يتحرك الفكر البشري في المسار الذي ينتهي به إلى المعرفة اليقينية ، ومالم يصل الإنسان إلى اليقين فإن نفسه لن تطمئن أبدا وسيملئها القلق والخوف والشك والرغبة العميقة في البحث والتنقيب حتى الوصول إلى اليقين. اليقين إذن هو خاتمة طريق حركة الإنسان الفكرية والهدف النهائي الذي تنشده كافة المعارف البشرية. ويمارس الفكر البشري نوعين رئيسين من الإستدلال أحدهما الإستنباط والآخر الإستقراء.
والإستنباط في المنطق الأرسطي هو المنطق الوحيد الذي يقود إلى نتائج قطعية ويقينية. ولقد إنقلب السيد الشهيد محمد باقر الصدر على هذا المفهوم الأرسطي وهو المفهوم السائد في الفكر الفلسفي بنظرية جديدة سطرها في كتابه العظيم الأسس المنطقية للإستقراء. ولما كانت العلوم التجريبية تستند في إستدلالاتها على إستقراء الحوادث الجزئية المحدودة للخروج في نهاية المطاف بتعميمات لكل الحالات الغير مشمولة بالإستقراء فإن العلوم التي هي حجر الأساس في بناء الحضارة الحديثة ترتكز على منهجية غير قطعية وغير يقينية. لقد كانت دراسة السيد الشهيد محاولة تستهدف سد الثغرة الموجودة في الدليل الإستقرائي وهي مشكلة التعميم والقفز من الجزئي الخاص إلى الكلي العام حيث فسرت الدليل الإستقرائي بوصفه تطبيقاً صرفا لنظرية الإحتمال وهي تقوم بذلك في مرحلتين الأولى دراسة الدليل الإستقرائي في مرحلة التوالد الموضوعي والثانية دراسته في مرحلة التوالد الذاتي حيث يصعد الإحتمال في هذه المرحلة إلى درجة اليقين فيتخلص الإستقراء من مشكلته المنطقية ويكون قطعياً يقينياً. ولكي نستوضح الفكرة التي بنى عليها السيد الشهيد نظريته دعونا نوضح الفرق بين المنهج العقلي الإستنباطي في البحث والمنهج التجريبي المرتكز على الإستقراء.
يعتمد المنهج التجريبي على الإستقراء الذي هو أحد أنماط الإستدلال الذي يمارسه الفكر البشري في تشييد قواعده ونظرياته. و نريد بالإستقراء هو كل إستدلال يقفز فيه العالم من فحص وقائع جزئية إلى مبدأ عام يطال كافة الوقائع المشابه والتي لم يتم فحصها مخبرياً. الإستقراء يمثل حركة صاعدة تبدأ من الخاص الجزئي و تنتهي بالعام الكلي. وتأتي النتيجة المستخلصة بهذا النوع من الإستدلال أكبر من مقدماتها. فمثلاً عندما يريد العالم الطبيعي أن يدرس ظاهرة تمدد الحديد بالحرارة ، يقوم بتعريض عدد من قطع الحديد للحرارة فإذا لاحظ أن كل قطع الحديد التي عرضها للحرارة قد تمددت فإن العالم يقوم بتعميم نتائجه لتشمل كافة قطع الحديد ، لتصبح القاعدة هو أن كل حديد عند تعرضه للحرارة يتمدد. وهنا نلاحظ أن النتيجة جاءت عامة وشاملة لكل قطع الحديد والتي لم تجرى التجارب المخبرية عليها وأنها -أي النتيجة- غير مستنبطة في المقدمات، لأنه لا يوجد في العدد المحدود من الحديد الذي يمثل مقدمات الدليل هذا المعنى الشمولي الذي جاءت به النتيجة. وبالتالي تكون النتيجة دائماً في هذا النمط من الإستدلال أكبر من مقدماتها لأنها اكتسبت صفة العموم والإطلاق. ومن المهم أن نوضح أن الدليل الإستقرائي لا يمكن تبرير نتائجه على أساس عدم التناقض، فإذا جاءت النتيجة كاذبة والمقدمات صادقة فإن ذلك لا يستبطن تناقضاً منطقياً لأن النتيجة غير محتواة في المقدمات. فمثلاً لو أن مجموعة قطع الحديد التي تم فحصها تمددت جميعها بالحرارة ولكن جاء التعميم الإستقرائي على النحو التالي: ليس كل حديد يتمدد بالحرارة فإننا حينئذ لا نقع في تناقض لأن هذه النتيجة الكاذبة ليست أقل أو مساوية لعدد الشواهد التجريبية – المقدمات – حتى يستبطن ذلك تناقضاً منطقياً. وهذا الشكل من الدليل الإستقرائي الذي يدرس عدد محدود من الحالات الجزئية الخاصة ليشيد في النهاية قاعدة عامة تشمل كل الحالات يسمى بالدليل الإستقرائي الناقص.
إن الإستقراء بذاته عبارة عن جمع عددي لحوادث تجريبية منفصلة ومستقلة وبالتالي فإنه لا يكفي لإنتاج معرفة عامة ، بل لا بد من رباط عقلي قبلي خارجي على التجربة يوحد هذه الحوادث التجريبية المنفصلة فنتمكن على ضوء هذا الرباط من صنع معرفة جديدة. نقول هذا على ضوء المذهب العقلي في نظرية المعرفة ولكن على أساس المذهب الذاتي الذي وضع أسسه السيد الشهيد في كتابه الأسس المنطقية للإستقراء والذي يعتبر الدليل الإستقرائي تطبيقاً بحتاً لنظرية الإحتمال لا يرى في الدليل الإستقرائي حاجة إلى الكبرى العقلية كما في نظر المنطق الأرسطي والذي تبناه فلاسفة الإسلام من مشائين وإشرافيين.
إن العالم الطبيعي عندما يقوم بتعميم النتائج لكل الحالات التي لم تقع تحت طائل التجربة فهو يقوم بتطبيق قوانين أخرى غير مستوحاة من التجربة وخارجة عنها وهي القوانين العقلية البديهية. إن العالم الطبيعي يدرك بشكل تلقائي فطري أن هناك تناسب بين الأسباب والنتائج ، فالأشياء المتفقة في حقيقتها تتفق أيضا في الأسباب والنتائج. ففي المثال السابق ، قطع الحديد تكون متفقة الحقيقة ، وبالتالي فإن النتائج التي نحصل عليها ستكون متشابه عندما نجري التجارب ذاتها وفي الظروف ذاتها لكل قطع الحديد التي بحوزتنا. ومن معرفتنا أن هذه المجموعة من قطع الحديد تتمدد عند تعريضها للحرارة نقوم بتعميم النتيجة لكل قطع الحديد الموجودة في الكون وذلك بتطبيق المبدأ العقلي القبلي الذي يلزم منه تشابه النتائج عند تشابه الأسباب. ولو كانت التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة لما تمكنا من أن نتوصل إلى حقيقة أبدا. بات من الواضح أن التجربة تحتاج إلى قوانين خارجة عنها نستطيع بواسطتها أن نفهم الظواهر التي يزخر بها عالم الطبيعة وأن نبني النظريات العلمية في مختلف ميادين التجربة و المشاهدة.
وهناك نمط آخر من الإستدلال يكون إتجاه السير فيه نزولياً من العام إلى الخاص وتأتي النتائج المستندة على هذا النوع من الإستدلال يقينية لأن النتائج تكون محتواة في المقدمات ، لأنها دائماً أقل من المقدمات. فإذا كانت مقدمات الدليل قطعية فإن النتائج تكون قطعية أيضا. وعلى هذا يمكن تبرير نتائج هذا النوع من الإستدلال على أساس مبدأ عدم التناقض. فإذا كانت المقدمات صادقة – مثلاً – فمن الضروري أن تكون النتائج صادقة أيضاً ولو كانت غير ذلك – كاذبة – لأستبطن ذلك تناقضاً منطقياً. وبهذا يكون الدليل الإستقرائي الناقص الذي يستخدمه العالم في مختبره يستبطن دليلاً قياسياً مستنداً إلى معارف أولية ليست بنفسها أحد المعارف التي تنبثق عن التجربة ، بل أن الدليل الإستقرائي بشكليه الناقص والتام يحتاج إلى هذه المعارف الأولية على الدوام. هذا هو الإتجاه السائد في المذهب العقلي في نظرية المعرفة وخاصة في تفسير الدليل الإستقرائي.
فعلى ضوء المذهب العقلي، فإن الدليل الإستقرائي بمعزل عن القوانين العقلية القبلية يعاني من عدة مشاكل يفقد معها قيمته العلمية. إن ما يمكن للإستقراء العلمي أن يكشفه من مجموعة من الشواهد التجريبية هو أن هناك إقتران بين ظاهرتين كظاهرة الحرارة وظاهرة التمدد، لكنه يعجز عن إثبات الرابطة السببية بين الظاهرتين كما أنه لا يثبت أن هذا التمدد يحدث نتيجة لسبب خاص وهو الحرارة ، كل ما يستطيع الدليل الإستقرائي أن يدلنا عليه هو هذا الإقتران المتزامن فقط ولكن السببية الخاصة للتمدد لا يستطيع أن يصل إليها بواسطة التجربة نفسها ، وإذا كان الأمر كذلك فمن الجائز أيضاً أن لا يحدث تمدد عند التعريض للحرارة ما دام هذا الدليل لا يكشف عن السبب الخاص وراء هذا الإقتران المشاهد في التجربة. إذاً الدليل الإستقرائي يعجز عن إثبات السببية والسببية الخاصة وراء ظواهر الإقتران التي تدلنا عليها التجربة وهو لذلك دليل غير قائم بنفسه بل يحتاج إلى القوانين العقلية الغنية التي تساعده في دمج نتائج التجارب وربطها في مركب واحد يعكس حقيقة من حقائق الكون. وحتى لو إفترضنا أن الدليل الإستقرائي إستطاع أن يكشف عن السبب الخاص لكل نتيجة يتوصل إليها فهل يستطيع أن يضمن إستمرار هذه العلاقة السببية بينهما في المستقبل. الدليل الإستقرائي على سبيل الفرض يستطيع أن يعين السبب وراء ظاهرة التمدد و يعزوها إلى الحرارة ولكن هل يستطيع أن يؤكد لنا أن هذا السبب سيعطي النتيجة نفسها في الوقت الذي لا نجري فيه التجربة. هذه أصعب المشاكل التي تواجه من ينكر البداهة العقلية ويرى في التجربة المصدر الوحيد للمعرفة.