراد لنفسه- أن يبقى دائمًا أسيرا وراء هذا الجدار، وأن لا يتجاوزه. وما الفلسفة إلا محاولة لتخليص العقل من هذا الأسر وجعله حرًّا طليقا يُحلِّق في فضاء المعرفة دون قيود، يحقُّ له في هذا الفضاء أن يتساءل وأن يتأمل؛ حيث لا توجد سلطة معرفية تكبح تساؤلاته وتأملاته، وتحجر عليه كيف يفكر.
وعندما يتحرَّرهذا العقل، فإنَّ روح الفيلسوف تتجلَّى فيه؛ حيث يتحلى باليقظة الدائمة والدهشة، كتلك التي يتحلى بها الأطفال عندما يُبدون دهشتهم بهذا الكون، ويتساءلون عن كيف كانت البداية؟ وكيف ستكون النهاية؟ ومن أوجد هذا الكون؟ وكيف يمكن لقاؤه؟… وأسئلة أخرى تتعلق بمعنى الحياة والموت، وأسرار هذا الكون، وهي أسئلة في ظاهرها غاية في البساطة والوضوح، لكنها عميقة، تتطلَّب أبحاثا في الفلسفة والعلوم. يبدأ الخمول الفكري عندما يُصاب الإنسان بالرتابة، وتخبو فيه هذه الروح اليقظة المندهشة بالوجود، وبجماله، وأسراره، وذلك بفعل التكرار، وهذا من أكبر العقبات التي ينتج عنها تباطؤ الفعل المعرفي، إنها العقبة المعلوماتية كما يُسمِّيها فيلسوف العلم غاستون باشلار. وعندما يُبتلى العلماء بهذه الرتابة، وتذوي فيهم روح التساؤل والشك، ويطمئنون حدَّ اليقين لنظريات عصرهم، فإنهم يتحولون إلى عقبة تقف سدا أمام المعرفة، يقول غاستون باشلار في كتابه ” تكوين العقل العلمي “: “يمكن لعادات فكرية كانت مجدية أن تصبح معيقة للبحث. إن الرجال العظماء مفيدون للعلم في النصف الأول من حياتهم، مضرون في النصف الثاني… ثم يأتي حين يكون فيه العقل مُحبًّا لما يؤكد معرفته أكثر مما يناقضها، ومحبًّا للأجوبة أكثر من الأسئلة. عندئذ تسود الغريزة المحافظة، ويتوقف التطور الروحاني” (1، ص14).
وهذا يعني أنَّ العادات الفكرية تُشكِّل خطورة على المعرفة، وعلى روح العالم الذي مُهمته الوصول للحقائق. والإستسلام للعادات الفكرية، وتوظيف الأفكار توظيفا استعماليا على حدِّ وصف برغسون “لعقلنا نزعة قوية لإعتبار الفكرة الأوضح هي الفكرة الأكثر استعمالا” (1، ص14)، له آثاره المدمرة لحركة المجتمع ونهضته؛ فالمجتمع الذي تضعف فيه روح التساؤل والنقد، يضعُف فيه العقل، وتسود فيه الأفكار التي رسختها سلطات معرفية من داخله، فإن هذا المجتمع محكوم عليه بالموت والتخلف، ويقبع في أسفل سُلم الثقافة، وتعصف به العصبيات، ويعيش خارج إطار الحركة الحضارية. وبالعكس، المجتمع الذي ينشط فيه العقل المتحرِّر من أسر التقليد والبلادة الفكرية، تنشط فيه الفاعلية الروحية – التأملية، ويرفض الخضوع لسلطات معرفية تحجر عليه التفكير خارج الحدود التي وضعتها – لهو وكما يشهد التاريخ مجتمعا حيا ومتقدما ومستنيرا.
ومما هو مُثير حقًّا، ومدهش، هذا السؤال الذي تضعنا الفلسفة أمامه، والذي تبدو قضيته في واقع الإنسان بديهي وواضح، وغير مُفكر به، وهو”لماذا هذا الكون يقبل الإدراك العقلي؟”
هذا التساؤل قد تبدو قضيته واضحة وبديهية للكثيرين من الناس، لكنه في الواقع لغزٌ كبير ومحير. إذ إنَّ هذا التساؤل يضعنا أمام مشكلة معرفية عميقة هي في إطارها العام تتمثل في العلاقة بين ما هو مجرد وبين ما هو مُشخَّص؛ فالعقل ومعقوله يُمثِّلان البعد المجرد في هذه الإشكالية، والمشخص هو هذا الواقع المادي. والسؤال في جوهره: لماذا يكون هناك تطابق بين العقل وأحكامه، وبين هذا العالم الخارجي؟ ولماذا هذه المطابقة تُثمر معرفة حقيقية ومنسجمة؟
أحد أبرز تجليات هذه الإشكالية في ميدان العلوم هو أن هذا الإدراك العقلي للكون له طبيعة رياضية، فهذه الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات كما يقول جاليلو. هذه العبارة هي وصف دقيق لهذه الإشكالية التي نتحدث عنها. لأنها تتحدد بطرفين ينتميان إلى واقعتين مختلفتين، فطرف يمثله الرياضيات الذي هو في حقيقته نشاط ذهني عالي التجريد، والطرف الآخر هذا الواقع الفيزيائي، والإشكالية هي أن الرياضيات وسيلة فعالة ومثمرة في الكشف عن الواقع الفيزيائي واستخلاص قوانينه. فلماذا تتطابق الرياضيات مع الواقع الطبيعي؟ ولماذا تذعن الطبيعة لقوانين العقل؟ إنه لأمرٌ مُدهش، ولغزٌ أبديٌّ كما يصفه آينشتاين. هناك بُعد إيماني خفي أو يتم إخفاؤه؛ وذلك عندما يتم تجاوز هذه الإشكالية أو السكوت عنها، وهذا الإيمان حقيقي وعميق عند العلماء، ويتمثل في الثقة المطلقة التي يضعونها في الرياضيات، وقدرتها على اكتشاف الواقع؛ إذ تقوم النجاحات التي تحقِّقها العلوم بهذا الإيمان الخفي أو المخفي، وهو هذا التطابق بين الرياضيات بوصفها فعالية ذهنية والواقع الطبيعي- التجريبي. فكيف ينسجم ما هو عقلي مجرد مع ما هو طبيعي مادي؟ يشير العالم الحائز على جائزة نوبل للفيزياء يوجين ويغنر، إلى هذا اللغز وجنباته الإيمانية، فيقول: “إن الفائدة العظيمة للرياضيات في العلوم الطبيعية شيء غامض ولا يوجد تفسير عقلي له… هي مقولة الإيمان” (2، ص 61). ويعبر عالم الرياضيات الكبير روجر بينروز عن عميق العلاقة التي تربط الرياضيات بالفيزياء فيقول: “إنه من الصعب عليَّ أن أعتقد…أن النظريات الكبيرة نتجت عن انتخاب عشوائي طبيعي للأفكار، تاركة الجيدة منها. وهذه الجيدة هي ببساطة على درجة عالية من الجودة؛ بحيث لا يمكن أن تكون قد نتجت بطريقة عشوائية؛ لذلك لابد أن يكون هناك سبب عميق لهذا الإتفاق بين الرياضيات والفيزياء” (المصدر السابق، ص 61) ويقول عالم آخر، جون بولنغنور: “العلوم لا تفسر الإدراك الرياضي للعالم الفيزيائي، إنه جزء من الإيمان المؤسس للعلوم” (2، ص 61). هذه نصوص ذات أهمية خاصة، إنها تؤسس العلوم على قاعدة الإيمان، إن هذا الإيمان العميق المؤسس للعلوم يصطدم ويتناقض مع العقلانية العلمية التي تسعى لتأسيس رؤية مادية للعالم. هذه الإشكالية من ذات الطبيعة التي تُحيرنا عن معنى الحياة بأسرها، فليست العقلانية العلمية قادرة بمنهجيتها على تفكيك هذا اللغز، وتقديم معنى للحياة. النظرية العلمية بذاتها غير قادرة على الكشف على الحقيقة الطبيعية المطلقة؛ فكيف بها أن تكشف عن سر يتعالى على هذه الحقيقة، تعود بنا مثل هذه المعاني الغامضة إلى مقولة الإيمان، التي نرفع بها قلق هذه التساؤلات. جون لينكس عالم الرياضيات، يُقدِّم جوابه عن قابلية الكون للإدراك العقلي، بوصل العقل الإنساني بالعقل الإلهي غير المحدود، قابلية العقل للتطابق مع الوقع العيني إنما يمكن أن نعزوها إلى العقل الإلهي الذي خلق العالم وخلق العقل الإنساني.
نحن إذن إزاء إشكالية العلاقة بين العقل والواقع ، تعرف عليها علماء الفيزياء والرياضيات، بعد أن قدموا للعالم نظرياتهم الكبيرة من خلال هذا التوافق الكبير بين الرياضيات والفيزياء؛ بحيث تشكل لديهم إيمان قهري بحقيقة هذا التوافق، ولكن دون أن يقدموا تفسيرا له. لكن هذه الإشكالية تذهب بعيدا في الفكر الإنساني وقد ناقشها الفلاسفة، لكنْ لتطور العلوم الحديثة دور كبير في تأكيدها. فالنظريات الفيزيائية الحديثة هي نتاج شبكة من العلاقات الرياضية المعقدة والمتسقة مع نفسها، هي تحقيق مشخص لهذا البناء الرياضي الذي تحكم نسقه الاستدلالي روابط منطقية. يتميَّز البرهان الرياضي الحديث بأنه يقوم على مجموعة من الفروض – المبادئ الأولية- بصرف النظر عن صدقها أو كذبها في الخارج، ثم يتم تشييد نسق رياضي متماسك ومنسجم بروابط منطقية، مشدودة أطرافه بعضا إلى بعض بصورة غاية في الإتساق، وهذا ما يعرف بالبناء الأكسيوماتيك (Axiomatique)، هذا البناء الأكسيومي تعتمده الفيزياء الحديثة في تشييد نظرياتها؛ وذلك بالإنطلاق من فروض ومبادئ لم يعرف ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة، وعلى ضوئها يتم بناء نسق رياضي مُحكم، ومنه يستخلص عدد من النتائج التي يتم التأكد منها عمليًّا في مرحلة لاحقه. يقول العالم الفيزيائي بول ديفيدس: “معظم الرياضيات الناجحة والقابلة للتطبيق اشتغل عليها رياضيون بصورة تجريدية قبل فترة من مرحلة تطبيقها في الواقع” (2، ص 62). في البناء الأكسيومي المرحلة التجريدية تسبق المرحلة التطبيقية، ولا توجد علاقه بينهما قبل مرحلة التطبيق. فنظرية التناظر الأعلى supersymmetry في الفيزياء تم تأسيسها على مجموعة من المبادئ التي أختيرت بعناية من أجل تجاوز العجز في النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات. وهذه المبادئ صِيغت في فضاء رياضي يحكمه منطقه الخاص والمستقل تماما عن المعنى المشخص. صحيح أن ما يُراد من هذا النسق الإستدلالي أن نتلمَّس واقعنا الفيزيائي، لكن ذلك في مرحلة لاحقه، وبعد أن نستكمل بناءه. أما في مرحلة البناء، فنقصر النظر على مفرداته، ونعمل على وصل بعضها البعض، وفق ذلك المنطق الخاص الذي ارتضيناه واكتشفناه من عجز أصاب نظريات سابقة. وبعد استكمال البناء، نعمل على التحقق من نتائجه من خلال التجربة باعتبارها المحدد العلمي في قبول النظرية أو رفضها. ينظُر بعض الفيزيائيين لجمالية النسق الرياضي كدليل على صدق النظرية. يقول بعضهم عن نظرية التناظر الأعلى، إنها جميلة، لابد أن تكون صحيحة. ويكشف الدكتور عماد فوزي الشعيبي عن سر الترابط الوثيق بين الرياضيات والفيزياء من خلال المعنى الجمالي المتعالي لهذه الأنساق الرياضية.. فيقول: “أدخلت الفيزياء عموما، ومن ثم ميكانيكا الكم، طريقة جديدة في المعرفة العلمية؛ كشفت أن أغلب العلم الذي نتناوله يسترشد بالإحساس الجمالي. فالجمال هنا تعبير عن اتساق المعادلة مع المطلوب، أو الشكل البنيوي للمادة مع ما هو متناظر وجميل، والواقع أن تصور العالم الفيزيقي بوصفه جميلا هو ما يجعل الترابط وثيقا بين الفيزياء والرياضيات؛ إذ إن أول خاصية للرياضيات هي جمالها، وهو جمال مطمور في تناغم وانسجام القضايا، وتبعا لهنري بوانكاريه، فهي لا تمتلك الصدق فقط، وإنما تتمتع بجمال أسمى ولا يمكن حصره بكلمات. ويشكل الجمال مع التساوق والخصوبة ثلاثية تنسجم مع ما يسمى بقوانين الواقع الفيزيائي” (3، ص 355). وفي الواقع، ليس هناك من دلالة على أن جمالية النسق النسبية في مرحلة التجريد تتطابق بالضرورة مع الواقع الموضوعي.. لكن هناك شيء من الحقيقة في هذا الأمر.
تشتدُّ هذه الإشكالية وضوحا وسطوعا، بعد أن أكدت الفتوحات العلمية في الفيزياء الحديثة حقيقة هذا التطابق (بالطبع المقصود بالتطابق هنا النسبي وليس المطلق، لكنه حتى بنسبويته يدعو للتأمل) المذهل بين الجانب الأكسيومي التجريدي الصوري وبين الجانب التجريبي، أو ما نسميه بالواقع المشخص. لكن هذا التطابق بين الرياضيات والفيزياء هو أحد مصاديق هذه الإشكالية التي بحثت في إطارها الأوسع من قبل الفلاسفة؛ بحيث تبرز فيه هذه الإشكالية على النحو الذي عبر عنه هيجل: “كل ما هو عقلي واقعي، وكل ما هو واقعي عقلي”؛ إذ ليس هناك شيء لا يقبل التفسير العقلي، وإن كل ما يقبل التفسير العقلي فهو موجود بالضرورة (4، ص22).
أمَّا ديكارت، فنظر إلى هذه الإشكالية بالعودة لمقولة الإيمان أيضا، كما فعل جون لينكس. فَصَل ديكارت بين العقل والطبيعة بإرجاعهما لطبيعتين مختلفتين؛ هما: الفكر، والإمتداد. وقال بوجود الأفكار الفطرية في العقل، والطبيعة عنده تخضع لقوانين صارمة، لكنها مساوقة ومتطابقة لقوانين العقل. يعُود يقين ديكارت بهذه الأفكار الفطرية بإرجاعها إلى الله الخالق الذي لا يُمكن أن يضلل الإنسان ويخدعه. وكذلك فهو يرجع هذه المساوقة بين العقل وقوانينه والطبيعة وقوانينها إلى الله؛ باعتباره خالقَ العقل والطبيعة معا. إنَّها مقولة الإيمان التي تُعطي معنًى لهذه الإشكالية العميقة، وإلا عصف بنا الشك وعدم اليقين. إذن، هو الإيمان الذي يؤسِّس للحقيقة الطبيعية وغير الطبيعية.
تخلَّص الفيلسوف “كانت” من الإشكالية ذاتها، بعد أن قرَّر استحالة هذا التطابق بين العقل وقوانينه، وبين الواقع المادي. إنَّ كانت يُقرِّر استحالة معرفة الواقع الخارجي كما هو لذاته. فكانت يميز بين الشيء لذاته كما هو موجود في الواقع الخارجي وهذا غير قابل للمعرفة، والشيء لذاتنا وهو مزيج بين الشيء لذاته والصور الفطرية التي تتَّحد معه في الذهن؛ لذلك تظل معرفتنا بالواقع نسبية؛ لأن إدراكنا لها يعكس حقائق الأشياء لذواتنا، وليست حقائق الأشياء لذاتها (5، ص 129). في الواقع ان كانت أخذ بهذه الإشكالية منحى مختلفا تماما عمن سبقوه عندما اعتبر أنَّ العلوم الرياضية لا يوجد بها هذه الإثنينة، الشيء لذاته والشيء لذاتنا؛ فهذه العلوم مخلوقة للنفس؛ وبالتالي تصبح الحقائق الرياضية حقائق يقينية مطلقة. يقرِّر كانت في تحليله النهائي للمعرفة أن ليس ثمة تطابق بين العقل والواقع؛ فهذا مستحيل إنما هو تطابق العقل مع العقل نفسه. إن كانت يفكك هذه الإشكالية بالقول باستحالتها، ويحصر التطابق بين العقل والعقل نفسه، لكن ذلك ينتهي بكانت إلى المثالية حتما “إن كانت يعتبر القوانين المتأصلة في العقل البشري قوانين للفكر، وليست انعكاسات علمية للقوانين الموضوعية التي تتحكَّم في العالم وتسيطر عليه بصورة عامة، بل لا تعدو أن تكون مجرد روابط موجودة في العقل بالفطرة يُنظم بها إدراكاته الحسية… والانسياق مع المذهب النقدي هذا يؤدي للمثالية حتمًا؛ لأنَّ الإدراكات الأولية في العقل إذا كانت عبارة عن روابط مُعلقة تنتظر موضوعا لتظهر فيه، فكيف يُتاح لنا أن نخرج من التصورية إلى الموضوعية؟ وكيف نستطيع أن نُثبت الواقع الموضوعي لأحاسيسنا المختلفة – أي الظواهر الطبيعية التي يعترف بموضوعيتها (كانت)- (5، ص 132). منشأ هذه المثالية، كما يوضح هذا النص، هو أن إدراكاتنا الفطرية والعلوم الرياضية هي النفس؛ فمعرفتنا اليقينية ينتجها العقل نفسه. لكنَّ مثالية كانت تزول إذا ما عزونا هذه الإدراكات الفطرية والمبادئ الرياضية في العقل إلى انعكاسات لواقع موضوعي مستقل، وليست مجرد روابط تنظم إدراكاتنا الحسية.
وعلى ضَوْء ما يُقرِّره كانت من أنَّ المعرفة مطابقة العقل لنفسه، لكن لا كما يقول كانت من أن هذا التطابق مخلوق للنفس، ويشكله العقل في قوالبه الخاصة، بل باعتبار أن المعرفة نتاجَ تطبيق إدراكات فطرية ضرورية ذات واقعية موضوعية مستقلة على الواقع، وكنا قد أوضحنا فسادَ هذه الرؤية الكانتية للمعرفة بشكل مقتضب؛ لأنها كما بيَّنا عاجزة عن التدليل على الواقع الموضوعي لأحاسيسنا، فإن هذه الاشكالية تتخذ شكلا آخر يتعلق بنحو من الوجود يختلف عن الوجود الخارجي، إنه الوجود الذهني. ومن هنا، نحن بإزاء إشكالية متفرعة من الأولى تتعلق بهذه الوجودات الذهنية. وهذه الإشكالية الفرعية تعني أن هناك وجودات ليست في عالم الواقع، وهي ذات حضور قوي للنفس تُشبه تماما الوجودات المادية في العالم الخارجي”. إنَّ المعاني الرياضية، وهي المقطوعة الصلة تماما عن التجربة، تفرض نفسها على الفكر كـكانئات ذات وجود لا يقل صلابة وقوة عن وجود التجربة أن ننسبها للأشياء المادية نفسها، وأن مقاومتها للفكر لا تقل عن مقاومة الأشياء المادية للجسد. هناك إذن مشكلة أخرى تطرحها مسألة العلاقة بين الرياضيات والتجربة، يُمكن التعبير عنها كما يلي: ما هو نوع “الوجود” الذي يجب أن ننسبه إلى الكائنات الرياضية؟ “(6، ص 120).
ونحن سنقف عند هذا التساؤل الأخير كما ورد في هذا النص، وهو تساؤل مُهم للغاية، نروم من خلال بحثه فهم حقيقة الكائنات الرياضية كوجودات ذهنية مستقلة عن الواقع.
الكائنات الرياضية والوجود الذهني
هُناك مفاهيم وتصوُّرات قائمة في الذهن ليست موجودة في الواقع الطبيعي. الإنسان يُدرك -على سبيل المثال- الخط والسطح والدائرة على نحو مُتصل، دون حدود وفواصل، مع أن هذه التصورات الذهنية لا وجود لها بهذه الكيفية المتصلة في الطبيعة. كما أن الذهن ينتزع من هذه الخطوط أشكالا هندسية مختلفة ويصدر عليها أحكاما قطعية. ففي عالم الذهن تُوجد أشكال هندسية مختلفة كالمثلثات والدوائر والأسطح، ويقوم العقل بإصدار أحكامه اليقينية والقطعية عليها، وهذه الأحكام ليست لها موضوعات في الواقع المادي. وفي عالم الذهن، يتمتَّع المثلث أو الدائرة بنفس قوة الحضور الذي تتمتع به الشجرة على سبيل المثال في الواقع المادي. إذن؛ يحوي الذهن كائنات رياضية ذات قوة وصلابة لا تقل قوة وصلابة عن الكائنات المادية كما يقول النص السابق. ولقد درج الإنسان على تسخير معرفته بهذه الكائنات الرياضية في واقعه العملي، وهذا الدليل على أن مثل هذه الكائنات الرياضية القائمة في الذهن تتمتع بهذه القوة من الحضور الصلب الذي لا يُمكن للفكر أن يقاومه. التطبيقات العملية – المادية لهذه المعارف التي ينتجها العقل للقضايا التي ليست لها موضوعات في الواقع المادي، هي التي تعيدنا إلى الإشكالية الأصلية؛ وهي التطابق بين قوانين العقل والواقع. ويمكن للقارئ أن يَلْحَظ أن هذه الإشكالية الفرعية – وأعني بها الوجودات الذهنية (سيتضح لاحقا لماذا أطلقنا عليها وجودات ذهنية)- تعود بنا للإشكالية الأم والأساس التي تحدثنا عنها.
الحديثُ عن هذه الكائنات الرياضية الموجودة في الذهن يمتدُّ ليشمل الإدركات العقلية للمعاني الكلية؛ فالإنسان، والشجر، والحيوان، وكذلك كُليات المعاني الرياضية كالزوجية والفردية، والمفاهيم الفلسفية كالعلية والوحدة والكثرة، هي في حقيقة الأمر وجودات قائمة في الذهن، وليست موجودة في الخارج؛ فالإنسان مثلًا هو مِصْدَاق عقلي كلي يضمُّ كلَّ أفراد الإنسان دون أن يكون هذا المعنى بذاته متعينًا في الخارج. وكذلك الزوجية والفردية، ينتزعها الذهن من الأعداد دون أن يكون لهذه الكُليات الرياضية تشخُّصات في الواقع الخارجي. ولسنا بحاجة للتدليل على ما تلعبه مثل هذه الوجودات أو الكائنات الذهنية في المعرفة الإنسانية وتقدُّم الحضارة البشرية. لك أن تتصوَّر مثلا مفهوم العدد التخيلي، وهو نتاج الفكر الرياضي البحت والمجرد، ما يحققه من فوائد عظيمة في تقدُّم العلوم وتطبيقاتها. فهو – العدد التخيلي- يدخل في الكثير من المعادلات العلمية ذات الأهمية الكبرى في فهم الظواهر الكونية. يُمكن القول أنَّ هذه الوجودات الذهنية والغير متعينة في الخارج هي ذات أهمية كبيرة في إنتاج المعرفة وتطبيقاتها العملية.
وبما أنَّ هذه الوجودات الذهنية بهذه الأهمية في مَيْدان المعرفة، فإنَّ البحث يأخذنا إلى طرح مسألة الوجود الذهني وخصائصه؛ من أجل فهم حقيقة العلم.. فما دامت المعرفة تتقوَّم بمجموعة من الإنتزاعات التي يقوم بها الذهن للقضايا الحسية؛ بحيث تتشكَّل لديه مجموعة من المفاهيم الضرورية التي تُشكِّل القاعدة الصلبة التي تتأسس عليها المعرفة الإنسانية، وهذه المفاهيم هي وجودات وكائنات للفكر تمامًا تُشبه صلابة ومتانة الوجودات الخارجية في الواقع الطبيعي، فإنَّ ذلك ينحو بنا بشكل قَصْري لفهم الوجود الذهني وخصائصه فلسفيًّا؛ حتى يتسنَّى لنا فهم حقيقة العلم بمعناه الأعم.
لم يتبلور بَحْث الوجود الذهني إلا مع صدر الدين الشيرازي، وإنْ كُنا نجد في كلمات بعض الفلاسفة الذين سبقوه الإشارة إلى هذه المسألة. فهذا ابن سينا في النص الآتي يشير إلى هذه المسألة بوضوح؛ فيقول: “وإنما وقع أولئك فيما وقعوا بسبب جهلهم بأنَّ الأخبار إنما يكون عن معانٍ لها وجود في النفس، وإن كانت معدومة في الأعيان…” (7، ص 189)، وكذلك أشار الخواجه نصير الدين الطوسي إلى هذه المسألة، عندما قسَّم الوجود إلى الذهني والخارجي، بقوله: “وهو (أي الوجود) ينقسم إلى الذهني والخارجي، وإلا لبطلت الحقيقة” (8، ص 158). يظهر أنَّ الدافع وراء طرح الفلاسفة لمسألة الوجود الذهني هو إثباتهم أن العلم يتعلق بالأحكام القطعية التي يُثبتها الذهن للموضوعات غير الموجودة في الخارج، والتي لا يمكن لها أن توجد في الخارج، كتلك المتعلقة بالممتنعات والمعدومات (7، ص 190). لقد باتتْ معالم الصورة العامة تتضح لدى القارئ من العرض الذي قدَّمناه من أن كائنات الفكر لها ارتباطٌ وثيقٌ بمسألة الوجود الذهني، وارتباط هذا الأخير بنظرية المعرفة. ومن أجل البيان التفصيلي الذي يخدم الغرض الذي من أجله كتبنا هذا المقال، دعُوْنا نقف عند تقسيم الوجود إلى الذهني والخارجي كما ذكره الشيخ الطوسي في النص السابق، ونتساءل عن الصلة التي تربط بين الوجود الذهني والوجود الخارجي؟ يجب أن يُدرك القارئ أن الوجودات الخارجية تنقسم إلى ماهية ووجود، وإن الوجود وليس الماهية هو ما تتحقق به الآثار الخارجية. فماهيات الأشياء إذا كانت موجودة بوجود خارجي، فإنه يترتب عليها الآثار الخارجية. فالنار في الواقع الخارجي المادي مُضيئة ومُحرقة. أما ماهية النار الموجودة في الذهن، فلا يترتب عليها ذات الأثر الخارجي. وبذلك؛ فإنَّ الماهيات الموجودة في الخارج لا تنفك عن آثارها الخارجية، أما الماهيات الموجودة في الذهن فلا يترتب على وجودها الذهني تلك الآثار الخارجية. وعلى ضوء ذلك، رأى الحكماء الذين سبقوا صدر الدين الشيرازي أنَّ الوجود الذهني هو حضور ماهية الأشياء في الذهن مجردة من الآثار الخارجية. وبالتالي؛ فإنَّ العلم بناءً على ما قرَّره الحكماء هو حُضُور ماهية المعلوم لدى العالم. لكنَّ القول بالرابطة الماهوية بين العلم والمعلوم لم يصمُد أمام النقد الفلسفي. ولسنا نحن هنا في مقام عرض الأدلة النقضية للعلاقة الماهوية بين العلم والمعلوم؛ فذلك يُمكن للقارئ أن يرجع إليه في مصادره. لقد حرَّر صدر الدين الشيرازي العلاقة الماهوية بين علم النفس والواقع الخارجي، واستبدلها بالعلاقة الوجودية. وبذلك؛ يستكمل صدر الدين منظومته الوجودية بعد أن ربط عالم الذهن والعالم الخارجي بالرابطة الوجودية. لكنَّ توضيح مثل هذا المطلب يخرج عن حاجتنا لفهم إشكالية العلاقة بين المجرد والمشخص. ما نحن بحاجة إليه هو أن ندرك – ولو بشكل موجز- خصائص الموجود الذهني حتى يتسنَّى لنا الربط بين الكائنات الرياضية والوجود الذهني.
ومن أجل هذا الهدف، علينا أن نفرِّق بين نوعيْن من القضايا: القضايا الخارجية، والقضايا الحقيقية.. القضايا الخارجية هي قضايا كُلية، لكنها محصُورة؛ بحيث يثبت فيها الحكم للأفراد الموجودين بالفعل. فعندما نقول مثلا: “إن الأفراد الموجودين في تلك الغرفة جميعهم مُدخِّنون”، فهذا الحُكم ثابت لهؤلاء الأفراد، وليس لهذا ربط بالأفراد خارج هذه الغرفة. إذن؛ في القضايا الخارجية يتبع الحكم فيها الموجود الخارجي، وهي بالتالي نوع من القضايا الشرطية. أما القضايا الحقيقية، فهي قضايا يثبُت فيها الحكم لماهية الأشياء، ولا تنحصر بالأفراد الموجودة في الخارج. فالماهيات تأتي للذهن، والذهن يُثبت لها الأحكام، وليست هذه الماهيات محصورة في الخارج. فعندما نقول إنَّ “مجموع زوايا المثلث يُساوي مجموع قائمتين”؛ فهذه قضية حقيقية يثبُت فيها الحكم دائما للمثلثات. وعندما تكون هذه الماهيات محصورة في الخارج فلن توجد لدينا قضايا حقيقية على الإطلاق. فجميع ما نُثبته من أحكام تتعلق بتلك الكائنات الرياضية التي تحدثنا عنها هو تتبُّع القضايا الحقيقية؛ بحيث تُثبت فيها الأحكام للماهيات الموجودة في الذهن، والتي هي أعم من الموجودات الخارجية. والأحكام الثابتة في القضايا الحقيقية تكون قطعية ويقينية، وهي غير مشروطة بالموجود الخارجي. ومن هنا، تكون قوة حضور مثل هذه الكائنات التي لا يُمكن للفكر مقاومته. كما أنَّ الذهن يمتلك قدرة على التجريد والتعميم. فالذهن يقوم بتفكيك الشيء الموجود في الخارج من بعض الكيفيات الخاصة به، وبعد ذلك يُصدر أحكامه العامة لذلك الموجود كما هو في الذهن. فالذهن قادرٌ مثلاً على تجريد المعدود الخارجي وتكوين مفهوم العدد؛ فالعدد غير المعدود، والذهن بعد تكوين مفهوم العدد يثبت له أحكامه القطعية واليقينية. (8، ص 159-1-162)؛ فما يوجد في الذهن هو ذلك الكلي المجرد، والأحكام التي يُثبتها الذهن له أحكام يقينية. ويلزم من ذلك أنَّ إنكار الكلي هو إنكار للموجود الذهني، وهذا له ضرره البالغ على المعرفة كما يذكرالشيخ عبدالله آملي في هذا النص: “أن إنكار الوجود الذهني يلحق ضررا بليغا بعلم المعرفة؛ لأنَّ كل معرفة مُرتبطة بالإدراك الكلي… وبما أنَّ الكلي موجود في الذهن فقط، وليس له طريق إلى الخارج، فيكون إنكار الوجود الذهني مُستلزما لإنكار وجود الكلي، وبهذا لا يبقى طريق لمعرفة أي شيء” (7، ص 192).
ورَغم أنَّنا ما زلنا نُراوح مكاننا من حيث الإشكالية الأم، دُون أن نقدِّم مُعالجة ناجعة نستوحي منها فك شيفرة سؤال المطابقة بين العقل والواقع، لكننا حاولنا أن نقدِّم مقاربات تدور في فلك السؤال نفسه، مما يُمكننا من الاقتراب أكثر من إمكانية الحل. وعند التأمُّل أكثر في سؤال المطابقة هذا، سنجد أنَّ المطابقة تحتم علينا تفكيك معنى كَون الإنسان مُدركا. فما هو الإدراك عند الانسان؟ وبذلك؛ فإنَّ الإشكالية تتجه بنا نحو فهم ماهية الإدراك ذاته.
مِن الإدراك الحاسوبي إلى اتحاد العاقل والمعقول
روجر بينروز العالم الرياضي والفيزيائي المعروف، في كتابه “ظلال العقل”، يقترب من إشكالية العلاقة بين الفيزياء والعقل بالرجوع لعالم المطلقات الأفلاطونية. يُقسِّم روجر العوالم إلى ثلاثة عوالم متباينة: العالم الفيزيائي، والعالم العقلي، والعالم الأفلاطوني. وهذه العوالم الثلاثة تتواصل فيما بينها لتشكل وعينا.
فعالم العقل لدينا يتَّصل بالعالم الأفلاطوني الذي يَحْوِي مِثل هذه الكائنات الرياضية ذات المعاني الكلية المطلقة، ويستعين بها لفهم العالم الفيزيائي. هنا، يُحاول روجر أن يفسِّر الوعي لدينا بالمطلقات أو الكليات المعرفية، والتي ليست هي في ذاتها مُتشخِّصة في الخارج. فما يقوم به العقل الفعَّال من انتزاع هذه المعاني الكلية -كما يقول به الفلاسفة- يخصص روجر لها عالمًا خاصًّا هو العالم الأفلاطوني. هي محاولة لكنها في الحقيقة لا تزيد على أنها تُعيدنا دائما للمربع الأول. لكن في كتابه الآنف الذكر، يضيف للموضوع شيئًا مُهمًّا، وهو أنَّ الإدراك الإنساني لا يُماثل الذكاء الصناعي، وليس مما يُمكن تمثيله حاسوبيًّا، بل هو شيء مُختلف تماما، وقبل أن نستعرض مُناقشة روجر لدعواه دعونا نستوضح المعنى، كما يُحدده روجر نفسه، من أن الإدراك الإنساني غير حاسوبي: يعني أنه خارج نطاق أو وراء القدرة على التمثيل الحاسوبي المبني على المبادئ المنطقية، وهي البنية الأساسية للأجهزة الحاسوبية.
يستعينُ روجر بالرياضيات من أجل أن يُثبت أنَّ الإدراك الإنساني؛ بما يتضمنه من عنصر الفهم لا يُماثل الإدراك الحاسوبي. أما ولماذا الرياضيات؟ فينظر روجر أولا إلى الإدراك الرياضي على أنه لا يختلف عن بقية الإدراكات الأخرى. ويرى أنَّ الإدراك الرياضي شيء ليس حسابيًّا، بل هو تفرُّد إنساني خاص، يعتمد على مُقدرتنا على الوعي بالأشياء. وثانيا: يُحاول روجر من خلال أمثلة رياضية بسيطة، كما سنرى بعد قليل، أن يضعنا أمام ظاهرة الوعي لدى الإنسان، والتي لا تشبه الذكاء الصناعي البته. فأقوى الحواسيب دقة وقدرة على إجراء عمليات رياضية مُعقدة، والتي تفوق قدرة الإنسان لا تتمتَّع بالوعي الإنساني. ولتوضيح مقصود روجر دعُونا نقتبس بعض الأمثلة الرياضية التي تشمل فقط: إجراء حسابات جبرية، وتنفيذ عمليات منطقية، كما ورد في كتابه “ظلال العقل”. ولجعل المناقشة أكثر عمومية، فإنَّ روجر يفترض وجود جهاز كمبيوتر مثالي يُسمى “آلة تورنج”، وهذا الجهاز لديه قدر غير محدود من مساحة التخزين، ويستطيع الاستمرار في الحساب إلى الأبد، دون أي أخطاء، ودون أن يبلى على الإطلاق. يضع روجر وعينا الإنساني، وهذه الآلة أمام هذه العملية الحسابية المتناهية؛ وهي: اذكر عددا طبيعيًّا لا يكون حاصلَ جمع ثلاثة أعداد مُربَّعة.
0² + 0² + 0² = 0
1² + 0² + 0² = 1
1² + 1² + 0² = 2
وهنا لن يختلف الذكاء الإنساني عن الذكاء الصناعي؛ فكلاهما سيُنتج الأرقام الأولى، لكنَّ العملية ستتوقف بعد ذلك عند العدد 7 فهو أصغر عدد لا ينتج عن جمع ثلاثة أرقام مربعة.
لكنْ تُوجد حسابات مُعيَّنة لا تنتهي أبدا؛ مثل المسألة التالية: اذكر عددًا لا يساوي حاصل جمع أربعة أعداد مُربعة. ففي مثل هذا السؤال، سيقف جهاز الكمبيوتر عاجزا عن الإثبات، وسيظل ببساطة يحاول للأبد. أما الإنسان، فسيُدرك بعد أن يستخدم أسلوبه العقلي أنَّ أيَّ عدد يُمكن التعبير عنه كمجموع أربعة أرقام، وقد تم إثبات هذا المطلب في القرن الثامن عشر على يد عالم الرياضيات لاجرانج. مثال آخر: عندما نطلب من هذا الجهاز المثالي أن يوجد عددا فرديا يُساوي حاصل جمع عددين زوجيين، فإن الجهاز سيستمر في العملية الحسابية إلى الأبد. لكن الإنسان يُدرك أنَّ هذا الرقم ليس له وجود؛ ذلك لأنَّ جمع عددين زوجيين يساوي عدد زوجي.
ومثال آخر يسُوقه روجر للتدليل على أنَّ العقل يعمل بطريقة مختلفة عن الحاسوب، وأن الإدراك الإنساني يتمتع بحدس رياضي لا يُوجد شبيه له في الحاسوب؛ فإذا وضعنا السؤال التالي: اذكر عددًا زوجيا أكبر من 2 بحيث لا يكون حاصل جمع عددين أوَّليين؟ لا يُعتقد أنَّ لهذه العملية نهاية، لكن هذا ليس إلا مجرد حدس يُعرف بأسم حدسية جولدباخ (Goldback) .
فَبِأَيِّ وسيلة يقنع الرياضيون أنفسهم بأنَّ هناك عمليات رياضية غير منتهية؟!
وهل يستخدم علماء الرياضيات خوارزمية مُعينة لنسميها “الخوارزمية أ” حتى يتوصلوا إلى أن بعض العمليات الحسابية غير مُنتهية؛ وبالتالي ليس عليهم القيام بأية عمليات حسابية في الوقت الذي تظل آلة تورنج تقوم بهذه العمليات إلى الأبد. يحاول روجر أن يصل إلى نتيجة مفادها أنه لا وجود لخوارزمية أ في التفكير؛ وبالتالي فإن الإدراك الإنساني بما يحويه من فهم وذكاء يختلف تماما عن الحاسوب. وأن الحدس الرياضي لا يُمكن ترميزه في صورة بعض العمليات الحسابية التي تستطيع أن تعرف أنها صحيحة.
ويعتقد روجر أنَّ الحواسيب تُعزِّز الذكاء الإنساني؛ بما لها من سرعات تفوق قدرات البشر في إجراء العمليات الحسابية، وبما لها من قدرات تخزينية هائلة، إلا أن الإنسان كينونة معقدة جدًّا، وأن محكاة الحاسوبي لا تنتج إدراكا مشابها للإنسان.
يضع روجر أربع فرضيات للعلاقة بين التفكير الواعي وعملية الحساب:
- أن التفكير في مجمله هو تنفيد لبعض الحسابات؛ وبالتالي إذا أجرينا العمليات الحسابية المناسبة كان الوعي هو النتيجة.
- يُمكننا محاكاة نشاط المخ، عندما يكُون صاحبه واعيًا بشيء ما. ورغم أننا نستطيع محاكاة الدماغ، فإن تلك المحاكاة لا يمكنها أن تنتج وعيا.
- لا يُمكن محاكاة نشاط الدماغ، ويوجد شيء في النشاط الفيزيائي للدماغ يستدعي الوعي، ولكن هذا النشاط خارج نطاق العمليات الحسابية.. وهذه الفرضية تمثل وجهة نظر روجر.
- لا يُمكن تفسير الوعي بمصطلحات علمية.
ليستْ استحالة التمثيل الحاسوبي للنشاط الإدراكي للإنسان – حسب مُعتقد روجر- تقتضي تأكيد الرؤية العقلية للإدراك (الفرضية د). فـ”الفرضية د” ترى في النشاط الإدراكي للإنسان خارج قدرة العلوم. يبني روجر رفضه لـ “الفرضية د” على إيمانه بأن الوعي (الإدراك) الإنساني مُرتبط بالنشاط الفيزيائي للدماغ؛ وبالتالي لا ينبغي النظر خارج المنهج العلمي لتفسير التعقل لدى الإنسان. إنَّ روجر يعتمد في رفضه لـ “الفرضية د” رغم إيمانه باستحالة التمثيل الحاسوبي للإدراك على نظرية قوية في المنطق الرياضي تُسمَّى “نظرية جودل” وهي للعالم التشكي kurt Godel.
يُخصِّص روجر في كتابه “ظلال العقل” مساحة كبيرة من الكتاب للحديث عن نظرية جودل. تتعلق مناقشة جودل بأشياء معينة عن الأعداد، وما يخبرنا به جودل من أنه لا توجد طريقة حسابية لتمييز الأعداد الطبيعية، فإنَّ أي طفل يعرف هذه الأعداد، وكل ما علينا عمله هو أن نوضح للأطفال الأعداد المختلفة للأشياء، كأنْ نقول للأطفال مثلا: شجرة، شجرتين…إلخ، وبعد فترة يستخلص هؤلاء الأطفال مفهوم الأعداد الطبيعية. فنحن لا نُقدِّم للأطفال قواعد حسابية، كل ما نفعله هو تمكين الأطفال من معرفة ماهية الأعداد الطبيعية. وبعد أن يستعرض مُناقشة جودل، يصل روجر إلى النتيجة التي تؤكد الرؤية الأفلاطونية للأشياء، والتي ترى أن المفاهيم والحقائق الرياضية تسكُن في عالم خاص بها، لا زمان له ولا مكان فيزيائي لها. فالطفل قادرٌ على إقامة نوع معين من الربط مع العالم الأفلاطوني للرياضيات. فهذه الأعداد الطبيعية توجَد في موضع ما من العالم الأفلاطوني إلى أن نستطيع الاتصال به من خلال مقدرتنا على الوعي بالأشياء، وإذا كُنا أجهزة حواسيب بلا عقل، فلن نمتلك تلك المقدرة على الاتصال بهذا العالم الذي يمنح الإنسان تفردا خاصا بالوعي.
إنَّ روجر – فيما أظن- يصل إلى نتيجة تتناقض مع فرضيته التي تزعم أنه لا يُمكن تفسير الوعي خارج نطاق العلوم والرياضيات. وما العالم الأفلاطوني مما تستطيع العلوم أو الرياضيات أن تدلل على وجوده. وبهذا نصل إلى أن الرؤية العقلية للإدراك ضرورة فرضتها النتيجة ذاتها التي توصل إليها روجر بنفسه. إذن؛ بقِي علينا أنْ نُقارب الإشكالية على ضوء الفلسفة.. فما هو الإدراك في التصوُّر الفلسفي؟
وبعد أن أعادتنا مناقشة روجر إلى الرؤية العقلية بعد أن أخفق -فيما أظن- في تفسير الوعي الإنساني علميًّا، فلن يبقى إلا أنْ نتعرَّف على الإدراك بمنهجية العقل وحده؛ إذ هو الخيار المتبقي حصرا.
عدَّ الفلاسفة مِمَّن سبق صدر الدين الشيرازي الصلة بين العلم والنفس كتلك الصلة التي بين اللون والجسم. فالصلة التي تربط اللون بالجسم عرضية؛ فاللون عارض على الجسم، وكذلك العلوم تعرض على النفوس تمامًا كعروض الألوان على الأجسام. لكن تصل بنا هذه الرؤية إلى أن النفوس البشرية جواهر متشابهة، فليس ثمَّة فارق بين نفوس الأنبياء والعلماء ونفوس المفسدين والجهلة، وإنما تفترق هذه النفوس بما تصطبغ به من علوم ومعارف، والتي هي أعراض طارئة عليها. والنتيجة أن النفس جوهر مستقل عن علومها وإدراكها. لم يرتضِ صدر الدين هذه العلاقة بين العلم والنفوس فقد قاده تأمله العميق في السر الذي يكمُن في أبدية العذاب، وديمومته وشقاء الإنسان الأبدي، إلى أن الصلة التي تربط العلم والنفس ليست عرضية على الإطلاق. وانتهى إلى أن هذه الصلة التي تربط العلم بالنفس هي نحو من الصلة التي تجعل من العلم والنفس حقيقة واحدة. فبعد أن أثبت صدر الدين في محله تجرد النفس وتجرد العلم؛ فالعلم والنفوس جواهر مُجردة عن الزمان والمكان. أقام الصلة بينهما بحيث تغدو النفس بالعلم عَيْن معلومها، فكما أن النبتة الصغيرة تنمو إلى أن تصبح شجرة، فكذلك النفس الإنسانية تتسع وتنمو بالعلم الذي تتلقاه. فعندما تعلم النفس شيئا، تصير عَيْن معلومها؛ فالعاقل يتَّحد مع معقوله اتحادًا حقيقيًّا؛ بحيث تكون النفس عين معقولها.
لكن ماذا لو أدرك الإنسان شيئا، ثم ثبُت له خطأ هذا الإدراك، فما الذي يحدث للنفس في مثل هذه الحالة؟ لقد انتهى صدر الدين إلى أن العلم نحو من الوجود المتحقق بالفعل؛ بحيث لا يقبل التبدل والتحول.. ندعو القارئ الكريم أن يُجرِّب بنفسه، ويفحص العلم عبر المثال التالي: ضَعْ في ذهنك فكرة ما، ولنفترضها كالتالي “الوجود والعدم يجتمعان، والآن ندعوه لأنْ يقوم بتغيير الفكرة المارة، ووضع أخرى بدلا عنها، وهي “الوجود والعدم لا يجتمعان”، ولنسأله الآن: هل الفكرة الأولى لا تزال قائمة في الذهن، أم أنَّ يد التغيير قد امتدت إليها، فأحالتها إلى الثانية؟ الإجابة: كلا! لم نتمكَّن من تغيير الأولى، بل وضعنا بجوارها أخرى. وغاية ما فعلناه هو أننا اعتقدنا بصحة الثانية، بعد أن كُنا نعتقد بصحة الأولى. لكنَّنا نعجز حقًّا عن إزالة الأولى عن صفحة الفكر، وإجراء تغيير عليها” (11).
إذا كَان بإلامكان أن نحقق معرفيًّا للنظريات العلمية والفلسفية، فإن نظرية جودل في الإدراك الحاسوبي تسبق اتحاد العاقل والمعقول؛ لأنَّ نظرية جودل -فيما أعتقد- أفضت إلى حصر الإدراك فلسفيًّا، ويجب أن نقر بأن الرؤية الصدرائية للإدراك واحدة من أعظم الرؤى في الفكر الفلسفي.
الإشكالية على ضوء القرآن الكريم
يتحدَّث القرآن عن أهمية العقل بشكل لافت، ويجعل منه وسيلة الوصول إلى الحق. والإنسان في القرآن الكريم هو محور الوجود الكوني؛ فكل ما في الكون مُسخَّر للإنسان، والإنسان قادر على تعقله وإدراكه.. يقول الله تعالى: “وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون” (النحل 12). ويقول تعالى: “إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون” (البقرة 164).
وآيات كثيرة تتحدَّث عن أن هذا الكون خُلق وهُيئ من أجل الإنسان، وأن الإنسان مدعُو لأن يفكر في هذا الكون؛ فيكون ذلك هاديًا له للمسير في الطريق الموصل إلى النبع الذي تدفَّقت منه الحياة، وكان وراء تعقلها حكمة الله. ويتحدَّث القرآن بوضوح عن الهدف الحقيقي من وراء خلق السموات والأرض؛ وهو أن يتعرف الإنسان على الله القدير العليم.. يقول تعالى: “الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما” (الطلاق 12).
الإشكالية – بعد الحفر العميق- تصل بنا إلى اللغز الأكبر والمحير والمدهش، وهو لغز الحياة ذاتها. فما يزيدنا التفكير في معنى الحياة إلا حيرة، وليس من سبيل إلا التسليم بقدرة مقتدر على صنع الحياة وإبداعها وصنع العقل الذي يفك رموزها وأسرارها، وأن يتطابق معها؛ فلا يكون ما في الذهن إلا كاشفا عن حقيقة الواقع وإلا للزم من ذلك نقض الغرض وضياع الحكمة من وراء الخلق.
المراجع:
- تكوين العقل العلمي- غاستون باشلار، ترجمة د.خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
- God’s Undertaker: Has Science Burried God?, John C. Lennox, Lion Hudson,2009
- أبستمولوجيا الجمال والتناظر كأساس في الفيزياء عمومًا والفيزياء الكمومية خاصة- الدكتور فوزي الشعيبي، مجلة دمشق، المجلد 29، العدد 3+4، 2013.
- نقد العقل العربي- 1 – محمد عابد الجابري.
- فلسفتنا- السيد محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الثالثة عشرة، 1982.
- مدخل إلى فلسفة العلوم العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي -د.محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الرابعة، 1998.
- مراتب المعرفة وهرم الوجود عند مُلا صدرا.. دراسة مقارنة- كمال إسماعيل لزيق، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 2014.
- دروس فلسفية في شرح المنظومة- الأستاذ العلامة مرتضى المطهري، ترجمة الشيخ مالك وهبي، شركة شمس المشرق، الطبعة الأولى، 1994.
- Shadows of The Mind: A search for the missing science of consciousness, Roger Penrose, Oxford University Press, 1994
- فيزياء العقل البشري والعالم من منظورين- روجر بنروز، بالتعاون مع أبنر شيموني ونانسي كارترايت وستيفن هوكنج، ترجمة عنان علي الشهاوي، كلمة عربية، الطبعة الأولى، 2009.
- اتحاد العاقل والمعقول- محمد رضا اللواتي، مجلة شرق وغرب- العدد 2، Oct. , 2014.