يوميات صيدلي – بقلم الصيدلي عبدالله حسين اليوسف*

جرى لقاء عابر مع أحد الكوادر الصحية وكان لقاء سريعًا جدًا، لكنه كان مؤلمًا وأثره كبير فيّ، وأصابني جرح منه. حيث سألت عن حاله في مواجهة فيروس كورونا المستجد (COVID-19).
فقال: لا تسأل عن الحال، فالحال دائمًا منصوب.
قلت له: أخبرني عن عملك.
قال: دعني.
وهنا جرت دمعة مثل لؤلؤة بيضاء كأنها درة من النجف، مع بحة في الصوت، وبعد ذلك خنقته العبرة.


بعد هذا الحوار السريع، ذهبت إلى أحد الكوادر الصيدلانية وكان عليه آثار التعب، يريد الجلوس وكأنه فارس قادم من معركة للانتقام من الفيروس والميكروبات. سألته عن شاهد عيان لبعض الحالات التي جعلته ينهار بالبكاء والحزن، وكأنه فقد من يعز عليه.

قال: “إن ما يحزنني هو كبار السن، وكيف أصبحت حالتهم الصحية، وكيف انتقل لهم الفيروس وهم جالسون في البيت. يقولون والحسرة تملآ قلوبهم: إنه من ابني غير المكترث أو ابنتي التي تعمل خارج البيت، أو من عامل التوصيل، أو من سائر الأقرباء كمن زاره أحبائه وأحاطوا به وكأن مجموعة من النمل قد وجدت حبة سكر.

ساعد الله رب الأسرة عندما يتفشى الفيروس، يأتيه للزيارة كل من له صلة قرابة، من أبنائه من الرجال والنساء والأطفال، ما أجمل صلة الرحم ، لكن مع إنتشار الفيروسات ، أصبح الجميع في خطر. يا ليت في هذه الظروف تستبدل الزيارات بالاتصالات أو عبر برامج التواصل الاجتماعي. لكن إذا وقع الفأس في الرأس، يستفيق صاحب المصاب.

وبعد أخذ نفس عميق وتنهيدة، بدأ صدره يتقلص وينبسط قائلا: عندما أدخل على المريض في غرفته بالعزل، تنفتح أساريره وينظر إلى وكأنني بالنسبة له طيف عابر كما الأحلام ، وبسبب الوحدة، يسارع بالسؤال عن وضعه وكأنه يريد العودة إلى الحياة بعد الموت.


ويبدأ هذا المريض محاولاته متوسلا كي أساعده للإتصال بذويه … بأم فلان، بإبنه ، بإبنته ، بأي شخص من العائلة رافعا صوته … أرجوك…. بحيث لا تفرق بين إبتسامته وحزنه ،،،، والجواب معروف لديه إذ لا يسمح بالإتصال والمريض في العزل.

دب الصمت قليلًا، وذكر حالة جعلت دموعي تنهمر…. رجل مسن ليس عنده أحد يسأل عنه. فقلت له: أنت الوحيد الذي لا يطلب زيارتك أحد، أو يتصل عليك أحد ليسئل عنك. فقال: أنا أسكن وحدي في البيت.
قلت له: كيف أصبت إذن بفيروس كورونا المستجد (COVID-19)؟
قال: السائق الذي ترسله إبنتي الوحيدة ليأتي إلي بالغداء  ، كان مصابا وانا لا أعلم ، وكان يقول: إنه مرهق ومتعب ، ولأنه عصبي وليس في تعامله شيء من الرحمة ظننته كسولا وليس مريضا ، وبدل أن يشرف علي ويهتم به حسب المطلوب منه إنسانيا واخلاقيا وحسب العقد معه برعايتي حسب النظام بالرعاية التمريضية أصابني بالعدوى.

بين الحاسوب والأدوية
‏كل شيء يمكن إخفاؤه إلا ملامح العين حين تحن، وحين تحزن، وحين تفتقد. كلمة تقرقع في قلبي:
كان هناك بطل من كوادر الصحة في مواجهة فيروس كورونا المستجد (COVID-19)، وكان من بداية الدوام إلى نهايته يزرع نفسه بين الورقة والقلم وجهازه الجوال لحساب ومراجعة كل ما يدور من مستجدات حول الفيروس. وبين فترة وأخرى يتقلب بين جهاز الحساب الآلي، يقلب في صفحات البرنامج المختص بحالات المرضى ليرى المستجدات والتغييرات في حالتهم الصحية، متابعا تأثير الأدوية وتقدمهم في مراحل الشفاء.

بالرغم من أنه يعمل بصمت، إلا أن فيروس كورونا وضع هذا الشخص في رأسه، وأيضًا كل كادر صحي على شاكلة هذا البطل، حيث لابد أن يزيحهم عن طريقه. ولكن ما أن استقر بهذا البطل الحال، برز مع شخصيات أخرى من الكادر الصحي في حرب شديدة الضراوة والفتك على الفيروس ، فجندت له علمًا ووعيًا وقامت بمراجعة كل الخطط والإجراءات كي تجد ثغرة هنا أو هناك وتسدها، أو توجيه أو تقييم لما يجري.

ما يميز هذا الكادر أنه يعمل بالعقلية الجمعية، حيث تُشارك العقول في اتخاذ الإجراءات، وهي تجربة مشرفة من هذا البطل وزملائه وإن كانت نتائجها ما زالت تحت التقييم والدراسة وهي خاضعة للتطوير استعدادا لأي طارئ مستقبلا.

هناك الكثير من القصص المشرفة للكوادر الصحية ومنها دور الصيدلي المهم جدا فمن المرور على الأقسام، الى تحضير الأدوية، الى الإشراف على الدواء المعطى للمريض، هذا الدور الذي يقوم به الصيدلي يساهم وبكل قوة في رفع مستوى الخدمة ومساعدة الممرضات اللاتي يتعلمن بعض التقنيات وفن التعامل مع الأدوية.

وأخيرًا، كل يوم خطة ومتابعة ورصد وتوفير وجلب دواء، واتصالات هاتفية، وإرسال سائق أو مندوب أو إقناع جهة أخرى أو محاولة معرفة أين الخلل. لكن مع الزمن لا زلنا ندور في حلقة لكنها غير مفرغة. وكل أزمة تمر نتعلم منها الكثير، ونصبح كأننا مراهقون أو متدربون جدد فيها.

ومع كل جائحة نتوكل على الله ونقول: “ما دام هناك من في السماء سيحميني، فليس هنا من في الأرض سيكسرني”.

الصيدلي عبد الله اليوسف

*الفني الصيدلي عبد الله حسين اليوسف حاصل على دبلوم عالي من كلية العلوم الصحية بالدمام ، ويعمل في إدارة الرعاية الصيدلية بمجمع الدمام الطبي ، حضر الكثير من الدورات الطبية ، ونشر عدد من المقالات بعضها ضمنها في كتابه حديث الأدوية ، كما له نشاطات تطوعية في كثير من الميادين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *