من الثابت لدى جميع من يتبنى بالكامل نظرية السيد الشهيد في الإستقراء ومذهبها الذاتي أو الذين لا يستطيعون أن يذهبوا معها إلى أقصى ما تصل إليه، أعني بذلك نقل القيمة الإحتمالية العالية للإستقراء إلى يقين وهو ما عبر عنه بالجانب الذاتي من المعرفة والذي معظم علومنا تتشكل على أساسه، أن الاستقراء ليس له حل قياسي، إستنباطي.
إن أرسطو أراد للتجربة أن تصل إلى اليقين إعتماداً على تحويل الإستقراء إلى قياس يستمد كبراه مما إفترضه المنطق الأرسطي مسلمة عقلية أولية تنفي أن يكون الإتفاق أكثرياً أو دائمياً وتستمد صغراه من التجارب التي تتحرك، مع تكرارها، في الإتجاه الذي ينفي الصدفة النسبية ويؤكد أو يكشف في نفس الوقت عن سببية إحدى الظواهر للأخرى. لكن السيد الشهيد قد تنبه إلى أن ما يفترضه المنطق الأرسطي مسلمة عقلية يرتكز عليها في تشكيل كبرى القياس الخفي المبطن في الإستقراء هو في حقيقته ليس مبدأ عقلياً قبلياً. إن القليل من التدقيق في هذه الفرضية، وكما أشار السيد الشهيد في كتابه الأسس، يتضح لنا أن هذه المسلمة ليست كذلك. ذلك لأن المبدأ الأرسطي لا ينفي تكرار الصدفة على مستوى الوقوع أي أن الواقع العملي ومن خلال الممارسة وبالإستقراء نفسه يمكن لنا أن نتأكد من هذه الحقيقة – عدم تكرار الصدفة في الواقع. لكن أراد بهذا المبدأ نفي إمكان تكرار الصدفة وإثبات إستحالة تكرارها.
وعندما نقارن بين درجة القوة والإيمان بهذه المسلمة ” الإتفاق لا يكون دائمياً أو أكثرياً ” وبين درجة القوة والإيمان بالمسلمة العقلية التي تنفي – إجتماع النقيضين – مثلاً نرى أن العقل النظري والعملي للإنسان مجهز بحيث يقبل بهذه الحقيقة دون أدنى شك. ولكن عندما نتأمل في المسلمة الأرسطية لا نستطيع أن نلمس ذلك الزخم أو الحضور في النفس التي تجعلها في نفس الدرجة والمساواة مع المسلمة التي تنفي – إجتماع النقيضين. إن المسلمة الأرسطية تفتقد ذاتياً لعنصر الضرورة في نظام الكون كما هو الحال في مسلمة نفي إجتماع النقيضين التي هي ضرورة في نظام الكون وحركة الفكر. إننا يمكن أن نتصور عالماً تقترن فيه الظواهر بالصدف النسبية ولكننا لا يمكن أن نتصور عالماً تتعايش فيه الأشياء مع نقائضها في المكان والزمان نفسه.
على ضوء المقالة السابقة يتبين أن المبدأ الأرسطي يقوم على أساس نفي غير محدد العدد و النوع والزمان. فنحن لا نستطيع أن نحدد طبيعة هذه الصدفة وأين يمكن أن تحدث وعدد المرات التي يمكن أن تتكرر فيها. وتقوم الإعتراضات الموجهة لهذا المبدأ على هذا النفي الغير محدد الهوية والعدد والزمان في إبطال كون المبدأ الأرسطي علماً إجماليا قبلياً قائماً على أساس التضاد والتمانع أو على أساس الإشتباه كما بينا في المقالة السابقة.
وسوف نقوم بتسجيل إعتراضات السيد الشهيد عندما نفصل في المعنى المقصود من العلم الإجمالي القائم على أساس التضاد والتمانع أو على أساس الاشتباه.
قد ينشأ العلم الإجمالي من إدراكنا أن بين الأشياء تضاد وتمانع فلا يمكن لها أن توجد جميعاً. فعند رمي قطعة نقد نعلم مسبقاً إما وجه الكتابة سيظهر أو وجه الصورة وعلمنا هنا مردد بين الوجهين ولإدراكنا التمانع بين الوجهين نعلم أنه لا يمكن لهما أن يظهرا جميعاً. هذا العلم الإجمالي يتحول إلى علم تفصيلي محدد إذا أتيح لنا أن نطلع على الوجه الذي سقطت عليه قطعة النقد. عندئذ يمكن لنا أن نعلم بشكل مفصل ومحدد – غير مردد – أو أن ننفي بصورة محددة الوجه الذي لم يظهر. ولنا هنا أن نتسائل هل يوجد بين الصدف المتماثلة تمانع ذاتي لا يجعلها تتكرر في تجربة؟ فلو إفترضنا أن (أ) هي سبب (ب) وأن (ت) ترمز إلى أي شيء ليس له علاقة سببية في وجود (ب) غير إنه يظهر في التجربة كصدفة نسبية. إن المبدأ الأرسطي يقرر مسبقاً أن (ت) لن تقترن بـ (ب) باستمرار على خط طويل. وإذا إفترضنا أن هذا الخط الطويل الذي لم يحدده أرسطو يعبر عن عشر تجارب متتالية فإن (ت) لن تقترن بـ (ب) على الأقل في تجربة واحدة من هذه التجارب العشرة بينما ستظهر (أ) في كل التجارب العشرة، الأمر الذي يجعلنا نتأكد من سببية (أ) لـ (ب). لكننا ندرك أن عدم ظهور (ت) في التجارب العشرة لا يرجع إلى وجود تمانع ذاتي بين جميع التاءات. فإذا لم تكن على سبيل المثال علاقة بين شرب اللبن وظهور الصداع وإخترنا عشوائياً عشر أشخاص وأعطيناهم لبناً فإن ظهور الصداع لن يحدث في واحد من الأشخاص العشرة. لكننا ندرك أن من الممكن للصداع أن يظهر فيهم جميعاً لعدم وجود تمانع الذاتي في تكرار ظهور الصداع. فالمبدأ الارسطي إذن ليس علماً إجمالياً يقوم على أساس التمانع أو التضاد. ( الإعتراض الثاني )
وإذا إفترضنا أن الصداع قد ظهر بشكل متتابع في تسعة أشخاص من بين العشرة الذين إخترناهم بشكل عشوائي، فهل سيعجز المجرب عن الإختيار العشوائي للشخص العاشر بحيث لا يظهر فيه الصداع حتى لا تتكرر الصدفة عشر مرات متتالية؟ إذاً يتبين أن فرضية التضاد أو التمانع إذا طبقناها على الإقتران الذاتي الذي هو الإختيار العشوائي للمجرب وظهور (ت) (ظهور الصداع كما في المثال) فسنجد أنها لا تنطبق. وكذلك عندما نقوم بالإختيار الواعي للأشخاص الذين تتوفر فيهم ظهور الصداع ونعطيهم لبناً فسنحصل حينئذ على أي عدد من الإقترانات الموضوعية بين شرب اللبن وظهور الصداع دون أن يكون بينها أي تضاد أو تمانع يحول دون حدوثها. ( الإعتراض الأول )
إننا نواجه إحدى حالتين بالنسبة لــ ي (تعبر ي عن سبب آخر غير أ في وجود ب) الأولى أن نكون متأكدين من عدم وجودها ففي هذه الحالة لا نحتاج إلا أن نجري تجربة واحدة حتى نتأكد من سببية (أ) إلى (ب). الثانية أن يكون حدوثها محتملاً. وهنا نلحظ أنه كلما كبر إحتمال (ي) كان ميلنا للإعتقاد بسببية (أ) إلى (ب) أبطأ والعكس صحيح. لذلك إن الميل إلى الإعتقاد بسببية (أ) لـ (ب) يتناسب عكساً مع مقدار إحتمالات وجود (ي). ولكن المبدأ الأرسطي لا يستطيع أن يفسر لنا كيفية تأثر الإستقراء بإحتمال وجود (ي). لأن الإستدلال الإستقرائي يعبر عن علم أولي قبلي بأن الصدفة لا تتكرر على المدى الطويل دون يكون لمقدار إحتمال (ي) أي تأثير. بينما تتأثر سببية (ب) بإحتمال وجود (ي) ففي الحالة التي لا نعلم أن لـ (ب) أسباب أخرى في الطبيعة سوف يكون ميلنا للإعتقاد بسببية (أ) لـ (ب) أكبر منه فيما إذا كنا نعلم أن لها أسباب، غير إننا لا نعلم بوجودها في التجارب. (الإعتراض السادس)
إن (ت) يمكن أن تقترن بـ (ب) في تسع تجارب متتابعة لكنها بحسب المبدأ الأرسطي لن تقترن في التجربة العاشرة من أجل العلم بأن الصدفة النسبية لا تتكرر في عشر تجارب متتابعة. لو كانت الصدفة النسبية لا تتكرر في عشر تجارب متتابعة يشكل علماً عقلياً سابق عن التجربة و الإستقراء لكنا نعتقد على نحو الجزم بالقضية الشرطية القائلة بأنه لو وجدت الصدفة النسبية في تسع تجارب متتابعة فإنها لن توجد في العاشرة. ونحن رغم ميلنا للإعتقاد بأن (ت) لن توجد في التجربة العاشرة إذا تكررت في تسع تجارب متتابعة إلا أننا لا نعتقد بتلك القضية الشرطية مما يدل بأنها ليست مبدأً عقلياً قبلياً. ( الاعتراض السابع )
إذا كانت (أ) تسبب (ب) فإن (أ) ستظهر في عشر تجارب متتابعة، لكن لو أن أحداً وبدون علمنا قد أدخل في التجربة شيئاً يمنع ظهور (أ) في التجربة العاشرة فإن إيماننا بأن (أ) هي سبب لـ (ب) سيزول. ورغم إننا قد اكتشفنا بعد ذلك أن احداً قد تدخل في سير التجربة ومنع (أ) من الظهور فإن علمنا بالسببية (أ) لـ (ب) سيزول ايضاً لأننا نقف أمام تسع حالات ناجحة فقط. والمنطق الأرسطي لا يمكن له على ضوء طريقته أن يفسر لنا كيف تزعزع علمنا بسببية (أ) لـ (ب) لمجرد علمنا بأن عامل خارجي قد أدخل في التجربة. فلو كان المبدأ الأرسطي يعبر عن معرفة أولية تنفي تكرار الصدفة في عشر تجارب متتابعة لما تزلزل إيماننا به لمجرد معرفتنا أن شيئاً ما قد أثر على سير التجربة. ( الإعتراض الخامس )
أما العلم الإجمالي الذي يقوم على أساس الإشتباه فهو أن نعلم أن شيئاً ما محدداً في الواقع لكنه اشتبه علينا، كأن نعلم بأن أحد الطلاب قد رسب إما في المنطق أو الرياضيات فيكون علمه قد نشأ على أساس الإشتباه لأنه لا يوجد أي تمانع ذاتي بين الإثنين. وعندما يطلع الطالب على المادة التي رسب فيها يتحول علمه الإجمالي إلى تفصيلي. لكننا عندما نفترض الشك في أصل واقعة رسوب الطالب فإن ذلك يكون سبباً لزوال العلم الإجمالي. ولكن لا يوجد في الواقع صدفة محددة يمكن أن يشار إليها بصورة غير محددة تكون الأساس للعلم الإجمالي. ( الإعتراض الثالث)
إن المبدأ الأرسطي الذي يقرر عدم وقوع الصدفة النسبية في عشر تجارب متتابعة، فإن كان المبدأ يقرر عدم الوقوع فحسب فهو ليس علماً عقلياً قبلياً لأن العلم العقلي القبلي يجب أن يكشف عن ضرورة ثبوت الموضوع للمحمول أو نفيه عنه. أما إذا كان يعني ضرورة عدم الوقوع فالضرورة إما أن تكون ذاتية أو عرضية. فإن كانت ذاتية هي التي يلزم فيها ثبوت المحمول للموضوع أو نفيه. وإن كان المبدأ الأرسطي يمثل علماً بضرورة عدم الوقوع فإن هذه الضرورة إما أن تكون ذاتية أو عرضية. فإذا كان لأي صدفة نسبية أن تقع إذا توفر سببها الكافي فلا مجال للقبول بالضرورة الذاتية إذ صار بالإمكان التفكيك بين المحمول والموضوع. إننا لا نجد إستحالة في ظهور الصداع في الأشخاص العشرة عند تناولهم للبن رغم عدم وجود علاقة سببية بين الصداع واللبن. وإما أن تكون الضرورة عرضية ففي هذه الحالة يتوقف ثبوت المحمول للموضوع على سبب ( حد أوسط ). ويكون إدراكنا للسبب الذي يمنع تكرار الصدفة على المدى الطويل سبب للإيمان بالمبدأ والتسليم به على أساس أنه علم عقلي من النوع الذي تحتاج فيه القضايا إلى توسط حد يربط بين محمولاتها وموضوعاتها. فإذا كان عدم تكرار وقوع الصدفة ناشئ من عدم وجود السبب الكافي، فهذا يعني إن المبدأ الارسطي ليس علماً عقلياً لأن العلم بعدم تكرار وقوع الصدفة غير مرتبط بفكرة مسبقة عن السبب، فكما أننا لا نعلم بأسباب الصداع لكننا نعلم بأنه لن يقترن صدفة بشرب اللبن في جميع الحالات التي تجري عليها التجربة. ( الإعتراض الرابع )
يمكن لنا أن نستنتج مما سبق النقاط الهامة التالية:
- أن العلم الإجمالي علم محدد في الواقع لكنه غير محدد في علمنا.
- الإطلاع على الواقع هو الذي يحول علمنا الإجمالي المردد إلى علم يطابق الواقع و يعكس تفاصيله كاملة.
- إن الشك في أصل الواقعة المحددة والتي قد يشار إليها بطريقة غامضة مما يخلق لدينا علم إجمالي يقوم على أساس الإشتباه قد يكون سبباً لزوال العلم الإجمالي كالشك في أصل رسوب الطالب كما في المثال السابق يؤدي إلى زوال العلم الإجمالي.
- لا نملك في الواقع صدفة محددة تكون النواة لعلم إجمالي والشك فيها يؤدي إلى زوال العلم الإجمالي.
- إن الصدف النسبية المتماثلة ليس بينها تمانع ذاتي يبرر لعدم ظهورها في التجارب على المدى الطويل.
- المنطق الأرسطي لا يستطيع أن يفسر على أساس طريقته في تبرير الإستقراء كيف يتأثر إعتقادنا بسببية (أ) لـ (ب) بدرجة إحتمال ي ( ي تمثل أي سبب آخر غير أ في وجود ب ).
- المبدأ الأرسطي ليس علماً عقلياً قبلياً لأنه لا يعبر عن ضرورة ذاتية أو عرضية بين تكرار التجربة وعدم تكرار الصدفة النسبية فيها.