لم يلقى مفهوم علمي من السجالات ما لاقاه مفهوم التطور وعلى جميع المستويات العلمية والفلسفية والدينية, حيث كان مادة حية في مطارحات العلماء والفلاسفة عبر التاريخ. هكذا كان الحال – منذ أول نشأة المفهوم – التي لا أبالغ حين أقول بأنه تزامن مع الحراك الفكري الأول للبشر منذ أن تبلورت لديهم بذرة الوعي. أي أني أعده ضمن التساؤولات الأولية البدهية التي شغلت خيال المتفكرين في أمور الطبيعة والخلق مع قيام المدنيات الأولى. وقد وجدنا نواة لهذه النقاشات تعود لزمن اليونان الهيلينية قبل الميلاد بقرون.
اللافت أن المفهوم اليوم يلاقي إستمرارا في مساجلات قبوله ورده في بعض الأوساط بشكل يوحي وكأن الهيكلية العلمية التي تعتمد مبدأ التطور هي في أطوارها النقاشية الأولى، بينما يجري وفي سياق مواز إعتماده كأساس لعلم الأحياء وفي تطبيقاته كافة, الطبية والزراعية والصناعية وغيرها. بمعنى أن السجالات القائمة على قبول المبدأ اليوم لا تعدو الهامش, أما على أرض الواقع العملي فهو نقاش محسوم تبنى على أساس مخرجاته العلمية دراسات الطب الوبائي والصناعات الدوائية وعلوم الجينات.
سوف أحاول عبر سلسلة من المقالات التعاطي مع مجموعة من العناوين الهامة التي ميزت النقاشات المتعلقة بالتطور عبر التاريخ, ومواكبة سياقات تطوره عبر العصور ضمن هذه المقالات. وكذلك إيجاد مقاربات فكرية مفتاحية قد توفر لنا مساحة أوسع للتفكر عَلَّهَا تنتشلنا من واقع الجدالات الدوغمائية ذات الأفق المنغلق. وقد تسوقنا هذه المقاربات لاحقا إلى توفير أجوبة على السؤال الأكثر إلحاحا والمتمثل بأسباب تخلفنا بين الأمم حيث أن إنغلاقنا الفكري لايتوقف عند مفهوم التطور فحسب, بل حيال مفاهيم فلسفية وطبيعية أخرى تشكل اليوم عماد تطور الأمم.
مقالي الأول هذا أخصصه لمدى صحة تبني مفهوم التطور بالمساهمة في بروز ظاهرة الإلحاد التي هي في ذاتها تستحق منا دراسات لتعيين مقاصدها الإصطلاحية, حيث أننا نعاني أيضا من توصيف واضح لِطَيف واسع من الحالات الفكرية التي عبثا وعبر مغالطات نختصرها بهذا المصطلح, وهو مجال قد أعرض له في مساحات أخرى لاحقة.
التطور والإلحاد
إنطلاقا من دعوتي أعلاه لدراسة وتقييم مصطلح الإلحاد فإن حديثي هنا سوف يتطرق لمعناه الأكثر تطرفا والمعني بدعوى عدم وجود الخالق. هذه الدعوى التي تبناها بعض منظري العلوم الطبيعية وتحدث بها كثير من علماء الأحياء التطورية, وكان ذلك عبر سياقات ثقافية وآيديولوجية لا يسعنا مناقشتها في هذه المساحة الضيقة.
المهم أن هذه الدعوى وجدت طريقها للخطابات الرافضة للمفهوم وباتت أحد أهم الحجج التي تُلقى على طاولة النقاش فأصبحت بمثابة قميص عثمان الذي يتذرع به المتحاجون.
ما أحاول طرحه هنا هو حقيقة أن الدعوى شيء ومفهوم التطور شيء آخر, وأن تصريح عالم أحياء تطورية ما بإعتناقه لعقيدة الإلحاد لا يكفينا حجة للحكم على إطلاق المفهوم. كما أن الرؤية القائلة بأن الأحياء تطورت من كائنات أكثر بدائية وهي بذا لم تحتج لخالق والتي يتبناها بعض العلماء ويستغلها رافضو التطور للوصم بالإلحاد وخصوصا في اعتبارها توهينا لدور الخالق, ليست لازمة علمية يقوم عليها المفهوم وليس لها علاقة عضوية بآلية عمله. هي فقط إستنتاج فكري جرى ضمن ظروف ثقافية معينة كما ذكرنا آنفا.
يؤسفني واقعا إقتناع بعض المثقفين وسواء في أوساطنا أو في الغرب بهذه الرؤية التي تؤدي بهم للإستنتاج إلى عدم الحاجة للخالق, وهو مايبرر لديهم عدم وجوده. ولكن هذا فهم بسيط يكتفي به السطحيون. وهؤلاء كثر.
أقول بأن متبني هذا المبدأ لايمكننا التعويل عليهم، ولكن مهما قللنا من قيمتهم فكثرتهم الغامرة تجعل من تأثيرهم وخصوصا على النشىء الذين فشلنا في تهيئتهم لمواجهة هذه الحجج تأثيرا لايستهان به. ولذلك فأنا أدعو دائما للتصدي للمفاهيم العلمية بشكل تفصيلي وأن نؤسس لفهم تنويري نتزود به ونزود به أجيالنا لكي لانقع في محظور الفهم الخاطيء.
أما ماقصدته عندما قلت بأن الفهم القائل بعدم الحاجة للخالق وأنه يؤدي للقول بعدم وجوده هو فهم سطحي، فهو متعلق بصياغة الرؤية ومن فكرة التوهين! فمن يستطيع القطع بأن الآلية التي يتم ضمنها تطور الكائنات لم تكن عبر المشيئة الإلهية؟ وكيف جزمنا بأن تخلق الأشياء عبر آلية تطورية بها توهين لقيمة الخالق؟
حتى أن فكرة العبثية التي دائما مايلجأ إليها المنتقدون والمتعلقة بعشوائية حدوث الطفرات, وكيف أنها, أي العشوائية, تتحكم بمصائر الأحياء, بل أكثر من ذلك, فهي ترقيهم. أقول حتى التعاطي مع هذه الظاهرة على أنها “عبثية” لا يصمد, فأولا, لا أحد يستطيع الجزم بأن الطفرات هي عشوائية الحدوث, فقد يكون حالها كحال أشكال مجموعة ماندلبرو Mandelbrot Set التي لطالما حيرت عقول العلماء بنمطيتها المتكررة والمعقدة إلى أن جاء الرياضي بونوا ماندلبرو (1) Benoit Mandelbrot عام 1975م وصاغ علاقة رياضية تشرح نمطية حدوث هذه الأشكال وبها تم له صياغة فرع الهندسة الكسيرية في صورتها الحديثة. ولو أردنا التوسع قليلا في هذا الشأن, فلا يوجد معنى علمي للعشوائية, فاستخدامنا للمفردة “عشوائي” ناتج فقط لعدم درايتنا لأسباب حدوث الأشياء.
أما عن حجة التوهين في قيمة دور الخالق, فما أراه هو أن الإعجاز الإلهي هو أكبر في حالة تخلق الأشياء بآلية التطور عنه في الخلق المباشر.
كلنا نعي قدرته سبحانه على الخلق (أن يقول للشيء كن فيكون)، وهو قادر بلاشك، ولكنه إختار أن يجري سنة في الخلق (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) فكانت سنته هذه تقتضي تهيئة الخلقة الأولية لتسير وتتوسع وتتفرع وينتج عنها أشكالا على أساس حاجتها للبقاء وبما تقتضيه ظروف بيئاتها.
هذه السنة (الآلية) هي التي هيأت الحياة للإستمرار رغم أقوى كوارث الكون التي واجهت الأحياء عبر عمر الأرض واقتربت أحيانا إلى شبه القضاء عليهم ككارثة حقبة البرمي (2) Permian على سبيل المثال, وهي كارثة أودت بما يقدره العلماء بحوالي 95% من الأحياء. فقدرة الكائنات على الموائمة مع محيطها أكسبتها هذه الشخصية المحاربة والقادرة على تجاوز الصعوبات.
ثم أن مجرد تفكرنا في هذه الماكنة الشديدة التعقيد والمكونة من عناصر داخلية وأخرى خارجية عن جسم الكائن. فالداخلية هي ماكنة الطفرات التي لاتتوقف عن إنتاج الأخطاء المطبعية في عمليات إنقسام خلايا أنسجة الجسد, والتي توفر خيارات جديدة وبشكل مستمر، وكأنها تقول للبيئة جربي هذه الصفة الجديدة، فأحيانا تعجب البيئة بالصفة فتبقى في أجيال الكائن، وأحيانا أخرى لاتروق للبيئة فتقوم بالفتك بأفراد الكائن حاملي هذه الصفة.
فهذا التناغم التكاملي بين ماكنة الطفرات وبين متطلبات البيئة التي نستطيع شرحها عمليا ضمن مفهوم السلسلة الغذائية (3) Food Chain الذي يشرح الروابط والعلاقات التي ترتبط بها كائنات تعيش في بيئة إيكولوجية ما، لهو أرقى وأشد تعقيدا وأكثر تجليا للإعجاز الخلقي من مجرد الخلق المباشر.
- Benoit Mandelbrot هو عالم رياضيات فرنسي – أمريكي من أصل بولندي إستطاع عبر دراسته لمجموعة الأشكال التي عرفت لاحقا باسمه (مجموعة ماندلبرو) من فك شفرتها عبر وضع علاقة رياضية تشرح نمطية حدوثها.
- Permian Extinction كارثة حقبة الرمي ولها تسميات عدة ككارثة إنقراض حقبة البرمي أوالموت الكبير, حيث تقول الدراسات بأنها بين كوارث الأرض الأشد فتكا بالأحياء منذ تكونها, أما زمن حدوثها فهو قبل 250 مليون سنة.
- Food Chain لهذا المفهوم أهمية كبيرة في علوم الطبيعة والأحياء وله تعلق كبير في التعبير عن القوى التي تدفع بالأحياء للتطور.
السلسلة الغذائية عبارة عن خطوات وروابط تنتقل ضمنها الطاقة الغذائية عبر الكائنات بين صانعة (Producers) ومستهلكة (Consumers) ومحللة (Decomposers) في بيئة معيشية معينة. هذه السلسلة توضح كيفية إرتباط كائنات البيئة مع بعضها عبر هذه السلسلة.
*باحث في علم الإنسان القديم