يذكرنا ظهور وسقوط الحضارات بأن لا شيء يدوم إلى الأبد، حتى الحضارة المعاصرة التي نعيشها الان. فكما تبحر السفن في بحار متقلبة، كذلك المجتمعات البشرية تظل عرضة لتقلبات الزمن غير المتوقعة، تاركة وراءها إرثًا من الانتصارات والمآسي. نحن جميعًا، كمسافرين في هذه الرحلة المشتركة، نحمل آمالا ومخاوفا وطموحات.
لكن ما الذي يميز بناة الحضارات عن مدمريها؟ أليس هو القدرة على بناء سفن تصمد أمام تحديات الرحلة، بدلًا من الاستسلام للقوى التي تسعى لإغراقها؟
تمثل فكرة السفينة او الفلك الوسيلة التي تحملنا عبر رحلة الحياة، بكل تحدياتها وغموضها. وكما تحتاج السفينة إلى قبطان ماهر وطاقم كفؤ لإبحارها عبر المياه العاتية، فإن الحضارة تحتاج إلى قادة وجهود جماعية لبناء أساس متين قادر على الصمود أمام المصاعب والعقبات.
إن قصة سفينة نوح (عليه السلام) رمز قوي للخلاص. ففي عالم بدا عازمًا على تدمير نفسه، وقف نوح شامخًا، يبني سفينة تنقذ البشرية من الطوفان العظيم. كانت رحلته مليئة بالعزلة، وسط عاصفة من الشكوك والمعارضة، لكنه ظل مؤمنًا، صبورًا ومثابرًا، مدفوعًا برؤية لمستقبل أفضل للجميع.
عندما نتأمل في نمو الحضارات وانحدارها، ندرك أن العوامل التي أدت إلى انهيارها غالبًا ما تكون هي ذاتها التي تهدد عالمنا اليوم. فبغض النظر عن التقدم التكنولوجي، فإن تآكل القيم الاجتماعية والثقافية والروحية والأخلاقية قد تكون له عواقب كارثية، تاركًا خلفه آثارًا من الدمار واليأس. ولكن في هذه اللحظات بالذات، نحن مطالبون ببناء سفينة الخلاص الخاصة بنا.
إن بناة الحضارات ليسوا مجرد أفراد، بل هم ثمرة جهد جماعي من مختلف الفئات. يجتمعون رغم اختلافاتهم لبناء مستقبل أفضل للجميع. إنهم بناة عالم جديد، حيث تكون مبادئ التضامن والمسؤولية المشتركة والتسامح والاندماج والتعاون بمثابة الأنوار التي تضيء الطريق إلى الأمام. إنهم أولئك الذين يدركون أن عالمنا بلا حدود هو في الحقيقة “سفينة”، رمز لإنسانيتنا المشتركة، وأن أمنها واستقرارها يعتمدان على جهود كل من هم على متنها.
إن قصة السفينة هي قصتنا جميعًا. فبناة الحضارات هم كل فرد منا يقاتل ضد رياح الشر والأنانية والجشع. ومع ذلك، من الضروري وجود القبطان “نوح”، ليس فقط لبناء السفينة، ولكن لقيادتها في النهاية إلى الوجهة الأكثر أمانًا، حيث تتوحد البشرية في سعيها النبيل.
يبدو أن العالم يترقب طوفانًا وشيكًا، وبداية رحلة بالغة الصعوبة. إن مصير حضارتنا يعتمد بشكل كبير على نوح والبُناة.
وبما أنك قد تكون أحد البُناة، يبقى السؤال قائمًا: إذا كانت السفينة هي عالمنا، فمن هو نوح اليوم؟

*المهندس سعيد ال مبارك – مهندس بترول ومستشار في الحقول الذكية و التحول الرقمي ورئيس سابق لقسم الطاقة الرقمية بجمعية مهندسي البترول العالمية ، فاز بجائزة جمعية مهندسي البترول للخدمة المتميزة وجوائز أخرى إقليمية وعالمية. محاضر متميز وكاتب لمقالات متعددة في مجال الطاقة والتحول الرقمي ومقالات فكرية. مؤلف كتاب “أي نسخة من التاريخ ليست إلاّ رواية”.
رابط المقال الأصل باللغة الإنجليزية:
https://www.linkedin.com/feed/update/urn:li:activity:7311469634417831936/
جميل
أجدت كثيرا أبا أحمد.
لغة رصينة وأفكار متماسكة ومتكاملة تحرك العقل والوجدان.