الطريق الى نبع الوجود (9)
رحلة الحائرين إلى الله
قراءة في كتاب “وجود الله بين العلم و المنهج العلمي”
القسم الثاني
الكاتب : علي ديلان
بعد أن إستعرضنا خطوات المنهج العلمي ، لنا أن نتساءل عن ما هي النظرية المنطقية التي يقوم عليها المنهج العلمي بحيث تصل الفرضية المبحوثة أعلى الدرجات التصديقية للذهن ، اليقين ، أو درجات تصديقية معقولة تجعل منها أمرا مرجوحا؟
المنهج العلمي بالضرورة هو منهج إستقرائي ، و المنهج الإستقرائي هو حركة في الذهن تنتقل بها من الخاص الجزئي إلى العام الكلي.
لكن المنهج الإستقرائي واجه قديما إشكالات صعبة ، و قد تجددت هذه الإشكالات و أعيدت حيويتها على يد الفيلسوف النمساوي “كارل بوبر”. و مما أثاره هذا الفيلسوف من إشكالات على هذا المنهج هو إعتماده على مقدمات هي بدورها تحتاج إلى إستقراء ، كما أن تراكم الإحتمالات على مركز واحد من أجل تصاعد قيمة الإحتمال و رفع القضية إلى درجة تصديقية أعلى هو ليس طريقا صحيحا. لقد تبنى كارل بوبر طريق آخر يتفادى فيه الإشكالات الواردة على المنهج الإستقرائي و المنهج الأرسطي ، و أطلق عليه ” نظرية الدحض و التكذيب “. فهذه النظرية تنطلق من ” الفرضية ” التي هي تفسير محتمل قد يكون صائبا و قد يكون خاطئا. و الفرضية لا تتأسس على مقدمات إستقرائية و ليست هي في ذاتها إستقراء ، و بهذا يكون بوبر قد أسس لبداية لا تعتمد على المبادىء العقلية القبلية كما في المنهج الأرسطي و لا يقع في إشكالية المتراجعة الغير متناهية في الإستقراء حيث يعتمد الإستقراء على مقدمات هي بذاتها بحاجة إلى إستقراء.
و مع هذه الإشكالات التي أثارها كارل بوبر حول المنهج الإستقرائي و سخريته من هذا المنهج إلى الحد الذي حذا به الى القول “أن الإستقراء خرافة” (ص 260) إلا أن ذلك لم يؤثر على سيادة المنهج التجريبي – الإستقرائي في الوسط العلمي. و تباينت أراء الفلاسفة و العلماء حول المنهج الإستقرائي ، و كان هيوم الفيلسوف الإنكليزي الذي رأى أنه لا يوجد حل منطقي لإشكالية القفز من الخاص إلى العام ووافقه بوبر في ذلك إلا أنه إختلف معه عندما إستبدل هيوم الحل المنطقي للقضية الإستقرائية بالحل النفسي حيث رأى أن مشروعية القفزة الإنتقالية من الخاص إلى العام لها ما يبررها من خلال الإعتقاد (ص 260). بمعنى أن النفس مع تراكم المؤيدات تعتقد بدرجة عالية بصحة التعميمات.
تتلخص مشكلة الإستقراء التي ظلت مثار جدل بين المناطقة و الفلاسفة في مبدأين و هما : مبدأ السببية و مبدأ الكلية و الإطراد العام. و قد ذكرنا في القسم الأول أن مبدأ السببية من الأصول الإدراكية في الفكر البشري و إن إنكاره يؤدي حتما إلى إنهيار المعرفة البشرية. و لقد إعتبر كارل بوبر أن مبدأ السببية ليس مبدأ علميا بل هو من القضايا التركيبية القبلية الميتافيزيقية لكنه ضروري للباحث في فهم الطبيعة و قوانينها (ص 261).
عمد الـ”ديلان” من أجل عدم الخلط بين بعض الإصطلاحات من قبيل “الحتمية العلمية” و “الحتمية الفلسفية” و “اللاحتمية الفيزيقية” التي ذكرها بوبر في كتابه الشهير “منطق البحث العلمي” و بين السببية إلى شرح مضامينها كما يراها كارل بوبر.
فمقصود بوبر من الحتمية العلمية هو إمكانية التنبؤ بمستقبل الكون إذا توفرت الشروط و ذلك لأن الكون في كل لحظة له حالة محددة لا تقبل البديل فالكون عند بوبر يشبه شريط سينمائي ، ففي كل لحظة تظهر في هذا الشريط صور محددة ، و يمكن التنبؤ بالصور القادمة بالإحاطة بتمام الصور في اللحظة السابقة. و يرى الـ”ديلان” أن الإعتقاد بهذه الحتمية غالبا ما يعني الإعتقاد سلفا بمبدأ السببية. “ويؤكد بوبر أن الحتمية العلمية هي فكرة مستلهمة من الدين ، و بالتحديد أنها مستقاة عن فكرة القضاء و القدر ، و أن كل واقعة أو حدث يتم وفق خطة مرسومة سابقا من قبل الإله القادر بقدرة كلية و العالم بعلم كلي ، و أنه بقدرته الكلية يحدد المستقبل” (ص 262-263).
و في مقابل الحتمية العلمية فإن اللاحتمية الفيزيقية تعني نفي القدرة على التنبؤ الدقيق بالمستقبل و لكن دون أن يعني ذلك إنكارا لمبدأ السببية. فبوبر كما يذكر الـ”ديلان” من الذين يعتقدون باللاحتمية الفيزيقية و لا ينفون مبدأ السببية القبلية.
و أخيرا فإن الحتمية الفلسفية ” هي نتاج العلاقة الضرورية بين المسبب (بالكسر) و المسبب (بالفتح) فتقضي بـ”لابدية” حصول الظاهرة المتولدة من الظاهرة المولدة” (ص 262). و لا ينكر بوبر قدرة العلم على التنبؤ ببعض الأحداث.
لقد طرح كارل بوبر إشكالا هاما وهو كيف يمكن أن نميز بين النظرية العلمية و النظرية الغير علمية أو بين العلوم الحقيقية و العلوم الزائفة؟ وقد عرفت هذه المشكلة من خلال كتابات و محاضرات بوبر بمشكلة الحد الفاصل بين العلم و اللاعلم ( ص 270). و يعتقد بوبر أن مشاكل نظرية المعرفة إنما ترجع إى مشكلة الحد الفاصل و مشكلة الإستقراء. إعتبر بوبر أن مبدأ “القابلية للتكذيب” هو المعيار الذي يفصل بين العلوم الحقيقية و العلوم الزائفة. و معنى القابلية للتكذيب هو أن مقياس العلمية و اللاعلمية في قبول القضية أو رفضها هو قابليتها للإختبار من عدمه. فالقضية التي يمكن إختبار صدقها تدخل في دائرة العلم و القضية الغير قابلة للإختبار تدخل في دائرة العلم الزائف. و بناء على هذا المعيار فإننا نضيف قضايا غير قابلة للتحقق إلى صنف القضايا التجريبية بشرط أن تقبل الإختبار الإمبريقي السلبي (ص 272). و الذي يجب أن نعيه في هذا المبدأ البوبري أن النظرية التي تم تكذيبها فعليا عن طريق الإختيار الإميريقي تظل نظرية علمية و لا تنتمي للعلم الزائف. و يرسم بوبر العلاقة بين المحتوى المعرفي للنظرية و بين قابليتها للتكذيب. فكلما إزداد المحتوى المعرفي كلما إزدادت القابلية للتكذيب لأنها تتضمن مداليل أكثر عن الواقع (ص 273). و هنا فإن المنطق البوبري و خلافا للمنطق الإستقرائي يود أن يقول لنا أن النظرية تصبح أكثر علمية كلما قل إحتمالها. ففي الوقت الذي يسعى المنطق الإستقرائي لأن يظفر باحتمالية راجحة للقضية الإستقرائية حيث تكون القضية أكثر علمية كلما زاد إحتمالها ، فإن المنطق البوبري يقول لنا العكس. إن هناك علاقة طردية بين المحتوى المعرفي و القابلية للتكذيب أو علاقة عكسية بين المحتوى المعرفي و إحتمالية الصدق. فكلما زاد المحتوى المعرفي للنظرية فإن قيمتها الإحتمالية تقل و بالتالي فإن قابليتها للتكذيب تزداد.
ذكرنا أن بوبر لا يؤمن بالقضايا القبلية التي يقوم عليها الإستقراء لأنها بذاتها قضايا إستقرائية و أنها بذلك تفضي إلى إرتداد لا نهائي. يستعيض بوبر عن هذه القضايا القبلية بما يسميه بالقضايا القاعدية و يعرف بوبر القضية القاعدية ” بأنها كل قضية يمكن أن تطرح كمقدمة لتنفيذ تجريبي ، أي كل إثبات للواقع بشكل ما ” (ص 274). فما هي مميزات القضايا القاعدية عند بوبر ؟ …………قريبا الطريق الى نبع الوجود (10).