المشكلة الإستقرائية على ضوء المذهب التجريبي والمذهب الذاتي في المعرفة – د. جاسم حسن العلوي

عندما يحدد مذهب ما الإطار المرجعي لنظريته فإنه يؤسس المفاهيم لتتوافق مع ذلك الإطار المرجعي. ولذا فإن المذهب التجريبي باعتماده التجربة والحس أصلاً، فإنه يؤسس مفاهيمه إنطلاقاً من ذلك الأصل. فإذا كانت السببية في المفهوم العقلي هي علاقة الضرورة والتأثير بحيث تكون (أ) ضرورة وجودية لـ (ب) فإن فكرة الضرورة تغيب عندما نتناول السببية بمفهومها التجريبي. إذ لا أحد يستطيع أن يقيس الضرورة في المختبر ومن هنا فإن السببية وفق ذلك الإطار المرجعي التجريبي لا تعني سوى علاقة زمانية ذات طابع إستمراري مطرد بين شيئين. 

تتباين المواقف من الدليل اﻹستقرائي ضمن التيار العريض الذي يرى في التجربة الحسية الرافد الأوحد الذي يستقي الإنسان منه كافة معارفه ومعلوماته. وتوجد ضمن التفسيرات الخاصة بالمذهب التجريبي ثلاثة إتجاهات رئيسية:

إتجاه اليقين: وهو اﻹتجاه الذي يرى في الدليل اﻹستقرائي القدرة على الوصول إلى اليقين، حيث تبلغ درجة التصديق بالقضية الإستقرائية حد الإعتقاد الجازم بها. بمعنى أن الإستقراء يكشف عن الواقع الخارجي العيني بدرجة لا تقبل الشك ويتصدر هذا الإتجاه الفيلسوف الإنجليزي (جون ستيوارت مل).

إتجاه الترجيح: وهو الذي يرى في الإستقراء سبباً في ترجيح القضية الإستقرائية ولا يبلغ فيه التصديق بالقضية الإستقرائية درجة الجزم بها بل يوجد على الدوام هامش من التشكيك بصدقها. صحيح أن هذا الهامش قد يصغر تبعاً لتوسع الإستقراء وشموله لعدد أكبر من الحوادث المستقراءة إذ يرفع هذا التجمع العددي للشواهد من سقف الإحتمال لكنه لا يلغي على الإطلاق ذلك الكسر الصغير الذي يمثل مصدر الشك بصدقها. ويزداد اﻹحتمال بهذه القضية رجحاناً كلما توسعنا في الإستقراء.

إتجاه الشك: وهو الإتجاه الذي يفسر اﻹستقراء بوصفه عادة ذهنية وهو بالتالي يشكك في القيمة الموضوعية للقضية الإستقرائية ويتصدر هذا الإتجاه الفيلسوف (دافيد هيوم).

هذه اﻹتجاهات الثلاثة وإن إختلفت في تفسير اﻹستقراء إلا أنها تعالج المشاكل اﻹستقرائية الثلاثة‍1 التي إستعرضناها في المقالات الثلاثة السابقة داخل أسوار التجربة والحس وهي بذلك تقدم تفسيرها الخاص للمشكلة الإستقرائية وفق ذلك الإطار التفسيري الذي تبنته للمعرفة البشرية.

ومن هنا فإن المشكلتان الأولى والثالثة وهما السببية التي تفترض أنه لا بد لـ (ب) من سبب والإطراد الذي يحتم إستمرار العلاقة بين السبب والمسبب في الزمان عندما تتوفر الشروط الموضوعية لذلك قد أرجعهما المنطق العقلي إلى مجموعة المعارف القبلية السابقة على التجربة. بينما قدم التجريبيون تفسيرهم المنسجم مع الإطار المرجعي الذي يستند على الحس كمصدر للمعرفة. فالسببية بمفهومها التجريبي تمثل علاقة التتابع الزمني المطرد بين أي حادثتين، فالحادثة (أ) يعقبها في الزمان الحادثة (ب) بحيث أنه في كل مرة تتحقق الشروط الموضوعية نجد أن الحادثة (أ) يعقبها زماناً ظهور الحادثة (ب) دون أن نستوحي من هذه المشاهدة فكرة الضرورة أو اللزومية. وينتج عن هذا الفهم للسببية هو النظر للعلاقات السائدة في عالم الطبيعة بشكل منفرد ومعزول فهي علاقات مستقلة قائمة بين أفراد بشكل مطرد وليست بشكل مفاهيم. إن النظر إلى الأشياء بشكل منفرد وليست ضمن مجموعات بحيث تضم كل مجموعة الأفراد المتشابهة لا يؤسس للمفاهيم الكلية التي ينضوي تحتها عدد من الأفراد يتفقون في صفات معينه. فبينما يتحرك العقل بهذا الإتجاه التصنيفي للأشياء والذي يرى في الفرد معبراً عن الكل وإن فهم مجموعة علاقات التأثر والتأثير للفرد ضمن الشروط الموضوعية التي تحقق تلك العلاقات يبرر لنا الحكم العام على أن جميع أفراد ذلك النوع ستعطي النتائج نفسها إذا وضعت في الظروف الموضوعية نفسها نجد أن هذه الرؤية – التجريبية – التي لا تتحرك إلا في إطار الحس لا تستطيع أن تتجاوز الفرد إلى المفهوم الكلي الذي يجرده من هويته الفردية الضيقة ليضمه للمجموع.

موقف الإتجاهات الثلاثة من المشكلة الأولى والثالثة

لقد قدمنا التفسير التجريبي للسببية ضمن الإطار المرجعي لهذا المذهب. وبينا أن السببية بمفهومها التجريبي لا تعني سوى العلاقة الزمانية المتتابعة والمطردة بين الحوادث. ولكن السؤال لماذا تكون (أ) و (ب) متعاقبتان زماناً وبشكل مطرد ولماذا لا تكون (ت) أو (ج) مثلاً هي التي تعقب (أ) زماناً واطراداً؟ قد لا يرى هذا المذهب الحاجة للجواب على هذا السؤال.

لقد آمن الإتجاه الأول صاحب النزعة اليقينية بحاجة الإستقراء لمبادئ السببية لكنه يرى أن هذه المبادئ هي ايضاً نتاج إستقراء أوسع في الطبيعة. وبعد أن أصبحت السببية حقيقة يقينية بفضل الإستقراء أصبح بالإمكان إستخدامها في تعميمات إستقرائية لاحقه.

أما الإتجاه الترجيحي فقد آمن بأن الإستقراء بحاجة إلى المصادرات السببية ولكن إثبات هذه المصادرات غير ممكن. وبما أن هذه المصادرات لا يمكن البرهان عليها بالكيفية التي إعتمدها المذهب العقلي حيث إعتبرها مبادئ عقلية قبلية ولا بالكيفية التي إستدل بها الإتجاه الأول والتي إعتبرها نتاج إستقراءات أخرى، فإن الإستقراء لا ينتج يقيناً بل رجحاناً في القضية الإستقرائية. وكلما شمل الإستقراء حوادث أكثر زاد الإحتمال برجحان القضية الإستقرائية.

والإتجاه الثالث ذا النزعة السيكولوجية فقد آمن بالحاجة إلى هذه المصادرات ولكنه تبنى تفسيرها على إعتبار نفسي. فالسببية التي تنتج العلاقة ذاتها بين قضيتين والتي تجعل الحاضر يشبه الماضي وأن نبرر أن ما سيحدث في المستقبل سيكون هو أيضاً شبيه بهما ليس مبرراً منطقياً بل هو مبرر سيكولوجي يسميه (دافيد هيوم) رائد هذا الإتجاه بالتداعي. والمقصود من التداعي هو إنتقال الذهن من فكرة إلى أخرى نتيجة للتشابه والتجاور في الزمان أو المكان، والعلة والمعلول. إن مشاهدتنا للماء على النار تثير في ذهننا الفكرة الأخرى عن الغليان. وهذا يعني أن العلاقات العلية تقع في حد واحد ينتقل بعدها الذهن للتفكير في الحد الآخر. هذا يعني في نهاية المطاف أن علاقات العلية القائمة بين الأشياء هي مجرد أفكار قائمة في أذهاننا وليس لها حقيقة موضوعية في الخارج.

موقف الإتجاه الأول والثاني من المشكلة الثانية

أما بالنسبة للمشكلة الثانية وهي إذا كان لـ (ب) سبباً فلماذا يكون (أ) هو السبب وليس (ج) أو (هـ)… الخ. فإن الإتجاه الأول والذي يؤكد قدرة الإستقراء على الوصول إلى اليقين، لم يتمكن ومن خلال الطرق العديدة التي وضعها للتأكد من السببية القائمة بين الحادثتين أ و ب على سبيل المثال إلا من التقليل من إحتمال الصدفة النسبية ولكنها لا تفسر إمكانية القضاء عليه نهائياً.

إن الإتجاه الثاني يؤكد أن الإستقراء يؤدي إلى رجحان العلاقة بين (أ) و (ب) لكنه لا يقود إلى الجزم بهذه العلاقة. ويوجد ضمن هذا الإتجاه من يؤمن بحاجة الإستقراء إلى مصادرات خارجة عن التجربة حتى يشكل مبرراً منطقياً للإستقراء، كالفيلسوف الإنجليزي (رسل وهناك) والفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود، وهما لا يرون حاجة الإستقراء إلى مبرر منطقي، عقلي حتى يجوز الحكم بصحة الإستدلال من حوادث الماضي على حوادث المستقبل. ويرى هؤلاء أن ما حدث في الماضي يكون بنفسه سبباً كافياً للحكم على المستقبل ولكن رجحاناً وليس يقيناً. فهناك فرق بين قضايا العلوم والرياضيات، فقضايا العلوم كلها قائمة على الترجيح لا اليقين ويمكننا ومن خلال نظرية الإحتمالات من الكشف عن إحتمال عالي للقضية الإستقرائية.

المذهب الذاتي في المعرفة

هذا هو المذهب الجديد في المعرفة والذي بشر به السيد محمد باقر الصدر في كتابه الأسس المنطقية للإستقراء. وقبل أن نستعرض الأسس التي يقوم عليها هذا المذهب الجديد، سنقوم بالتمييز بين ثلاثة أنواع من اليقين وهم: اليقين المنطقي والموضوعي والذاتي. إن اليقين المنطقي يختص بالإستدلالات الإستنباطية وأن العلاقات القائمة في هذا النوع من اليقين لا تقبل التفكيك فإذا قادنا الدليل الإستنباطي إلى العلاقة القائمة بين (أ) و (ب) فإننا نستطيع أن نجزم أنه من المستحيل ألا تكون العلاقة غير ذلك. أما اليقين الذاتي فهي مسألة شخصية وليس لها مقياس موضوعي. أما اليقين الموضوعي فيتعلق بالإستدلالات الإستقرائية ويمكن تحقيق اليقين بالقضية الإستقرائية عن طريق تنمية الإحتمال إلى درجة عالية جداً من التصديق بالقضية الإستقرائية. إن هذا المذهب الذي أسماه السيد الصدر بالمذهب الذاتي يؤكد على قدرة الإستقراء للوصول إلى اليقين الموضوعي. وفي هذا الشكل من اليقين نستطيع أن نؤكد العلاقة القائمة بين (أ) و (ب) ولكننا لا نستطيع أن نجزم أنه من المستحيل أن يكون الأمر غير ذلك كما هو الحال في اليقين المنطقي. إن هدف السيد محمد باقر الصدر من نظريته الجديدة في المعرفة هو الوصول بالإستقراء إلى اليقين الموضوعي.

لنعد إلى السؤالان المركزيان في نظرية المعرفة وهما: ما مصادر المعرفة؟ وكيف تنمو؟

إن المذهب الذاتي في المعرفة يتفق مع المذهب العقلي بوجود معارف عقلية قبلية مستقلة عن الحس والتجربة تشكل الأساس أو القاعدة التي يقوم عليها البناء الفوقي للمعرفة.

ولكن المذهب الذاتي يختلف عن المذهب العقلي في تفسيره للكيفية التي تنمو بها المعرفة.

إن المذهب العقلي يؤمن بطريقة واحدة لنمو المعرفة وهي طريقة التوالد الموضوعي، بينما يؤمن السيد محمد باقر الصدر في مذهبه الذاتي بوجود طريقتين لنمو المعرفة وهما طريقة التوالد الموضوعي والذاتي.

والتوالد الموضوعي يعني أن معرفة جديدة تنشأ للتلازم الموضوعي القائم بين الجانب الموضوعي من المعرفة المولدة والجانب الموضوعي من القضية المتولدة. وهذا التوالد الموضوعي هو الأساس الذي يقوم عليه القياس الأرسطي. ومن أمثلة المعارف المتولدة بطريقة التوالد الموضوعي نظريات إقليدس في الهندسة التي تولدت من بديهيات تلك الهندسة.

أما التوالد الذاتي فيقصد به أنه بالإمكان أن تتولد معرفة جديدة بدون أن يستلزم ذلك تلازماً موضوعياً بين القضيتين المولدة والمتولدة. بل إن المبرر لنشوء معرفة من معرفة أخرى هو التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة. ويعبر عن هذا النوع من التوالد في الإستدلال الأرسطي خطأً لأن الإستدلال الأرسطي يستهدف النتيجة التي تفضي إلى اليقين المنطقي التي تعبر عن شكل من العلاقة لا تقبل التفكيك.

ومن أمثلة المعارف المتولدة بطريقة التوالد الذاتي هو جميع القضايا المستنتجة من التعميمات الإستقرائية إذ لا يوجد أي تلازم موضوعي بين مجموعة الأمثلة والشواهد التي تم إختبارها وبين تلك التعميمات. فالعلم بالتعميم ينشأ عن طريق العلم بهذه الأمثلة والشواهد دون أن يكون هناك تلازم موضوعي بينهما بل على طريقة التوالد الذاتي. وبالتالي فإن جميع الحقائق العلمية هي حقائق مستنتجة بطريقة التوالد الذاتي، بل أن معظم المعرفة البشرية قد أستنتجت بهذه الطريقة.

إن الدليل الإستقرائي من وجهة نظر هذا المذهب الجديد يمر بمرحلتين:

الأولى: مرحلة التوالد الموضوعي، وهي المرحلة التي يتم تطبيق نظرية الإحتمالات بالتعريف الجديد الذي تبناه السيد محمد باقر الصدر وهو تعريف الإحتمال على أنه علم إجمالي على الأمثلة والشواهد التي تم إستقراءها. وكلما زاد عدد الشواهد زاد الإحتمال بالقضية الإستقرائية. ونستطيع أن نرفع من سقف الإحتمال بالقضية الإستقرائية إلى أقصى حد ممكن ولكن دون أن نصل في هذه المرحلة إلى اليقين بها. وفي هذه المرحلة من الإستدلال لا نحتاج إلى الإيمان العقلي القبلي بالسببية بل نحتاج فقط إلى عدم رفضها، بعدها يمكن أن نبرهن على السببية القائمة بين قضيتين بإستخدام نظرية الإحتمالات. ولا نحتاج في هذه المرحلة إلا إلى التسليم بالمصادرة العقلية وهي عدم إجتماع النقيضين.

الثانيه: مرحلة التوالد الذاتي، وفي هذه المرحلة إستطاع السيد أن يبرهن على هذا الإحتمال العالي وتحويله إلى يقين موضوعي بالقضية الإستقرائية. ولكي يتسنى للدليل الإستقرائي القفز درجة من الجزم والوثوقية بالعلاقة القائمة بين قضيتين يفترض السيد محمد باقر الصدر مسلمة عقلية مفادها أن الذهن البشري مجهز على إلغاء أو إهمال هذا الكسر الضئيل من بعد أن وصل الإحتمال بالاستقراء إلى درجة عالية جداً. بمعنى أن العقل البشري العملي مصمم بحيث يتعامل مع الحقائق المستنتجة بطريقة الإستقراء على أنها حقائق قطعية. من هنا فإن الجانب الذاتي من المعرفة التي أفادته هذه المسلمة العقلية تلعب دوراً كبيراً في تصديق القضايا والتعامل معها على أساس من الجزم واليقين.

هذا بشكل مختصراً للملامح العامة للمذهب الذاتي في المعرفة الذي أسسه السيد محمد باقر الصدر وأنا أعتقد أن العلوم الحديثه مدينه له بهذا الإنجاز لأنه خلصها من مشكله خطيره للغاية كانت تلازمها من بداية تاريخ البشريه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *