مشهد أمسية – بقلم علي الجشي

اجتماع الأصحاب بين وقت وآخر للسمر والضحك والفكاهة، واسترجاع الذكريات وما مضى من المغامرات، واستعراض التحديات التي واجهوها في حياتهم والصعاب التي مروا بها والنكد الذي اثار يومًا ما حفيظتهم والنوادر التي اثارت تعجبهم واعجابهم، ودخولهم في أحاديث يجر بعضها بعضا لبث الشجون، والحسرات والأمنيات والإنجازات مهم وضروري للصحة النفسية، وبالتالي الجسمانية.

وتزداد هذه الحاجة في مرحلتين حرجتين من مراحل الحياة، اولهما مرحلة المراهقة وهي الأكثر تعقيدًا في حياة الإنسان، بسبب التغير الفيزيولوجي المؤثر في الفكر والجسد، وثانيهما مرحلة الشيخوخة وهي الأصعب حيث تضعف حواس النظر والسمع والذاكرة وينخفض الصوت، وتضمر العضلات وتبدأ آلام المفاصل ومعوقات العمود الفقري بالهجوم وتفقد الحركة سرعتها فيكون خيار البقاء في المنزل هو الراجح إلى أن يصبح مع الوقت هو الأفضل وربما الأوحد.

إلا إن هناك نماذج جميلة في علاقات مرحلة الشيخوخة ومنها مجموعة كريم التي تحرص على التواصل والاجتماع وعدم الرضوخ للموانع.

تحدد يوم الذهاب الى مخيم كريم بناءً على تنبؤات الطقس لتكون الرحلة في أجواء مريحة. المخيم مهيأ بالخدمات اللازمة للتنزه والإقامة من ماء يجلب بالصهاريج، وكهرباء تولد بالطاقة الشمسية، وبيوت من الشعر دافئة، وفرش جيدة ومريحة، ومشب للنار، ونخيلات عاليات باسقات، توأمية وفردية “صنوان وغير صنوان” خرجت من بين كثبان الرمل الذهبية، وكأنها تريد أن تلطف قفر البرية وتؤنس وحشتها، ولكن الكثبان طغت عليها زاحفةً بإصرار لتغطي ما أتت عليه منها وتخفيه، وكأنها لا تريد للحياة أن تبزغ فيها.

صراع بين نخيلٍ تريد الحياة ورمال تريد أن يبقى المكان مقفرا، فيتدخل الإنسان بعلمه وسعيه ليساهم في إنعاش الحياة على الأرض التي أتاها ليعيش فيها ويستعمرها، وهكذا يبقى في صراع دائم مع الطبيعة يستفيد من نعمها ليطوع صعابها.

أعدت العدة، وجهز تموين الرحلة حسب قائمة تشمل كل ما يلزمها، ووصل الصحبُ إلى المخيم، إلا إن الأجواء تكدرت فهبطت درجة الحرارة بشكل مفاجئ لدرجات متدنية، واكفهرت السماء اكفهرارا بأغبرة صفراء حجبت ضوء الشمس وجعلتها باهتة حزينة، وزادت سرعة الرياح من شدة البرودة وسوء أثر الغبار.  فلم تعد أجواء ذلك اليوم مناسبة ولا مريحة لرحلة برية كما توقع منجمو الطقس.

إلا إن الفرحة بلقاء الأحبة وإعادة تنشيط الألفة انستهم الأجواء المزعجة، فتم تناول وجبة الإفطار في أجواء اخوية مرحة، ودارت دلال الشاي والقهوة والتمر واصناف الحلويات والمكسرات. جلس البعض داخل بيت الشعر والبعض جلس خارجه متحلقون حول شبة النار يضرمونها بأغصان شجر الليمون اليابسة وبتلة وكرب النخيل الداكنة، فإذا ما اكلت النار نفسها وهمدت، رُمي فيها المزيد من الحطب لإذكائها، وابقائها متوهجة فتبعث الدفء بالمتحلقين حولها وهم مستمتعين برقص لهبها وتلألؤ ضوئها وزهو الوانها.

شرع المتبرعون للطبخ في إعداد وجبة الغداء فأجادوا شواء سمك السالمون وتبهيره وطهي الأرز وتجهيزه. وما أن جهز الغداء حتى بدأ الجمع بخدمة بعضهم البعض. هذا ينجب العيش وذاك يقدم السلطات وهذا يقص الليمون ويقطع البصل وذاك يوزع قطع السالمون.  لا خدم عندهم ولا حشم ولا نادلًا ولا محاسبا.

الكل يخدم الكل بالمحبة والامتنان ويبدون اعجابهم بما بادر به كل منهم للآخر وما صنع ويتبادلون كلمات الشكر والتقدير على تفانيهم بجعل اللمة أفضل ما تكون، فيزدادون في هذه الأجواء الأخوية بشاشة وبهجة مما يكسبهم طاقة للمزيد من العمل والحركة ليقوموا بعد ذلك بتنظيف المكان وإعادته كما كان وبأحسن حال، اعمال “تدبير المنزلي” (housekeeping) لا يقومون بها في بيوتهم التي اصبحوا فيها مخدومين أكثر من خادمين. 

وبعد الغداء، جاء دور الفاكهة وشرب الشاي والقهوة والاستمتاع بالحلويات حيث تحلوا معها السوالف واستحضار الذكريات والقصص المؤثرة التي تروي احداث جرت وتم التصرف معها في حينها بعفوية أو جاءت بردود فعل فورية عنيفة، فمنها ما أصاب وأتى أكله، ومنها ما خاب وخلف وراءه مرارة ما زالت باقية.

اخذت الأحاديث المتشعبة والمتداخلة مجراها فمر الوقت سريعا، والكلام بطبعه يجر الكلام ويستدعي المتشابهات والمتناقضات فيخلق الحديث أحاديث وتأتي القصة بقصص. ومن الناس من يرغب في التحدث ومنهم من يميل إلى الأصغاء والاستماع ومنهم من يعلق تعليقات خاطفة ومنهم من يعترض ويجادل، ومن أدب الحديث إعطاء المتحدث الفرصة ليتم حديثه، وجس نبض تفاعل المستمعين.

وما أن شارف وقت الغروب حتى صفا الجو واختفى الغبار وتسلل ظلام الليل، فظهر القمر بدرًا مقترنًا بكوكب المشتري ليسرح الخيال في تشكيلات نجوم السماء وكواكبها، وتوالت أحاديث الأصحاب وهم سامرين على ضوء القمر وحول شبة النار يستمدون منها الدفء حتى غلبهم النعاس وثقل لسانهم على الكلام فلموا اغراضهم ورجع كل الى بيته يبتغي المنام وهو في غاية البهجة والسرور والاطمئنان الذي ينعش الروح.

مع التقدم في العمر ومع الأسف، وبسبب عوامل عديدة قد تبدو منطقية، تتقلص العلاقات الاجتماعية، مما يستدعي المبادرة بالمحافظة على استمرارها بتحسينها وتطويعها لتناسب مرحلة الشيخوخة التي تتطلب عناية خاصة متعددة الجوانب.  وليس من الضرورة، بل ليس من المحبذ ان نقوم بأعمال مفخمة مكلفة لصيانة العلاقات الاجتماعية الأخوية والمحافظة على الصداقات القديمة، فكل ما يلزمنا هي خطوات صغيرة، ومن ذلك استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتبادل الزيارات وإقامة الدوريات وزيارة الأماكن العامة التي يرتادها الناس كممشى الكورنيش والحدائق العامة، فنحن بشر لنا نفس الحاجة الأساسية للتفاعل الإنساني.

إن تكوين علاقات إيجابية وثيقة وأنشطة اجتماعية مشتركة تساهم في رفاهيتنا، وتساعدنا في الحفاظ على مهارات التفكير وصفاء الذهن وزيادة الوعي المعرفي وتقوية المدارك، وتجنبنا المخاطر الصحية التي تسببها العزلة الاجتماعية في مرحلة الشيخوخة، لأنها تحجب التأثيرات الضارة مثل الصدمات النفسية وتأثير الإجهاد وهزل الشيخوخة والخوف من فقدان القوة البدنية والمشاعر السلبية للهجران والوحدة. وبطبيعة الحال، لن تكون جميع العلاقات الاجتماعية إيجابية وذات مغزى، ولكن علينا السعي لخلق تفاعلات تأتي بنتائج إيجابية تسهم في الدعم العاطفي والعملي لكبار السن. 

المهندس علي الجشي

تعليق واحد

  1. اتمنى من البلدية أو المجلس البلدي إتشاء نادي لكبار السن وياحبذا لو اضيفت لهم مزية ذوي الإحتياجات الخاصة، وما احلى المثل القائل : الطيور على اشكالها تقع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *