عيون البذراني ومصارفها المائية و”مفاقيبها” – بقلم عبد الرسول الغريافي*

هي البذراني وليست البدراني وعرفت بهذا الإسم عند القدماء من سكانها لكونها منطقة لبذر الأرز الأحمر والمعروفة محلياً بالهندية، هكذا كان يروي العديد من كبار السن المعمرين الذين عاصروا أرض البذراني قبل زحف الرمال عليها حين كانت قرى متخصصة في زراعة الهندية – أي الأرز الأحمر- الذي كانت ترويه عيون البذراني المتدفقة في جميع أنحائه والذي يتجاوز عددها الستين عيناً من عيون السيح القديمة ضمن أكثر من أربع مئة عين متوزعة في أنحاء واحة القطيف -حسب توثيقي لها شخصياً ووقوفي على أكثر من ثلاثمائة وسبعين عيناً قد وقفت عليها- ولعل هذا العدد يفوق عدد العيون في أي منطقة من مناطق الخليج العربي.

إن قصة عيون البذراني وساباتها المتدفقة فيها مياهها لقصة أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة فقد لايخطر على بال الكثير أو لا يصدقها إلا من عاصرها وشهد تلك المعالم الآخذة في الأفول أو من تتبع آثارها هذه الأيام وأدرك معنى تلك الآثار!

حين زحفت رمال صحراء الدهناء في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات قرن العشرين على ذلك الشريط الممتد جنوباً من نهاية سيهات الجنوبية حتى شمال صفوى وجاوان وطريق الجبيل وما حوى هذا الشريط من قرى وبساتين ومزارع وعيون متدفقة. لقد عفّت هذه الرمال آثار تلك القرى بما فيها مزارعها إلا من العيون ومصارفها.

لقد انطمرت العديد من قرى البذراني بمزارعها وبساتينها وبيوتها تحت كثبان رمال الدهناء الزاحفة فما كان من الأهالي إلا أن نزحوا إلى الأراضي الشرقية. لقد تركوا بيوتهم بما فيها من ممتلكاتهم ومزارعهم لتلتهمها كثبان رمال الدهناء ولكنهم لم يقفوا مكتوفي الأيدي تجاه عيون تلك المنطقة ولم يتنازلوا عن واحدة منها ولا عن مصارفها وساباتها …

فماذا فعلوا حيال ذلك؟


لقد دشنوا مشروعاً هندسياً هو في غاية الدقة يعجز مهندسو عصرنا هذا عن مدى استيعاب قدراتهم على تنفيذه بإمكانياتهم المتواضعة في ذلك العصر! حين لفتها كثبان الرمال فقد بادروا إلى رفع اسوار تلك العيون إلى عدة أمتار لتصد زحف الرمال وأما جداولها التي تتدفق فيها مياهها فقد وُجّنت يالجص ليتم توحيد عمقها وعرضها ثم بعد ذلك تم تغطيتها بأحجار الفروش البحرية على شكل جملون لكي يقل ضغط الرمال فوقها …

والأغرب من ذلك فقد ثبت على تلك الجداول وعلى أبعاد معينة غرف تفتيش (man hole) اسطوانية الشكل وبنفس ارتفاع الأسوار التي بنيت حول العيون بقطر يسمح للرجل البالغ الدخول فيها وذلك للتنظيف وكذلك لسماح خروج الأبخرة منها ولمنع تصدعات جدران الجداول. وثبتت هذه الغرف بشكل عمودي فوق الجداول ويتصل بها السقف الجملوني في وضعية متعامدة وهذه الغرف التفتيشية تعرف بالمفاقيب (بعد قلب الثاء إلى فاء كما هو متعارف عليه) فهي في الأصل مثاقيب ومفردها مثقاب (مفقاب) فترى وأنت واقف بجانب إحدى العيون صف من المفاقيب متجهة صوب الشرق لكل عين من عيون البذراني.

وأما البذراني الغربي فهو منطقة تقسيم نظام تصريف مياه هذه العيون حيث تتجه ساباتها إلى الغرب فهي لا تصب في البحر وإنما تصب في منخفضات أرضية تشكل أخوارا كبيرة تستقر فيها المياه لدرجة أن البعض يطلق عليه مسمى “البحيرات” ومن أشهرها وأكبرها خوري تويريت الشمالي والجنوبي بقرية الأوجام.

*الأستاذ عبد الرسول الغريافي باحث في التراث ومؤرخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *