الذكاء الإصطناعي… ماهو؟ – ترجمة* عبد الله سلمان العوامي

في سبتمبر من عام ١٩٥٥م، إقترح وبجرأة السيد جون مكارثي، الأستاذ المساعد الشاب في علوم الرياضيات في كلية دارتموث Dartmouth College، حيث قال: “إنه من حيث المبدأ، كل جانب من جوانب التعلم أو أي ميزة أخرى من الذكاء يمكن وصفها بدقة وثم من الممكن صنع آلة من أجل محاكاتها.”

أطلق السيد مكارثي على هذا الحقل الجديد من الدراسة تحت إسم “الذكاء الإصطناعي”، واقترح أن يبذل جهدا ولمدة شهرين من قبل مجموعة من عشرة علماء لتحقيق تقدمًا كبيرًا في تطوير آلات يمكنها “إستخدام اللغة، وتشكيل المفاهيم والأفكار المجردة، وتوفير حلول لأنواع المشاكل الموكلة حصريا للبشر، وتحسين أنفسهم “.

في ذلك الوقت، إعتقد العلماء بتفاؤل أننا سنصبح قادرين قريبًا على إمتلاك أجهزة أو آلات تفكير يمكنها بالقيام بأي عمل يقوم به الإنسان. الآن، وبعد أكثر من ستة عقود، ساعدتنا التطورات في علوم الكمبيوتر والروبوتات في أئتمة (مكننة) العديد من المهام التي كانت تتطلب في السابق العمل البدني والمعرفي للبشر.

لكن الذكاء الإصطناعي الحقيقي، كما تصوره السيد مكارثي، لا يزال بعيد المنال.

ما هو بالضبط الذكاء الصناعي؟

التحدي الكبير مع الذكاء الإصطناعي هو أنه مصطلح واسع، وليس هناك إتفاق واضح على تعريفه.

كما تم ذكره سابقا، إقترح السيد مكارثي أن يقوم الذكاء الإصطناعي بوضع حلول للمشاكل بالطريقة التي يضعها البشر، حيث قال: “إن الجهد النهائي هو جعل برامج الكمبيوتر قادرة على حل المشاكل وتحقيق الأهداف في العالم كما يتمكن البشر من ذلك”.

كما قدم السيد أندرو مور، عميد علوم الكمبيوتر بجامعة كارنيجي ميلون، تعريفا أكثر حداثة لهذا المصطلح في مقابلة مع مجلة فوربس عام ٢٠١٧م حيث قال: “الذكاء الإصطناعي هو علم وهندسة تصنيع أجهزة كمبيوتر قادرة للتصرف بطرق كانت، حتى وقت قريب، نعتقد أنها تتطلب ذكاء بشريا.”

لكن فهمنا “للذكاء البشري” وتوقعاتنا للتكنولوجيا تتطور باستمرار. يصف السيد زاخاري ليبتون، محرر مجلة صحيح تقريبا (Approximately Correct)، مصطلح الذكاء الصناعي بأنه “طموح، وهو هدف متحرك يعتمد على تلك القدرات التي يمتلكها البشر ولكن لا تمتلكها الأجهزة (الآلات)”. بمعنى آخر، الأشياء التي نطلبها من الذكاء الإصطناعي والتي تتغير بمرور الوقت.

على سبيل المثال، في الخمسينيات، نظر العلماء إلى الشطرنج الأمريكي والبريطاني على أنها تحديات كبيرة للذكاء الإصطناعي. ولكن اليوم، قلة قليلة من الناس قد يعتبرون أجهزة لعب الشطرنج هي أجهزة ذكاء إصطناعي. أجهزة الكمبيوتر تعدت هذه المرحلة وهي حاليا تعالج بالفعل مشكلات أكثر تعقيدًا، بما في ذلك إكتشاف السرطان وقيادة السيارات ومعالجة الأوامر الصوتية.

الذكاء الاصطناعي الضيق (المحدود) مقابل الذكاء الإصطناعي العام (القوي)

إعتقد الجيل الأول من علماء ومفكري الذكاء الإصطناعي أننا سنكون قادرين في النهاية على خلق ذكاء على مستوى الإنسان.

ولكن أظهرت عدة عقود من أبحاث في الذكاء الإصطناعي أن تكرار حل المشاكل المعقدة والتفكير المجرد للعقل البشري أمر صعب للغاية. لسبب واحد بسيط، حيث أننا نحن البشر نمتلك إمكانيات جيدة جدا في تعميم المعرفة وتطبيق المفاهيم التي نتعلمها في مجال واحد إلى مجال آخر. ويمكننا أيضا إتخاذ قرارات موثوقة نسبيا على أساس الحدس ومع القليل من المعلومات. على مر السنين، أصبح الذكاء الإصطناعي على مستوى الإنسان يعرف باسم الذكاء العام الإصطناعي أو الذكاء الإصطناعي القوي.

لفتت الضجة والإثارة الأولية المحيطة بالذكاء الإصطناعي الإهتمام وأيضا التمويل من الوكالات الحكومية والشركات الكبيرة. ولكن سرعان ما أصبح واضحا أنه على عكس التصورات المبكرة، لم يكن الذكاء الإصطناعي على المستوى قاب قوسين أو أدنى من التحقيق، وكان العلماء تحت ضغوط شديدة لإعادة إنتاج أكثر الوظائف الأساسية للعقل البشري.  في السبعينيات، أدت الوعود الغير محققة والتوقعات في نهاية المطاف إلى “شتاء الذكاء الإصطناعي”، وهي فترة طويلة تضاءلت خلالها وهج الإهتمام العام وانخفاض التمويل في الذكاء الإصطناعي.

إستغرق الأمر سنوات عديدة من الإبتكار والثورة في تكنولوجيا التعلم العميق من أجل إحياء الإهتمام في الذكاء الإصطناعي. ولكن حتى الآن، وعلى الرغم من التقدم الهائل في الذكاء الإصطناعي، لا يمكن لأي من الأساليب والمطروحة حاليا في الذكاء الإصطناعي أن تحل المشكلات بالطريقة نفسها التي يعمل بها العقل البشري، ويعتقد معظم الخبراء أن الذكاء الإصطناعي العام (القوي) لا يزال على بعد عقود على الأقل.

لا يهدف الجانب الضيق (المحدود)، أو الضعيف للذكاء الإصطناعي إلى إعادة إنتاج وظائف الدماغ البشري، وبدلاً من ذلك فانه يركز على تحسين القدرة في إنجاز مهمة واحدة. الذكاء الإصطناعي الضيق (المحدود) أسس بالفعل العديد من التطبيقات في العالم الحقيقي، مثل التعرف على الوجوه، وتحويل الصوت إلى نص، والتوصية بمقاطع الفيديو على اليوتيوب YouTube، وعرض المحتوى الشخصي الخاص بالأخبار في صفحات الفيس بوك.

يعتقد العديد من العلماء أننا سنصل في النهاية الى مرحلة الذكاء الإصطناعي العام (القوي)، ولكن لدى البعض رؤية مختلفة وخائفة وأيضا متشائمة من عصر آلات التفكير. في عام ٢٠١٤م، وصف عالم الفيزياء الإنجليزي الشهير ستيفن هوكينج الذكاء الإصطناعي بأنه تهديد وجودي للبشرية، محذرا من أن “الذكاء الإصطناعي الكامل يمكن أن يحدد نهاية الجنس البشري”.

في عام ٢٠١٥م، شارك رئيس شركة واي كومباينتور Y Combinator السيد سام التمان والرئيس التنفيذي لشركة تيسلا Tesla السيد ايلون ماسك، بالإضافة الى إثنان من المؤمنين بتقنيات الذكاء الإصطناعي العام (القوي)، في تأسيس مختبر أبحاث غير ربحي تحت إسم الذكاء الإصطناعي المفتوح OpenAI، وهو مختبر يهدف إلى خلق ذكاء إصطناعي عام (قوي) بطريقة تعود بالنفع على البشرية جمعاء. (وللتوثيق فإن السيد ايلون ماسك ترك المختبر منذ ذلك الحين).

يعتقد آخرون أن الذكاء العام الإصطناعي (القوي) هو هدف لا طائل منه. يقول السيد بيتر نورفيج، مدير الأبحاث في شركة جوجل: “لا نحتاج إلى تكرار البشر. لهذا السبب، أنا شخصيا أركز على إمتلاك الأدوات اللازمة لمساعدتنا بدلاً من تكرار ما نعرفه وكيف نفعله. نريد أن يتعاون البشر والآلات وأن يفعلوا شيئًا لا يمكنهم القيام به بمفردهم”..

يعتقد العلماء مثل السيد بيتر نورفج أن الذكاء الإصطناعي الضيق (المحدود) يمكن أن يساعد في أئتمة (مكننة) المهام المتكررة والشاقة ومساعدة البشر على أن يصبحوا أكثر إنتاجية. على سبيل المثال، يمكن للأطباء إستخدام خوارزميات الذكاء الإصطناعي لفحص الأشعة السينية بسرعة عالية، مما يتيح لهم رؤية المزيد من المرضى. مثال آخر على الذكاء الإصطناعي الضيق (المحدود) هو محاربة التهديدات السيبرانية: يمكن لمحللي أنظمة الأمن إستخدام الذكاء الإصطناعي للعثور على إشارات خروقات البيانات في العديد من الغيغابايت من البيانات التي يتم نقلها عبر شبكات شركاتهم.

الذكاء الإصطناعي المقنن (المستند على القواعد) مقابل التعلم الآلي

ركزت الجهود المبكرة لإنشاء الذكاء الإصطناعي على تحويل المعرفة والذكاء البشريين إلى قواعد وقوانين ثابتة. كان على المبرمجين كتابة التعليمات البرمجية (عبارات إذا-ثم if-then) بدقة متناهية لكل قاعدة أو قانون تحدد سلوك الذكاء الإصطناعي. إن ميزة الذكاء الإصطناعي المقنن (المستند على القواعد)، والتي أصبحت تعرف فيما بعد باسم “الذكاء الإصطناعي القديم الطراز” هي أن العقول البشرية لديها السيطرة الكاملة والتحكم العام في تصميم وسلوك النظام الذي يطورونه.

لا يزال الذكاء الإصطناعي المقنن (المستند على القواعد والقوانين) شائعًا جدًا في الإستخدام وخاصة في الحقول التي تكون فيها القواعد واضحة. ومن الأمثلة على ذلك برمجيات ألعاب الفيديو، حيث يريد المطورون من الذكاء الإصطناعي تقديم تجربة يمكن التنبؤ بها لكل مستخدم.

مشكلة الذكاء الإصطناعي القديم الطراز هي أنه على عكس الفرضية الأولية للسيد مكارثي، لا يمكننا أن نصف بدقة كل جانب من جوانب التعلم والسلوك بطرق يمكن تحويلها إلى قواعد حاسوبية. على سبيل المثال، يعتبر تحديد القواعد المنطقية للتعرف على الأصوات والصور – إنجازًا معقدًا يمكن للبشر إنجازه غريزيًا – هو أحد المجالات التي عانى منها الذكاء الإصطناعي عبر السنين.

نهج بديل لخلق وإنشاء الذكاء الإصطناعي هو التعلم الآلي. بدلاً من وضع قواعد وقوانين للذكاء الإصطناعي يدويًا، يقوم مهندسو التعلم الآلي “بتدريب” نماذجهم الآلية من خلال تزويدهم بعدد هائل من العينات. تقوم بعدها خوارزمية التعلم الآلي بتحليل وإيجاد أنماط في بيانات التدريب، ثم تطور سلوكها والخاص بها. على سبيل المثال، يمكن تدريب نموذج تعلم آلة على كميات كبيرة من بيانات المبيعات لفترات زمنية طويلة لشركة ما ثم يقوم هذا النموذج بإنتاج توقعات للمبيعات.

أصبح التعلم العميق، وهو مجموعة فرعية من التعلم الآلي، شائعًا للغاية ومستخدما بكثرة في السنوات القليلة الماضية. إن هذه التقنية أثبتت فعاليتها بشكل خاص في معالجة البيانات غير المهيكلة مثل الصور ومقاطع الفيديو وملفات الصوت والمستندات النصية. على سبيل المثال، يمكنك إنشاء برمجيات للتعلم العميق لمصنف صور وتدريبه على ملايين الصور المعنونة والمتوفرة، مثل مجموعة بيانات (شبكة الصور ImageNet). نموذج الذكاء الإصطناعي المدرَّب سيكون قادرًا على التعرف على الأشياء في الصور بدقة تتجاوز غالبا العقل البشري. دفعت التطورات في تطبيقات التعلم العميق للذكاء الإصطناعي إلى العديد من المجالات المعقدة والحرجة، مثل الطب والسيارات ذاتية القيادة والتعليم.

أحد التحديات التي تواجه نماذج التعلم العميق هي أنها تطور سلوكياتها الخاصة بناءً على بيانات التدريب، مما يجعلها معقدة وغير شفافة. غالبًا ما يجد خبراء التعلم العميق صعوبة في شرح القرارات والأعمال الداخلية لنماذج الذكاء الإصطناعي التي يقومون بإنشائها.

ما هي أمثلة الذكاء الإصطناعي؟

فيما يلي بعض الطرق التي إستطاع الذكاء الإصطناعي إنجازها وأحدثت تغييرات هائلة في مجالات مختلفة.

السيارات ذاتية القيادة: إن التقدم في برمجيات وتقنيات الذكاء الإصطناعي ساعدنا في الوصول قريبًا جدًا من حلم قديم ومنذ عقود في تحقيق القيادة الذاتية لكي يصبح واقعا. تعد خوارزميات الذكاء الإصطناعي أحد المكونات الرئيسية التي تمكن السيارات ذاتية القيادة من فهم محيطها، حيث تتغذى من معلومات الكاميرات المثبتة حول المركبة وتستشعر الأشياء مثل الطرق وعلامات المرور وغيرها من السيارات والأشخاص.

المساعدون الرقميون والسماعات الذكية: تستخدم سيري من شركة أبل Siri واليكسا من شركة أمازون Alexa وكورتانا من شركة مايكروسوفت Cortana ومساعد جوجل Google Assistant الذكاء الإصطناعي لتحويل الكلمات المنطوقة إلى نص وتعيين النص إلى أوامر محددة. يساعد الذكاء الإصطناعي هؤلاء المساعدين الرقميين على فهم الفروق الدقيقة والمختلفة في اللغة المنطوقة وتوليف الأصوات التي تشبه الإنسان.

الترجمة: لعقود عديدة، كانت ترجمة النص بين لغات مختلفة نقطة مؤلمة لأجهزة الكمبيوتر. لكن التعلم العميق ساعد في إحداث ثورة في هكذا خدمات مثل الترجمة من شركة جوجل Google. لكي نكون واضحين، لا يزال أمام الذكاء الإصطناعي طريق طويل قبل أن يتقن اللغة البشرية، ولكن حتى الآن، فإن التطورات في هذا المجال تعتبر مذهلة.

التعرف على الوجه: يعد التعرف على الوجه أحد أكثر تطبيقات الذكاء الإصطناعي شيوعًا. له العديد من الإستخدامات، بما في ذلك فتح هاتفك، ودفع المال، واكتشاف المتسللين في منزلك. لكن هذه الوفرة المتزايدة من تطبيقات تكنولوجيا التعرف على الوجه قد أثار أيضًا مخاوف بشأن الخصوصية والأمن والحريات المدنية.

الطب: من التعرف عن سرطان الجلد، وتحليل الأشعة السينية، والتصوير بالرنين المغناطيسي، إلى تقديم نصائح صحية شخصية، وإدارة أنظمة الرعاية الصحية بأكملها، أصبح الذكاء الإصطناعي عامل تمكين رئيسي في الرعاية الصحية والطب. لن يحل الذكاء الإصطناعي محل طبيبك، لكن يمكن أن يساعد ذلك على توفير خدمات صحية أفضل، خاصة في المناطق المحرومة، حيث يمكن للمساعدين الصحيين المستندين على تقنيات الذكاء الإصطناعي تحمل بعض العبء من أكتاف الممارسين العامين القلائل الذين يتعين عليهم خدمة أعداد كبيرة من السكان.

مستقبل الذكاء الاصطناعي

في سعينا لفك كود الذكاء الإصطناعي وإنشاء آلات التفكير، تعلمنا الكثير عن معنى الذكاء والمنطق. وبفضل التقدم في الذكاء الإصطناعي، فإننا ننجز المهام تلو المهام إلى جانب أجهزة الكمبيوتر الخاصة بنا التي كانت تعتبر ذات يوم المجال الحصري للعقل البشري.

تشمل بعض المجالات الناشئة التي حقق فيها الذكاء الإصطناعي نجاحًا ملموسا هي تلك التي في الموسيقى والفنون، حيث تُبرز خوارزميات الذكاء الإصطناعي نوعًا فريدًا من الإبداع. هناك أيضًا أمل في أن يساعد الذكاء الإصطناعي في مكافحة تغير المناخ، ورعاية المسنين، وفي النهاية خلق مستقبل طوباوي (مجتمع المدينة الفاضلة) حيث لا يحتاج البشر إلى العمل على الإطلاق.

هناك أيضًا خوف من أن يؤدي الذكاء الإصطناعي إلى بطالة جماعية، ويعطل التوازن الإقتصادي، ويؤدي إلى حرب عالمية أخرى، ويدفع البشر في النهاية إلى العبودية.

ما زلنا لا نعرف الإتجاه الذي سيتخذه الذكاء الإصطناعي. ولكن مع استمرار تحسين علم وتقنيات الذكاء الإصطناعي بوتيرة ثابتة، فإن توقعاتنا وتعريفاتنا للذكاء الإصطناعي سوف تتغير، وما قد نعتبره ونعرفه اليوم من ذكاء إصطناعي قد يصبح وظائف بسيطة ومتدنية لأجهزة كمبيوتر الغد.

* تمت الترجمة بتصرف

المصدر:

بقلم: بن ديكسون، وبتاريخ ٣ مايو ٢٠١٩م
مجلة الحاسب الشخصي حسب الرابط أدناه
https://www.pcmag.com/news/368001/what-is-artificial-intelligence-ai

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *