تعتبر فاعلات السطح الفلورية (PFASs) من المركبات الكيميائية التي أحدثت ثورة في العديد من الصناعات، فقد صُنِّعَت وطُوِّرَت هذه المركبات في منتصف القرن العشرين وهي مقاومة للماء والحرارة ومشتقات النفط؛ حيث تُستخدَم هذه المواد في عمليات الطلاء وصنع الأثاث وأدوات الطهي والسجاد وعمليات التغليف وصنع الملابس ومستحضرات التجميل وغيرها؛ وبسبب ان هذه المواد غير لاصقة ومُقاوِمة للبقع والماء، فهي منتشرة في منتجات نستخدمها بكثرة.
ولكن مع مرور الوقت، فإن هذه المواد تثير جدلاً كبيراً في العقود الأخيرة بسبب آثارها البيئية والصحية الضارة. هذا المقال يستعرض تأثيرات فاعلات السطح الفلورية على البيئة والصحة، والجهود المبذولة للحد من استخدامها، وكذلك التحديات التي تواجه البحث عن بدائل آمنة.
تعريف فاعلات السطح الفلورية
فاعلات السطح الفلورية (Per- and polyfluoroalkyl substances)، اختصاراً (PFASs)، هي مركبات كيميائية فلورية عضوية لديها ذرات فلور متعددة مرتبطة بسلسلة ألكيل. بحسب تعريف مبكر من عام 2011، يلزم أن تحتوي هذه المواد على جزء فاعل بالسطح فلوري واحد على الأقل،[–CnF2n+1–] . بدءاً من عام 2021، مددت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية مصطلحها، حيث أعلنت أن “الفاعلات بالسطح الفلورية معرفة بأنها مواد مفلورة تحتي على ميثيل مفلور كامل واحد على الأقل أو ذرة كربون المثيلين (دون أي ذرة [H/Cl/Br/I] مرتبطة)، أي، مع استثناءات قليلة ملحوظة، أي مادة كيميائية تحتوي على الأقل على مجموعة ميثيل مشبعة بالفلور (–CF3) أو مجموعة ميثلين مشبعة.
بحسب منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، هناك على الأقل 4.730 مادة مختلفة مصنفة ضمن الفاعلات بالسطح الفلورية، والتي تحتوي على ثلاث ذرات كربون مفلورة على الأقل. قاعدة بيانات السمية بحسب الوكالة الأمريكية لحماية البيئة (DSSTox) ، تدرج 14.735 مركب كيميائي مختلف من فاعلات السطح الفلورية.
نظراً لأنَّها غير قابلة للتلف ولا تتحلل بسهولة (الرابطة الكيميائية بين ذرتي الكربون والفلور قوية جداً ولا يمكن كسرها بسهولة) فقد اكتسبَت الفاعلات بالسطح الفلورية اسم “المواد الكيميائية الأبدية”، فإنَّ ما بدأ كمعجزة الكيمياء الحديثة منتصف القرن الماضي أصبح أزمة بيئية وصحية تهدد العالم أجمع.
يمكن العثور على (PFAS) في العديد من الأماكن مثل:
يمكن أن تكون (PFAS) موجودة في مياهنا وتربتنا وهوائنا وطعامنا وكذلك في المواد الموجودة في منازلنا أو أماكن عملنا، بما في ذلك:
- مياه الشرب – في أنظمة مياه الشرب العامة وآبار مياه الشرب الخاصة.
- التربة والمياه في مواقع النفايات أو بالقرب منها – في مدافن النفايات ومواقع التخلص من النفايات الخطرة مثل تلك التي تندرج تحت برامج قانون حفظ واستعادة الصناديق الفائقة والموارد الفيدرالية.
- رغوة إطفاء الحريق – في الرغاوي المكونة للأفلام المائية (أو AFFFs) المستخدمة لإطفاء الحرائق السائلة القابلة للاشتعال. تستخدم هذه الرغاوي في أحداث التدريب والاستجابة للطوارئ في المطارات وأحواض بناء السفن والقواعد العسكرية ومرافق التدريب على مكافحة الحرائق والمصانع الكيميائية والمصافي.
- مرافق التصنيع أو الإنتاج الكيميائي التي تنتج أو تستخدم (PFAS) – على سبيل المثال في طلاء الكروم والإلكترونيات وبعض مصنعي المنسوجات والورق.
- الغذاء – على سبيل المثال في الأسماك التي يتم صيدها من المياه الملوثة ب (PFAS) ومنتجات الألبان من الماشية المعرضة ل (PFAS).
- تغليف المواد الغذائية – على سبيل المثال في الورق المقاوم للشحوم وحاويات / أغلفة الوجبات السريعة وأكياس الفشار بالميكروويف وصناديق البيتزا وأغلفة الحلوى.
- المنتجات المنزلية والغبار – على سبيل المثال في طارد البقع والماء المستخدم على السجاد والمفروشات والملابس والأقمشة الأخرى؛ منتجات التنظيف؛ أواني الطهي غير اللاصقة؛ الدهانات والورنيش ومانعات التسرب.
- منتجات العناية الشخصية – على سبيل المثال في بعض الشامبو وخيط تنظيف الأسنان ومستحضرات التجميل.
- المواد الصلبة الحيوية – على سبيل المثال الأسمدة من محطات معالجة مياه الصرف الصحي المستخدمة في الأراضي الزراعية يمكن أن تؤثر على المياه الجوفية والسطحية والحيوانات التي ترعى على الأرض.
طرق التعرض لفاعلات السطح الفلورية
نظرا لإنتاجها واستخدامها على نطاق واسع، فضلا عن قدرتها على التحرك والاستمرار في البيئة، تظهر الدراسات الاستقصائية التي أجرتها مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) أن معظم الناس في الولايات المتحدة تعرضوا لبعض من فاعلات السطح الفلورية. معظم التعرضات المعروفة منخفضة نسبيا، ولكن بعضها يمكن أن يكون مرتفعا، خاصة عندما يتعرض الناس لمصدر مركز على مدى فترات طويلة من الزمن. يمكن أن تتراكم بعض المواد الكيميائية في الجسم بمرور الوقت.
أظهرت الأبحاث الحالية أنه يمكن أن يتعرض الناس للفاعلات السطح الفلورية من خلال:
- العمل في مهن مثل مكافحة الحرائق أو تصنيع المواد الكيميائية ومعالجتها.
- مياه الشرب الملوثة بهذه المواد.
- تناول بعض الأطعمة التي قد تحتوي عليها، بما في ذلك الأسماك.
- ابتلاع التربة الملوثة أو الغبار.
- هواء التنفس الذي يحتوي عليها.
- استخدام المنتجات المصنوعة من هذه المواد أو التي يتم تعبئتها في مواد تحتوي عليها.
أجريت دراسة سعودية على أسماك البحر الأحمر على 28 عينة. وأشارت الدراسة لوجود تلوث عالي في عينة الأسماك نتيجة الصرف الصحي والإنتاج الصناعي . ومع ذلك، هناك حاجة إلى توضيح منهجي لمصادر فاعلات السطح الفلورية المحلية. يشكل تلوث مياه البحر الأحمر بهذه المواد خطرا وشيكا محتملا على البيئة البحرية للبحر الأحمر. وقد يؤثر في نهاية المطاف على صحة المستهلكين البشريين من خلال استهلاك المأكولات البحرية المحلية.
التعرض لفاعلات السطح الفلورية والمخاطر الصحية
يمكن أن ترتبط فاعلات السطح الفلورية بالبروتينات، مثل الهيموغلوبين والألبومين، وتتراكم في الدم والأعضاء الحية. قد يزيد التعرض لهذه المركبات من خطر الإصابة بأنواع مختلفة من السرطان، بالإضافة إلى المشاكل الصحية الأخرى، مثل تلف الكبد والكلى وأمراض القلب والأوعية الدموية (CVD) وارتفاع الكوليسترول والسمنة والسكري وانخفاض المناعة. من المعروف أن العديد من هذه المركبات تعطل الأداء الطبيعي لنظام الغدد الصماء، وتسبب ضعف المناعة، ونمو الخلايا المفرط، وتغيير النشاط الجيني.
أظهرت دراسة أمريكية حديثة أن النساء اللواتي أصبن بسرطان الثدي والمبيض والجلد والرحم لديهن مستويات أعلى بشكل ملحوظ من هذه المركبات في أجسادهن. استخدمت الدراسة بيانات من المسح الوطني لفحص الصحة والتغذية (NHANES) الذي تم جمعه بين عامي 2005 و2018، والذي يضم أكثر من 16000 فرد. وجدت أن النساء المعرضات لمستويات مرتفعة من حمض البيرفلوروديكانويك (PFDE) لديهن ضعف احتمالات تشخيص سرطان الجلد ، في حين أن النساء اللواتي لديهن تعرضن متزايدا ل (PFNA) و(PFUA) كان لديهن ضعف خطر تشخيص سرطان الجلد تقريبا . كما تم إنشاء صلة بين (PFNA) والتشخيص المسبق لسرطان الرحم.
حمض بيرفلورو الأوكتانويك وحمض بيرفلورو أوكتان السلفونيك هي أكثر الفئات التي دُرِسَت على نطاق واسع من بين الفاعلات بالسطح الفلورية، ويقدِّر الخبراء أنَّ 98% من سكان العالم لديهم مستويات يمكن اكتشافها من حمض بيرفلورو الأوكتانويك موجودة في مجرى الدم.
وفقاً لـ “وكالة حماية البيئة الأمريكية” (U.S. Environmental Protection Agency) فعندما يأكل البشر أو الحيوانات طعاماً أو يشربون مياهاً ملوَّثة بهذه المادة، فإنَّه يمكن امتصاصها وتتراكم في الجسم، ونظراً لأنَّها لا تتحلل بسهولة، فإنَّها يمكن أن تُختزَن في الجسم لفترات طويلة جداً.
تنظيم وتقييد (PFAS)
تم تنظيم (PFAS) وتقييدها بطرق مختلفة في جميع أنحاء العالم. في الولايات المتحدة، تنظم إدارة الغذاء والدواء (FDA) (PFAS)، في حين تنظم الوكالة الأوروبية للمواد الكيميائية (ECHA) (PFAS) في الاتحاد الأوروبي (EU). تم إيقاف إنتاج (PFOS) في الولايات المتحدة في عام 2002 وتم التخلص التدريجي من (PFOA) في عام 2006 في فبراير 2023، اقترحت الوكالة الأوروبية للمواد الكيميائية حظرا كبيرا على إنتاج واستخدام (PFAS) في الاتحاد الأوروبي. بموجب الاستراتيجية الكيميائية للصفقة الخضراء للاتحاد الأوروبي للاستدامة، وعدت بالتخلص التدريجي من جميع الاستخدامات غير الأساسية ل [PFAS.16] في آسيا، لا توجد لوائح أو قيود على استخدام (PFAS)، ويبدو أن الكثير من إنتاج (PFOS) و(PFOA) قد انتقل إلى هذا الجزء من العالم.
في الختام
هذه القضية البيئية والصحية الملحة، تؤكد بوضوح أهمية مسارعتنا بعمل دراسات بيئية وصحية، لمعرفة مدى انتشار المشكلة وتأثيرها في بيئتنا، من أجل وضع تشريعات وسياسات بيئية وصحية وحملات توعوية للمجتمع للتقليل من مشكلة هذه الملوثات على البيئة والصحة.
أمر آخر ينبغي أخذه في الحسبان، قرار حظر هذه المواد يتطلب وقتاً وجهداً ومالاً كثيراً من أجل إيجاد بدائل مناسبة وآمنة عن فاعلات السطح الفلورية، وهذا يسبب تحدياً اقتصادياً كبيراً؛ نظراً لارتفاع التكلفة للمنتجات، لذلك يجب ان يكون الجانب الصحي مقدماً عند وضع السياسات واتخاذ القرارات على الجوانب الاقتصادية والتجارية.
*غسان علي بوخمسين ، صيدلاني أول ، مستشفى جونز هوبكنز.