آخر نواخذية صيد الأسماك وهم ربان لنجات صيد الأسماك، وآخر من عمل في الغوص لصيد اللؤلؤ من الرعيل الأخير!
وهنا أسلط الأضواء على آخر أربعة أقطاب في عالم صيد الأسماك واللؤلؤ قديما في القطيف ولم يعد لهم اليوم ذكرا في هذا المضمار، وهم:
* آخر صيادي الأسماك التقليديين القدامى.
* وآخر غواصي اللؤلؤ.
* وآخر لنجة صيد أسماك خشبيه في فرضة القطيف.
* وآخر القلاليف في القطيف.
لم يكن الدخول لفرضة القطيف أمرا هينا رغم وجود الترخيص الرسمي لدخولنا الفرضه، فقد وقفنا أكثر من نصف ساعة عند المدخل للتأكد.. كان ذلك في شعبان عام 1429هج بعدما اتقفنا على تحديد الموعد مع النوخذايين: الحاج أحمد بن يحي الماجد آل يحي -رحمه الله- والحاج جواد بن رضي آل عتيق لزياتهما في مقر عملهما أعني فرضة القطيف حيث نقطة إنطلاقات لنجاتهما للصيد.
هناك وجدناهما ينتظرانا وهما جالسان بكل أريحية على أحد أرصفة شاطئ بحر الفرضه وأمامهما لنجة خشبية من طراز (هوري) وكانت هي السفينة الخشبية الوحيدة من بين جميع اللنجات والسفن الراسية عند أرصفة فرضة القطيف، وهي الوحيدة التي كانت من صناعة القطيف إذ تم صناعتها في دارين على أيدي احد بنائي السفن المعروف بأبي عبجل، إذ أن جميع السفن التقليديه الحاليه والتي تصف بجانبها في الرصيف هي من الفايبر كلاس. يصر النوخذا الحاج جواد على إبقائها عنده والعمل بها مادام حيا و قادرا على العمل رغم المعاناة في إبقائها رسميا (كما قال- شافاه الله)، إنها عزيزة عليه فقد كانت رفيقة درب عمله منذ أيام شبابه حين إشتراها ب1500 ريال وعمره آنذاك 30 سنه.
-قبل قرابة الخمسين عاما- ومن قبلها قد إمتلك (عبرة صغيره) إسمها ضبيان. ثم يلتفت الحاج جواد إلى إبنه عبدالرسول وهو يقول: (إذا اختار الله أمانته في أبوك أو عجزت عن العمل في البحر فتصرفوا برأيكم فيها). لقد كانت العشرة بينهما حميمة جدا فقد خدمته في مجالات شتى؛ فتارة يستخدمها لنقل البحارة المعروفين بكلاب السيف مستخدمي طريقة الصيد المعروفة (بالدغاي)، فهم يستخدمون الحبل المعروف بالحومال أو البيطه لحد الأسماك وتوجيههم إلى السيف لتسهل عملية إلتقاطهم. كانوا يتصفون بقوة أجسامهم فهم يبحرون عشرين مرة في كل شهر خلال فصل الصيف، أما في الشتاء فكان آل عتيق يستخدمها لنقل الحجر البحري المعروف بالفروش المستخدم لبناء المنازل وعادة يختار المقالع الواقعة بين مسجد الإمام بالكويكب وبين برج أبو الليف، لقد كانت لنجة مخضرمة إذ يقول إنها كانت تسير بستة مجاديف وشراع واحد، وبعد أن دخلت في زمن المحركات إستبدل آل عتيق تلك المجاديف والشراع بمحرك يعمل على البنزين. لقد وصفها بأم الخير إذ كان الصيد في السنوات الماضيه وفيرا جدا إذ يتراوح الصيد اليومي عند كلاب السيف بين 180 (من) قطيفي إلى 200 من (16 كيلو×200). ثم نكس رأسه إلى الأرض وهو يضحك ساخرا ليضيف: أما اليوم فقد تدنت الى 4 و 8 أمنان فقط فهو يعتبره مجرد تسلية إذ يعزو سبب ذلك الى ردم البحر والقضاء على أشجار القرم بالإضافة إلى إستخدام الشباك الثلاثية الممنوعة رسميا في اصطياد الأسماك فهي تجرف قيعان البحر وتجرف المجافر والنباتات البحريه وجميع عناصر بيئة الكائنات البحريه وتقضي على بيض الأسماك. لقد كانت رحلات صيدهم البحريه إلى مناطق مختلفة في خليج القطيف كمنطقة دام الشملي ودام الجنوبي وغمالية الخنيزية التي تمتاز بوفرة الربيان صيفا وشتاء وهي التي تقع في مقدمة الدخل المحدود اليوم عند أبو امغوي وابو لحيه وابقحه التي اشتهرت بأسماك الحياسين والربيان والشعري. وأصعب ماواجهه النوخذه الحاج جواد هو تعرضه للذغة سمكة اللخمة الخطيره ثلاث مرات وكان علاجها آنذاك الكي.
لقد صدق النوخذه آل عتيق فيما قطعه من عهد على نفسه؛ الآن وبعد مرور أكثر من عشر سنين على ذلك اللقاء الجميل: التقيت بإبنه عبدالرسول وعلمت منه عن تقاعد أبيه عن (دخوله) البحر لكبر سنه -أطال الله في عمره- ثم سألته عن مصير ذلك الهوري فأجاب أنه سلمه قبل عام للجهة المختصة كهدية، وقد علمت من إبنه -أيضا- بأنه سوف يستخدم كمعلم جمالي ينصب في أحد الشوارع.
ثم إلتفت إلى النوخذه الحاج أحمد بن يحي الماجد آل يحي (أبو عبدالله) رحمه الله الذي كان يجلس بجوار زميله الحاج جواد ليدور معه حديثا آخر حول مغامراته البحريه على مدى 70 عاما والذي بدأه منذ سن الثامنة عشر. كان رحمه الله يمتاز بالذكاء وقوة الذاكرة حيث يقول وبكل ثقة: (من دخلت البحر قبضت الكانه): يقصد بمجرد دخوله في عالم البحر تولى أمر دفة السفينه وقيادتها ليصبح نوخذه (قبطان)، ويضيف إلى أنه كان يقوم بكل شئ بنفسه ولايعتمد على أحد حيث عمل تبابا في الغوص أي صبيا يقوم بخدمة جميع من كانوا على ظهر السفينة من غواصين وسيابين ونوخذه، حيث يذكر أنه أدرك الغوص في آخر أيامه كما وقد عمل كسارا لفرش الحجاره (الصحن الصخري) ونقلها لمواقع البناء على اللنج كما وعمل صيادا للأسماك.
ثم يستعرض أسماء هيرات القطيف وهي الأكثر شهرة من بين هيرات الخليج -كما أكد- والهيرات أو الأهيره مفرد هير هي مواقع حقول محار اللؤلؤ والتي يستغرق الوصول اليها أكثر من ساعتين فينزلوا للغوص من ظهر المحمل بعد وصولهم لتلك الأهيره والتي من أشهرها السلاة وأم الخريد والدويسين والغمره والواسعه واليدر والجعيليه والبهيم وغيرها. وعن مواقع النجوم التي كانوا يستدلون بها لمعرفة طريق الملاحة والغوص فقد كان يصفها بطريقة عجيبة ويذكر دور كل نجم منها بطريقة شعرية فلكلورية غريبة مع مسمياتها ومسميات الرياح واتجاهاتها والتي لايسع ذكرها هنا. ثم يستعرض بعض أسماء اشهر نواخذية اللؤلؤ في القطيف أمثال جاسم وحسن علي المرزوق والمشكاب وحاج علي الشيوخ (أكبر نواخذية الشويكه) وبن عيسى وبن شبر الذين كانوا يمتلكون خمسين محملا وكل محمل يحمل من 15 إلى 40 رجلا. ثم يذكر فترات الغوص ويقول: “الغوص فيه توشين” أي موسمين أول توش 30 ليله من بداية الصيف والتوش الثاني أيضا 30 ليلة أخرى ثم (إذا طار النشر بدأ القفال) أي اذا رفرف العلم فوق الساريه بدأ التوقف عن الغوض، ويذكر أن أول من يعلن عن موسم القفال هو النوخذه راشد الفاضل من أهالي دارين فيرجع الغواصون فرحين وهم يرددون فلكلورا شعبيا (الحي منا يادار يجيش) وذلك لكثر مايتعرضون لخطر الموت فمن يعيش (يجيء) الى داره ثانية. ويذكر أنه في سنة الطبعة كان طفلا وكان أبوه وعمه من النواخذية الذين نجو من خطرها. وكان يشير إلى ضرورة المرور على برج أبو الليف عند دخول البحر والذي بني من زمن الأتراك حيث كان فيه مركزا يتواجد بداخله عسكري. وأما عن إمتلاكه للسفن فهو يختلف عن الحاج جواد آل عتيق تماما فقد إمتلك العديد من اللنجات وكان أولها (عبرة) إشتراها لنقل الركاب من الفرضة في القطيف الى الرباط (حدود جزيرة تاروت الجنوبي الغربي). ومن شغفه للبحر يقول أبو عبدالله أنه لايزال يمتلك لنجة واحده كان سعرها في الماضي يتراوح بين الخمسة آلاف والعشرين ألف ريال ويشرف عليها إبنه عبدالله وأما دوره فهو مقتصرا على إصدار التوجيهات بحكم خبرته. ويمتاز أبو عبدالله بدراية فائقة عن طرق الملاحه البحريه بحيث أنه -كما يذكر- لم يضل الطريق في حياته البحريه قط حيث يقول وبكل ثقة: (لأني أعرف الطرق زين مره) وكان يستخدم الديره (أي البوصله الكبيره) وفي الليل يهتدي إلى الطريق الصحيح بمواقع النجوم. ثم يعود ثانية لأيام الغوص ليقول أن الناس الذين هم على ظهر المحمل أوفر حظا من الناس الذين هم على ظهر اليابسه في تلك الآونه من حيث توفر الأكل في تلك الأيام حيث كانوا يأكلون التمور والأسماك مع الارز المحمر بالدبس حين يعبأ المحمل بجميع أصناف الأطعمة وأدوات الطبخ.
ويذكر أن من الأخطار التي تعرض لها ذات مرة هي (ضربة الفريه) وهي رياح قويه مغبرة تصحبها أمطار وغيوم سوداء تحجب الرؤيا فيقول ولكن بحمد الله وجدنا أنفسنا في رأس تنوره. وذات مرة عند قدومه من رأس تنوره والمحمل قد إمتلأ بالركاب فجأة تمزق الشراع بسبب قوة الريح وكاد المحمل أن يغرق لولا تدخل العناية الإلهية ثم رباطة جأشه وقوة إيمانه حيث تمكن من التحكم في دفة المحمل كما وقد بذل جهدا في تهدئة الركاب وطمأنتهم بأنهم سيصلون إلى فرضة القطيف سالمين إن شاء الله وكان ذلك قد حصل.
كما أنه لايزال يتألم كلما تذكر ذلك الحادث الذي ألم بأخيه حبيب عندما مر ذات يوم بمحمله بالقرب من لنجة أخيه حبيب وقد حز خيط الحذوق أحد أصابع يد أخيه بعدما علقت بالخيط كنعدة كبيره ذات مقاومة شديدة أدت الى بتر ذلك الأصبع.
ويتحدث أبو عبد الله عن هموم صيانة وتصليح اللنجات التي تحتاج إلى متابعة دقيقه لكي لاتتعرض اللنجة إلى غرق أو إنكسار فيذكر أن تلك الصيانه هي ماتعرف في مناطق الخليج بالقلافه وهي صيانة دورية خاصة بجسم السفينة الخشبي، حيث أن فني الصيانه يعرف بالقلاف. فيقول أبو عبدالله إن أكثر من إشتهروا بصناعة اللنجات في البحرين هم أهل النعيم أما القطيف فقد كان أشهر من قلفها وصنعها هم أحمد العابد والسيد عباس والساده وأشهرهم كان يتقاضى أجر يومي يصل الى ثلاث ربيات وهم الذين (يكلفتوا الفتايل والدركال) أي يسدوا فجوات مابين ألواح أخشاب اللنجه وشقوقها بإحكام ودقه.
عندما فتح أبو عبد الله باب موضوع القلافة شدني لأن أتوسع في الإطلاع أكثر على موضوع القلافة في القطيف وكيف لي من سبيل إلى ذلك إذ لم يبق من القلاليف آنذاك إلا قلافا واحدا ناهز المئة عام أو دونها بقليل وهو رجل قد لاتسعفه صحته آنذاك لأن نحمل عليه مالاطاقة له به، غير أني وجدته رجلا مرحا يمتاز بذاكرته القوية والتي لاتزال تزخر بالكثير من المعلومات كما وإنه لايزال يتمتع بحيوية تنم عن إدراك و وعي كما ويتصف بروح الدعابة الشبابية وكان -رحمه الله- يمتاز بسرعة البداهة في الإجابة. لقد كان الطريق الذي أوصلني إلى صرحه هو أحد أبنائه. إن هذا القلاف هو السيد باقر السيد محمد علي الساده -رحمه الله- من أهالي الدبيبية أصلا ومن سكان أم الجزم. ولكي يشرح لنا القلافه خرج معنا إلى مصنع اللنجات القديم الأخير وحمل معه عدته التي لازالت في حوزته وقد وضعها في (مسقط خوصي) وكانت عباره عن مجداح خشبي (صناعة محلية) وريشته الحديديه من صنع الحداد القطيفي والمقبض والوتر من صناعته هو بنفسه كنجار، ومن أدواته أيضا القدوم وهو أيضا صناعة محلية يقوم الحداد بصناعتها بالإضافة إلى المطرقة والمنشار. القلاف هو من يقوم بصناعة السفينة أو من يقوم بصيانتها عند تعرض بعض أجزائها للتلف، وكلمة قلاف هي من أصل عربي فقد جاءت من الفعل قلف والفاعل قلاف وقلف في اللغة -كما جاء في لسان العرب ومختار الصحاح والمنجد وغيرهم- حين نقول قلف الشجرة أي نزع عنها قشرها أو لحاءها، وقلف الظفر أي نزعه كما قال الشاعر: يقتلف الأظفار بنانه..
وقلف الصبي أي ختنه، أما حين نقول قلف السفينة أي أنه خلل ألواحها بالليف وجعل في خلالها (خللها) القار منعا لتسرب الماء للداخل وأما إسم الفعل من قلف فهو قلافة. ولعل كلمة كلفت (جلفت) اللقبة أي أدخل الفتيل بين الألواح: جاءت من كلمة قلف.
لقد خدم -رحمه الله- في مهنة القلافة لمدة تجاوزت الخمسين عاما، إذ بدأ مزاولتها وهو في الرابعة والعشرين من عمره وقد توقف عنها قبل عشرين عاما. لقد كانت بداية عمله في النجارة أولا مع إخوانه ثم بدأ أخوه السيد صالح -رحمه الله- بتعليمه القلافة وكيف (يكلفت/يجلفت اللقبة بالفتيله) أي يسد الفراغ الذي بين ألواح السفينة لإحكامها ومنع تسرب الماء لداخلها.
فكلمة قلاف هي من أصل عربي.
الساده يؤكد لنا وجود صناعة السفن (اللنجات) في القطيف ونواحيها البحريه في زمن بعيد ولكنها أخذت في الأفول حين ظهرت بعض الإمكانيات في بعض مناطق الخليج وبدت تتنج سفن أكبر وأكثر جودة ورخصا ما أدى إلى إتكال أهالي القطيف على جلب لنجاتهم من بعض تلك الدول الخليجيه كالبحرين ودبي والكويت، وقد كان هناك حوضا صغيرا لبناء السفن مساحته 150 في 200 مترا تقريبا مفصولا عن فرضة القطيف القديمة الأولى الواقعة جنوب شرق حي الكويكب وشمال شرق الشويكه وهي غرب المعهد المهني اليوم والتي كانت مجصصة من ثلاث جهات بأرصفة تفصلها عن الفرضة القديمة و التي كانت في أوجها في نهاية القرن التاسع عشر وقبل نقلها للفرضه المقابله للقلعه والقريبه لفرضة النقادي (راجع مقالي: فرضة القطيف: مواقعها.. تاريخها.. أهميتها)، لقد كان هذا الحوض يعرف (بالمغلي) وكان موجودا حتي نهاية الثمانينات من القرن العشرين الماضي، غير أن بناء السفن إستمر إلى عهد قريب في القطيف وبالتحديد في جزيرة دارين في الساحل الغربي منها وآخر لنجة صنعت هناك في منتصف التسعينات من القرن العشرين الماضي. فبناء السفن هنا كان قليل وأما صناعة القوارب الصغيرة مثل البانوش والقلص والعبره فكانت تصنع بكثرة. والطريف في الأمر أن السيد باقر قد صنع ذات مرة بانوشا داخل منزله في السبعينات من القرن العشرين فباعه بستة آلاف ريال ولكنه تفاجأ بورطة كبيره وهي أن حجمه كان أكبر من أن يخرج من بوابة المنزل مما إضطره لأن يخلع (الجارباره) وهي إطار الباب حتى تمكنوا أخيرا من إخراجه بصعوبة بالغه. وأما عن الغوص فهو لم يشهده إلا في آخر أيامه وقد دخل الغوص مضطرا ولفترة قصيرة وبأجر زهيد وذلك مع عائلة الماجد (أسرة الحاج أحمد الآنف ذكره) وكان عمله مقتصرا على تفليق المحار ولم يحظ بأي حصبة أو لؤلؤة ذات قيمة تجاريه فكل ماحصلوا عليه كان حبيبات صغيرة من اللؤلؤ تدعى (سحاتيت). وأما أجرته فكانت هو مايشبع به بطنه من طعام من أرز أبيض وأسماك البحر ومعهما التمر. يضيف السيد باقر أنه عندما يدخل أفراد الأسرة الغوص فإن من يتبقى من رجال العائلة يتحمل مسؤولية إعالة الأسرة بأكملها. أما عن أول أجر تقاضاه من عمل القلافة فقد كان عشرة ريالات، وهذا يعتبر أجر مرتفع ثم وصل إلى عشرين ريالا، وبعدها وصل أجره الى ثلاثين ريالا. ويروي أنه ذات مرة استغرق عاما كاملا ونصف العام في قلافة (صيانة) لنجة كبيرة جدا وكانت قلافتها شاملة في (الأصفاح والأبياص)؛ فأما الأصفاح فهي جوانب السفينه والبيص هو جسر قاعدة اللنج (الشاسيه) الخشبي السميك الممتد على طول السفينه في أسفلها من أولها حتى آخرها وتعد قلافة البيص من أصعب القلافة لأنه يقع أسفل السفينة وفي أعماق الماء وهو أساسها.
ثم يتحدث الساده عن أشهر نواخذية وملاك لنجات الغوص والصيد الكبيره على حد سواء فيذكر منهم الحاج أحمد والحاج مهدي الأسود رحمهما الله فهما من الطواويش الكبار (أي تجار اللؤلؤ)، وأما من ملاكي لنجات الصيد فهم عائلة الماجد الذين امتلكوا آخر الأيام أربع لنجات كبيره، كما أن الحاج عبدالله والحاج أحمد الحلال وعائلة امسلم والمشامع من أهالي سيهات قد إمتلكوا لنجات كبيرة أيضا، وأما لنج آل خريده بسيهات فقد وصفها الساده ب(الفخمه) لأنه حسب قوله أن العاملين فوق ظهرها يصل إلى أربعمائة شخص وكان من ضخامتها أنه في وسط بيصها (شاسيه اللنج) ثقب كبير أشبه بحفرة أو بئر كبير يتسع لأن يدخل فيه رجل ضخم الجثة وهذه الحفرة من أجل إنزال و تثبيت سارية الشراع فيها حيث يقول أنه لم ير في منطقتنا لنجا أضخم منها. وأما من إمتلكوا أكثر اللنجات فيقول القلاف الساده -هم أهالي تاروت- وبالنسبة لملاك اللنجات الصغيره فحدث ولا حرج فعددهم كثير جدا. وعن إمتلاك الجزازيف (أي تجار السمك وسماسرته) لنجات الصيد فقال إنهم قلة لأنها ليست من مهام أعمالهم، فمن الجزازيف القلة الذي إمتلك لنجة في ذلك الوقت هو عبدالرسول آل سليس، كما أن المجموعة التي عرفها الناس بكلاب السيف (الآنف ذكرهم) فإنهم أيضا لم يمتلكوا لنجات الا ماندر مع أنهم صيادون مهرة محترفون، وهم من أهالي باب الشمال لهم طرقهم الخاصة في الصيد والفريده من نوعها.
وأما عن القلاليف فقد أخبرنا الساده بأن عددهم كبير إذ يعمل أحيانا أربعة أو خمسة قلاليف ومعهم مساعديهم في لنجة واحده. ومن بعض أشهر آخر القلاليف: الحاج أحمد العابد وعلوي السيد عباس القلاف ومكي الخاطر وسيد صالح الساده وغيرهم، وأما من القلاليف القدامى فهم علوي السيد محسن وعلوي السيد أحمد من الدبيبيه. وعن عملهم في جزيرة تاروت -قبل إنشاء الجسر- فقد كانوا يصلون الى تاروت بطريقتين: إما إنتظار (المايه تفبر/تثبر) أي يكون الماء في حالة الجزر والإنحسار فيعبرون البحر مشيا أو تنقلهم (القواري): أي العربات التي تجرها الحمير، أو إتباع طريقة أخرى وهي أنه
عند حالة المد (المايه سقي) يركب الناس البوانيش أو العبرات وهي لنجات العبريه الصغيره التي تنقل الناس من وإلى جزيرة تاروت.
وعن وظيفة واستخدامات أدوات القلافة والمواد المستخدمه فيها (التي أشرت الى بعض مسمياتها سالفا) فيذكر السيد باقر أن من أهم تلك الأدوات القدوم وهو فأس محلي الصناعة يستخدم لتهذيب وقطع زوائد الأخشاب المستخدمه، وهناك المنقار وهو نوع من الأزاميل الذي يستخدم لإزالة المسامير وللحفر الناعم، وأما (المجداح) أي المثقاب فيستخدم لشق طريق المسمار لمنع الألواح من التشرخ وكذلك يستخدم لكلفتة الفتايل أحيانا أي حشر الفتيله بين الألواح.
و (الكلفات) بفتح الكاف وهي تنطق بالجاء الخليجيه (ch) هي أداة مسماريه لحشر وتثبيت وكذلك لإزالة الفتيلة. و(القوبار) هو أزميل مستدير الرأس يستخدم للحفر الدائري من أجل إخفاء فلس (رأس) المسمار ليتساوى مع الخشب. إن جميع هذه الأدوات -كما أشرت- صناعة محلية قطيفيه قد صنعها النجارون والحدادون القطيفيون. أما المواد والتي منها المسامير المستخدمة في قلافة وصناعة اللنجات فأنواعها كثيرة ومتعددة الإستخدامات؛ فالمسمار الحدادي الذي يصنعه الحداد القطيفي والمعروف (بأبو فلس) بحجميه الصغير والكبير فلكل منهما وظيفته؛ فالكبير يستخدم لتثبيت الأصفاح (جوانب السفينة كما سبق الإشارة اليه)، وأما الصغير منها فيستخدم لسطح اللنج. و (للأوشار) أي التعديلات الخفيفه العامه. وهناك أبو فلس آخر وهو خاص ب(اللقط) أي ربط الأخشاب ببعضها حين يتم نزع مسمار وإحلال آخر مكانه، وهناك مسامير خاصة للبيص وهو (ابو فلس دريل) أي له سنه لكي لاتنخلع الأخشاب عن البيص أثناء التحركات المستمره للسفينه، وهذه المسامير جميعها أيضا يتم صناعتها محليا عند حدادي القطيف، وقد كانت تباع بالوزن حيث يصل سعر الكيلو إلى 25 ريالا تقريبا، أما (البوادير) أي المسامير التجاريه العاديه فهي ضرورية ولا غنى للقلاف عنها لتثبيت (الشخايص) الصغيره حيث أنها لاتتحمل المسامير.
وأما ألأخشاب التي تعد لصناعة اللنجات او لقلافتها فلها مصدران: محلية ومستورده؛ إذ يقول الساده أنهم يستخدمون جذوع قضب (شجرة) اللوز القطيفي لقوته وشدة تماسكه حيث تصنع منه (الكروات): وهي زوايا مؤلفة من ساقي جذعين يلتقيا أطرافهما ببعضهما ليشكلا زاوية إما قائمة على شكل L أو حادة على شكل V وذلك لتثبيت وتعزيز منطقة إلتقاء الأصفاح عند رؤوس الزوايا. وأما الأخشاب المستورده كالساج وغيرها فإنها تستخدم لبناء جدران اللنج.
وثمة مادة أخرى جديرة بالذكر لما لها من أهمية في إحكام اللنج وهي مادة الصل، إنها مادة شمعية تستخرج من كبد الأسماك وشحمه و من الخثاق -الأخطبوط- وهي مرتفعة الثمن لصعوبة الحصول عليها، ويسمى الشخص الذي يقوم بصناعتها (الصلال) وهي (كلمة من أصل عربي)، إذ تستخدم هذه المادة في طلاء السفن من الخارج لوقاية الأخشاب من آفات الأخشاب ولعزل الماء عنها لمنع التسرب ولحمايتها من الخرس.
أما عن موسم القلاف فإنه عادة ماينشط في فصل الشتاء وذلك لقلة دخول الصيادين البحر وكذلك في أيام الغوص كان موسم القفال هو الشتاء نفسه إذ لاغوص من أجل اللؤلؤ شتاءً لشدة البرد وازدياد سرعة الرياح، ويعرف هذا الموسم أيضا بموسم (العباط) أي التوقف عن العمل وهو مصطلح شبيه بمصطلح (البطاله) في أيامنا هذه ولكنها بطالة موسميه مؤقته فقط، عندها يرفع الصيادون والنواخذية سفنهم على الضفاف والأرصفة إستعدادا لصيانتها فيتحول الموسم إلى موسم قلافة و صيانة فتزداد حركة أنشطة القلافه، والظريف في الأمر أن غواصي لؤلؤ القطيف والبحرين بالذات قد تميزوا عن بقية غواصي الخليج في إستمرارية ممارستهم للغوص! إذ أنهم يتجهون إلى غوص عيون السيح في القطيف وفي البحرين لتنظيف قيعانها مما أصابها من رمي حجارة وغيرها من الأجسام الأخرى خلال العام و التي تؤدي إلى تلوثها وضعف تدفقها.
وعلى عكس ذلك في فصل الصيف عندما تنشط حركة صيد الأسماك والغوض من أجل جمع اللؤلؤ حيث تكون اللنجات في حركة دائبه فإن (العباط) يلحق بالقلاليف مايضطرهم إلى التوجه لأعمال أخرى كالعمل في المناجر أو صناعة الأبواب القطيفيه المشهورة بتميزها المنفرد أو التوجه إلى الزراعه أو البناء أو أي حرفة أخرى.
وفي نهاية السبعينات من القرن العشرين الماضي، أخذت مهنة القلافه القطيفية في الإضمحلال وكذلك في سائر دول الخليج وذلك بسبب إستغناء صيادي الأسماك عن لنجاتهم الخشبية التقليدية حيث حلت محلها القوارب والسفن الحديثة وقد عم ذلك الإستبدال حاليا جميع اللنجات الخليجية من الخشبية إلى اللنجات الحديثة التي تبنى في المصانع من مادة الفايبر كلاس (PVC) مع المحافظة على إبقاء شكلها التقليدي الخليجي الخشبي القديم وكذلك بنفس النماذج و الموديلات وبنفس الأحجام والمواصفات والنوعيات والمسميات. وهذا النوع بلا شك لاحاجة له بالقلاف وقت الصيانه كما كانت اللنجات الخشبيه، وإنما لابد لها أن تحتاج لصيانة بطرق أخرى، وبالتالي ندرك أن حرفة القلافة المهنية قد إنقرضت وولى زمنها الجميل طبقا لإنقراض اللنجات الخشبية وذلك في جميع دول الخليج بأكمله و بشتى أحجامها وأنواعها ومسمياتها فلم يبق من أثرها إلا شكلها والذي لايزال البعض موهوما بأنها لنجات خشبية.
العبد لله من محبي الشرقية خاصة القطيف وسهات ومن عاشقي القراءة عنها والمزيد من التعرف على تاريخها ودائما أحث أخي الموقر عبد الرسول الغريافي ان يجتهد ويسجل ماورد له سابقا من الأجداد والآباء ويكتبه لأنه يتميز بهذه المهنة وهي جمع ما يهم أهل القطيف والشرقية بعامة رحم الله الأجداد والآباء وبارك الله في الأجيال
ماشاء الله اللهم صل على محمد وآل محمد عيني عليك باردة يعجز لساني عن وصفك بالمؤرخ المتمكن بالمؤرخ الحاذق الهادئ في أخذ المعلومة الدقيقة الصحيحة وفقك الله أبو محمد و أعلى الله مقامك في الدارين
موضوع جدا رائع أستاذ عبدالرسول وتوثيق مهم للأجيال القادمة
السلام عليكم استاذ عبدالرسول . انا بحريني وأهوى الرسم وقد اعجبت ببعض اللقطات من الموروث الشعبي القديم من صورك.. واحببت الاستئذان في رسم بعض الصور ان لم يكن لديكم أي اعتراض.. مع خالص تحياتي
اهلا بك عزيزي وان كان الرد متأخر.. نعم بإمكانك رسم الصور حيث شئت