الطريق الى نبع الوجود (8) – د. جاسم حسن العلوي

الطريق الى نبع الوجود (8)

رحلة الحائرين إلى الله

قراءة في كتاب “وجود الله بين العلم و المنهج العلمي” 

القسم الثاني

الكاتب : علي ديلان

و أخيرا يضعنا الـ”ديلان” أمام السؤال الذي يتطلب إجابة مباشرة و هو لماذا يرفض علماء الطبيعة إبتداء إدخال العنصر الميتافيزيقي في تفسير الظواهر الطبيعية ؟

رأينا أن العنصر الميتافيزيقي لا يتناقض مع المبدأ الأوكامي بحسب التفسير الذي يتبناه الـ”ديلان” ما دام يحمل إمكانية تفسير الظاهرة. و الإمكانية هنا تعني أن هذا الفرض ينطوي على ما هو ضروري في تفسير الظاهرة. فمبدأ أوكام لا يصحح أصل الفرضية المطروحة و إنما وظيفته ترجيحها بعد إفتراضها. ولكن لماذا درج علماء الطبيعة على إستبعاد التفسير الماورائي للظواهر الطبيعية مع أن التفسيرات تحوي قدرا معتبرا من القيمة الإحتمالية التي تفسر هذه الظواهر؟

و يعدد الـ”ديلان” عدد من المبررات التي تقضي باقصاء كل ما هو غيبي و من جملة ما قال: إن الفروض الميتافيزيقية لا يمكن إخضاعها للمنهج العلمي و التحقق من صحة مدعاها ، و قد درج المنهج العلمي على تفسير الظواهر الطبيعية تفسيرا ماديا ، فإذا ما توصل إلى تفسير معقول فيصبح هذا التفسير هو المعتمد عليه ، أما إذا لم يتوصل إلى تفسير طبيعي فإنه لا يحيل إلى العناصر الغيبية في تفسير الظاهرة بل ينتظر فرضية مقبولة حسب المنهج العلمي التجريبي.  ثم إن التفسير الماورائي للظواهر قد يجمد النشاط العلمي و قد يطلق العنان لفوضى الفروض. و أيضا قد تبدو الفروض الميتافيزيقية لا عقلانية لأنها ليس لها قانون واضح يمكن للعلم أن يبت فيه. فالعلم يظل محايدا و لا يتمكن من أن يصرح بالنفي أو الإثبات لفروض الميتافيزيقية. و يرى بعض الغربيين أن الفرض الميتافيزيقي هو حالة متخيلة لدى الباحث و لذا يوجد به قدر كبير من الذاتية ، و هذه الحالة المتخيلة أوجبتها مجموعة المؤثرات الدينية ، و لهذا فإن الفرض الميتافيزيقي هو فرض غير علمي.  و يعطينا الـ”ديلان” مثالا لعدم قدرة العلم لتحقق من الفرض الميتافيزيقي بقوله ” و هذا ما تدعيه بعض الأديان من قسم من الأعمال و السلوكيات الأخلاقية له تأثير تكويني في إطالة عمر الإنسان ، و هو أمر لا يمكن التحقق منه علميا لعدم تيسر الوقوف على العلاقة و الإرتباط المباشر بين العمل الأخلاقي و وقت الوفاة ، فلو صادف أن توفي إنسان في يوم محدد فإن كان قد فعل شيئا من تلك الأعمال فسوف يقال: إن وفاته كانت مقررة منذ زمن سابق و لكنها أخرت إلى هذا اليوم بسبب الخلق الحسن الذي صدر منه ، و من خلا من عمل أي شيء جيد فيقال: لو عمل ذلك الشيء لطال عمره. و مثل هذه الفروض لا تكون قابلة للتحقيق” (ص 248-249).

و يرى الـ”ديلان” صحة هذه المبررات في مجموعة من الموارد إلا أنه في موارد أخرى و خصوصا الفرضية المتعلقة بنشأة الكون و الحياة فإن فرضية الخلق هي فرضية علمية و ليس صحيحا فصل مطلق الفروض الميتافيزيقية عن العلم.

فإذا كانت فرضية الخلق فرضية علمية نحتاج أن نضبط تعريف الفرضية العلمية و شروطها و ثم نرى ما إذا كانت فرضية الخلق يمكن أن تدخل في دائرة الفرضية العلمية أو لا. فما هي الفرضية العلمية و ما هي شروطها؟

ينقل الـ”ديلان” تعريفا للفرضية من كتاب ” أصول البحث العلمي و مناهجه” للدكتور “أحمد بدر” وهو ” تخمين و استنتاج ذكي يصوغه و يتبناه الباحث مؤقتا لشرح بعض ما يلاحظه من الحقائق و الظواهر” (ص 251). يعني أن الفرضية هي إقتراح لكنه ذكي يهدف لشرح بعض الظواهر. و قد تكون الفرضية إبتدائية بمعنى أنها لم تكن مسبوقه بجملة من الإستنتاجات العلمية السابقة ، وهذا النوع غير شائع في المجال العلمي لكن فرضية الصانع الحكيم تنتمي لهذا النوع ، و هو الأساس في مشروع الـ”ديلان”.

النوع الآخر من الفرضية “إستنتاجي” يتأتى بعد جملة من التحقيقات العلمية و البحثية. و هذا النوع من الفروض هو الشائع في المجال العلمي. و يتميز الفرض الإبتدائي عن الإستنتاجي بكونه غير مسبوق بقيد علمي مما يعطي الباحث فضاء أوسع للتفكير في حل لغز الظاهرة. و لذلك فإن الـ”ديلان” يركز على هذا النوع من الفرضية لإرتباطها بالفرضية الأساس في كتابه و هي فرضية الصانع الحكيم.

الفرضية لها جانبان ، جانب عقلي – تخيلي أو ربما عقلي صرف و جانب يرتبط بالظواهر التي تثير عقل الباحث. في الجانب العقلي فإن الباحث يصعب أن يعزل فرضيته المقترحه عن مكوناته الثقافية و النفسية. و معظم الفروض التي يتقدم بها الباحث لم تكن عن ميول نفسية مقصودة و لكنها جزء من الهوية الشخصانية للباحث. كما أن بعض التفسيرات تتأثر بإنتماء الباحث إلى مجالات تخصصية أخرى. و السؤال كيف يتم التعرف على الفرضيات التي يغلب فيها الجانب الموضوعي على الجانب الشخصاني إذا قلنا بإستحالة الفصل بينهما؟ فنحن بحاجة إلى أن نقيد الباحث بجملة من الشروط تجعل الحياد عنها موجبا لخروج الفرضية عن الحدود العلمية (ص252). فما هي شروط الفرضية ؟

مع تعدد الشروط التي ذكرها الباحثون إلا أن المنهجية العلمية لا تقتضي إلا شرطا واحدا “أن كل فرض يمكن أن يتأثر على مستوى الإحتمال و التصديق بمرحلة الإختبار التجريبي فهو فرض علمي” (ص252).

هذا الشرط لا يسقط الإعتبار من الفرضية الميتافيزيقية. فكل فرض مهما كان محتواه يمكن أن يؤثر في درجة التصديق بالفرضية سلبا أو إيجابا في مرحلة التجريب فهو يحقق الشرط الأساس للقبول به كفرضية علمية. فإذا تمكنا في المرحلة التجريبية أن نؤثر في مستوى الإحتمال و التصديق لفرضية الصانع الحكيم فإن هذه الفرضية هي فرضية علمية. و على ضوء الشرط المتقدم فإذا ما أخفقت الوسائل العلمية عن رفع أو خفض مستوى الإحتمال في وجود الصانع الحكيم فإنها لا تعد بذلك فرضية علمية و هي بذلك تكون خارج حدود العلم. إن هدف الـ”ديلان” الأساس في الكتاب هو أن يثبت في القسم الثالث منه أن فرضية الصانع الحكيم فرضية علمية يمكن التحقق منها تجريبيا. و لعل القارىء يتساءل عن كيف يبدع الذهن الفرض العلمي؟ كيف يتكون لدى الباحث الحدس الأولي الذي به يفسر الظاهرة؟

ينقل الـ”ديلان” عن الدكتور محمود قاسم من كتابه ( المنطق الحديث و مناهج البحث ) والذي يصف بحثه بالقيم العبارة التالية: ” لولا الخيال لما وجدت الفروض” (ص 253). يستند الخيال إلى أساسين الأول المعرفة السابقة و الثاني حدود الذهن و قدرته على الإبتكار (ص 253).

الأساس الأول يمثل الجانب الثقافي المكتسب ، أما الأساس الثاني فيمثل الجانب الإبداعي الإبتكاري و الناس تتفاوت فيما بينها في القدرة على إبتكار الخيال الذي يربط العلاقات بين الظواهر. يشاطر الـ”ديلان” محمود قاسم قوله بأن الفرض هو من سنخ الخيال إلا أنه يظهر بعد علاقة جدلية بين الفكر و الواقع (ص 253 ).

يرى الـ”ديلان” أن هناك علاقة تبادلية جدلية بين الملاحظة و الفرضية ، فقد يحدث أن تثير عقل البحث بعض الظواهر الجزئية ثم ليحلق الخيال فيصنع فرضيات تتجاوز مثل هذه الظواهر الجزئية. إن نظريات المتعلقة بنشأة الكون و إن كانت بداية الكون حدث غير مشهود تأتي في إطار إندفاع الذهن و قوة الخيال لصنع فرضية تتجاوز الظواهر الجزيئة الملاحظة ، و هكذا ينصرف الذهن بقوة الخيال لصنع فرضية الصانع الحكيم بعد ملاحظة عدد من الشواهد الجزئية. لكن الـ”ديلان” يشترط أن الفرض و إن تجاوز الملاحظات الجزئية نحو فرضية كبرى فإنه يجب أن يتناسب دلاليا يعني في مقام الإثبات مع الملاحظات. إن فرض وجود صانع حكيم و إن كان الفرض في الواقع ينطوي على وجود معقد إلا أنه على المستوى الدلالي- الإثباتي يتناسب مع الملاحظ و المشهود من دقة و إتقان النظام الكوني (ص 255).

يتناول الـ”ديلان” جملة من أراء بعض الفلاسفة في القرن الثامن عشر و التاسع عشر التي تحاول أن تلغي الفروض المنهجية العلمية ، لأنها تعتمد على الخيال الذي يبتعد بنا عن الحقائق الخارجية في حين أن الملاحظة و التجربة كافيان في إيصالنا لها. فما الذي دعى هؤلاء العلماء و الفلاسفة إلى رفض الفروض و إسقاطها من المنهجية العلمية؟ يرى الـ”ديلان” من خلال تتبع كلامات الرافضين أن سبب ذلك يعود إلى زيف بعض تلك الفروض. لكنه يؤكد القول على أهمية الفروض بقوله “و يحق لنا القول: إنه لا يمكن أن يخطو الباحث في خطوات المنهج العلمي دون إستعمال بعض نشاطات القوة العاقلة” (ص156).

عرفنا أن خيال الباحث يقوم بعملية إبتكارية في صناعة الفروض ، لكن ما هي المصادر التي تغذي خيال الباحث و تساعد في صناعة الفروض؟ و بتعبير آخر ما هي مصادر الفرضية العلمية؟ ذكرنا أن الـ”ديلان” نقل عن الدكتور محمود قاسم قوله أن الخيال يعتمد على المعرفة السابقة و هي تمثل الجانب المعرفي – الثقافي الشخصي للباحث. و هذا الأساس هو ما يذكره أصحاب المناهج في تعدد مصادر الفرض. فالمعرفة تشمل النظريات المعروفة في المجال العلمي ، كما و تشمل الثقافة التخصصية في مجال موضوعي معين أو مدرسة فكرية أو الثقافة العامة التي عاش فيها الباحث…… (ص 258-259).

بعد أن إستعرضنا خطوات المنهج العلمي ، لنا أن نتساءل عن ما هي النظرية المنطقية التي يقوم عليها المنهج العلمي بحيث تصل الفرضية المبحوثة أعلى الدرجات التصديقية للذهن ، اليقين ، أو درجات تصديقية معقولة تجعل منها أمرا مرجوحا؟…………قريبا الطريق الى نبع الوجود (9).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *