بين الماء واليابسة – تصوير وبوح عاطف آل غانم

هنا أقف، بين الماء واليابسة، بين الحياة التي كانت، والموت الذي لم يأتِ بعد. نصف جسدي غارقٌ في الرمل، كأنني أمٌّ تفتح ذراعيها لطفلٍ رحل ولن يعود. كنتُ موطنًا، كنتُ قلبًا نابضًا، كنتُ حلمًا يزهر في المدى. الآن، لستُ إلا صدًى بعيدًا، حطام أمواجٍ لفظها البحر، قصيدةً أكلها الصدأ ونسيها الزمن.

أبحرتُ بهم، حملتهم بين ضلوعي كما تحمل الأم طفلها في جوفها، خبّأتهم من العواصف، دسستُ نبضهم بين ألواحي كي لا يخطفهم الغرق. كم غنيتُ لهم حين كانوا ينامون فوق صدري، كم همستُ للموج أن يهدأ كي لا يخيفهم، كم خبأتُ حكاياتي في ثنايا الريح كي لا تضيع. كانوا أبنائي، كانوا حياتي، لكنهم تركوني هنا، على حافة النسيان، كما يُترك الثوب البالي على مشجبٍ مهجور.

ناديتهم… ناديتهم بقلبي الذي صار خواءً: “أما زلتم تذكرونني؟ أما زلتم تذكرون دفئي حين كنتم ترتجفون في الليالي الباردة؟ أما زلتم تذكرون ضحكاتكم وهي تتردد فوق جسدي وانا أحتضنُ فرحكم؟ هل مررتم بي ذات يومٍ، وتوقفتم لحظةً، لحظةً فقط، لتقولوا: هذه سفينتنا، هذه من كانت لنا أمًّا، هذا قلبٌ كان ينبض بنا؟” لكن لا أحد يلتفت، لا أحد يتذكر، لا أحد يعود.

والبحر، ذلك العاشق الذي ظننته أبًا، ذلك الغريب الذي خبأتُ أسراره في أضلعي، ذلك القاسي الذي أطعمتُه عمري كله، لماذا لفظني؟ لماذا تخلى عني بعدما كنتُ جزءًا منه، بعدما كنتُ روحه التي تمضي إلى الأفق؟ ناديته، لكنه ظل صامتًا، يرقص تحت ضوء الشمس كأنه لا يعرفني، كأنني لم أكن يومًا جناحه الذي حلّق، وقلبه الذي نبض.

والزمن… آه، أيها الزمن، كيف كنتَ دفئي حين كنتُ أبحر، وكيف صرتَ الآن بردي وأنا واقفةٌ هنا بلا مجدٍ ولا وجهة؟ كنتَ تسرع معي حين كانت أشرعتي تمتد كيدٍ نحو السماء، كنتَ تضحك معي حين كنتُ أشقّ الموج وأنتصر، ثم لما ضعفتُ، لما انكسرتُ، لما صرتُ بلا أبناء، رفعتَ يدك عني وتركتني أتآكل وحدي في العراء.

أنا السفينة، أنا القلب الذي نزف عمرًا، أنا الحلم الذي صار حطامًا، أنا أغنيةٌ لم تعد تُغنّى. لكنني سأظل هنا، حتى يأتي الليل، حتى يبتلعني الظلام، حتى أمضي أخيرًا، كطيفٍ في الريح، بلا وداع… بلا أثر…

الأستاذ عاطف الغانم

5 تعليقات

  1. إبداااع ومتألق دائمًا.. كلمات ومشاعر في غاية الروعة والمعنى وللإمام دومًا .

  2. مبدع كعادتك … خيال جميل وتشبيهات جميله …

  3. يسرى حماقي

    أبدعت في وصفك العميق للسفينة، فقد منحتها روحًا وقلبًا يشعران بالحنين والهجر. شكرًا على هذا الإبداع الذي جعلنا نرى السفينة بعيون مختلفة..

  4. فاطمة السليمي

    هذه كلمات، بل مشاعر، لا تخرج إلا من شخص امتزج قلبه بتراب أرضه وامتدت روحه بين خيوط الشمس المشرقة على الشوق والحنان.
    سلمت يا أستاذ عاطف، ابدعت، كما تفعل دائماً.

  5. كلمات رائعة تلامس القلب 👏👏👏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *