التطور التاريخي لفيزياء الجسيمات الأولية – د. جاسم حسن العلوي

يبحث العلماء في مكونات المادة بهدف الوصول إلى مكوناتها الأساسية والتي تمثل اللبنات الأولى في بناء العالم الطبيعي. لم يكن الوصول إلى هذه المكونات الأساسية حلما يراود علماء الطبيعة بل كان حلم الفلاسفة أيضا. كان أرسطو يعتقد أن المادة تتكون من أربعة عناصر أساسية هي التراب، والماء، والهواء، والنار. وهذه العناصر المكونة لمادة الكون تتصف بالإتصالية التي تعني أنه ليس للمادة مكون نهائي، فتقطيع المادة إلى جزيئات صغيرة يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية دون أن نصل إلى حد نهائي من المادة لا يقبل القسمة ويكون بمثابة المؤسس الأول للبناء المادي. في المقابل شيد الفيلسوف اليوناني ديمقريطس مذهبه الذري الذي يقوم على أساس إنفصال المادة، أي أن المادة مكونة من ذرات يفصل بينها خلاء وهذه الذرات غير قابلة للإنقسام فهي المادة الأولية في البناء المادي. ولقد أثبت العلم الحديث بما لا يدعو مجالا للشك صحة النظرية الذرية.

في العام 1897 إكتشف طمسن J.J Thomson الإلكترون (e) وقد إستخدم للكشف عن هذا الجسيم أنبوب في أحد أطرافه شعيرات حارة تنبعث منها هذه الإلكترونات. وبسبب الشحنة السالبة التي تحملها هذه الإلكترونات فإنه يمكن تسريعها باستخدام مجال كهربائي نحو شاشة فسفورية تضيء في اللحظة التي يصطدم بها الإلكترون. لقد أدرك رذرفورد أن هذه الإلكترونات يجب أن تنبعث من الذرات، وفي العام 1911 أثبت بأن هذه الذرات لها بناء داخلي، ففي المركز توجد النواة وهي ذات شحنة موجبة وتتركز فيها غالبية كتلة الذرة تدور حولها الإلكترونات سالبة الشحنة. لقد إقترح هذا النموذج الشمسي للذرة بناءً على الطريقة التي إنحرفت بها إشعاعات الفا، وهي جسيمات موجبة الشحنة، عندما سلطها رذرفورد على رقيقة معدنية من الذهب. وظل الإعتقاد بأن الذرة مكونة من نواة بداخلها جسيمات تحمل شحنات موجبة تسمى البروتونات (p) سائدا حتى العام 1932 عندما إكتشف جيمس شادويك James Chadwick من أن النواة تضم جسيمات أخرى لها تقريبا نفس كتلة البروتون ولكن ليس لها شحنة سميت بالنيوترونات (n).

في العام 1928 دمج بول ديراك Pual Dirac معادلات النظرية الكوانتية Quantum Theory مع معادلات النسبية الخاصة Special Relativity و جاءت المعادلات المدمجة بخاصية غريبة. لقد إستطاع ديراك أن يبرهن على أن الجسيمات كالإلكترون له كتلة ويحمل شحنة سالبة يمثل حلاً لهذه المعادلات الأساسية ، ولكن لهذه المعادلات حلاً آخر بإستبدال فقط الإشارة السالبة للإلكترون وإستبدالها بأخرى موجبة، مما يعني إمكانية وجود جسيم آخر له نفس كتلة الإلكترون ولكنه يحمل شحنة موجبة. كان ديراك الأول في التاريخ العلمي الذي يتنبأ بوجود جسيم بطريقة نظرية بحته. إن هذا الإكتشاف يفترض أن كل جسيم له نقيضه الذي يتفق معه في الكتلة ويختلف معه في الشحنة. وبالفعل وفي العام 1932 وهو نفس العام الذي إكتشف فيه النيوترون، إستطاع أندرسون Anderson باستخدام الغرفة الغيمية Cloud Chamber التي تبين المسار الذي يسلكه الجسيم بواسطة الصور الفوتوغرافيه. ويوجد في هذه الغرفة الغيمية مغناطيس قوي يؤثر على حركة الجسيمات. فالجسيم الذي يحمل شحنة موجبة يتحرك إلى الاسفل والجسيم الذي يحمل شحنة سالبة يتحرك إلى الاعلى. لاحظ أندرسون أن جسيمات تتحرك إلى الأسفل و لكنها ليست بروتونات لأن مسارها رقيق يشبه مسار الإلكترونات وبطريقة خاصة أثبت أن هذا الجسيم مضاد للإلكترون anti electron وسمي بالـ (بوزوترون +positron  e). وبعد ثلاث سنوات من إكتشاف البوزوترون إكتشف الفيزيائي البريطاني باتريك بلاكيت Patrick Blackitt أن البوزوترون والإلكترون يمكن أن يتكونان عندما تختفي أشعة جاما ذات الطاقة العالية بعدما تمر من خلال رقيقة من الرصاص، وكان ذلك أول برهان عملي على تحول الطاقة إلى كتلة وفقا لمعادلة أينشتين الشهيرة:

E=mc2

حيث E  تمثل طاقة الجسم ، و m  تمثل كتلته و c سرعة الضوء. كما أن الإلكترون عندما يلتقي بالبوزوترون يفنيان وينتجان أشعة جاما في عملية عكسية.

لقد إعتبر أينشتين الكتلة ” طاقة مكثفة ” ، فالكتلة  والطاقة يمثلان وجهين لعملة واحدة أو مظهرين لحقيقة واحدة. فعلى ضوء النظرية النسبية فقد العالم صفة الثبات المطلق، فما كان يعد من الثوابت والمسلمات في الفيزياء الكلاسيكية أصبح ثباته نسبيا. فكتلة الجسم المتحركة تزداد بمقدار طاقة حركتها أي أن الجسم إذا تحرك بسرعة معينة فإن طاقته الحركية تزيد من مقدار كتلته، فالكتلة بحسب التحليل النهائي للعلم هي “طاقة مكثفة”. وقد أثبتت التجارب صحة هذه النظرية أيضا عبر الإنشطار النووي الذي يتم عندما تتعرض نواة ذرة ثقيلة كاليورانيوم 235 لقذائف من النيوترونات تنقسم على أثرها الى نواتين صغيرتين مجموع كتلتيهما أقل من كتلة النواة الأصلية ويعطي هذا الفارق في الكتلة طاقة قدرها 200 ميغافولت لكل حادثة إنشطار. وكان لهذا الإكتشاف أثره الكبير على مسيرة التاريخ البشري على مختلف الأصعدة.

إن المفهوم الكوانتي للقوة المؤثرة على حركة الأجسام يختلف عن المفهوم النيوتيني وكذلك عن المفهوم الهندسي للقوة التي وضعت أساسه النظرية النسبية العامة. ففي المفهوم الكوانتي هناك جسيمات تحمل القوة المؤثرة على جسمين. وهناك علاقة رياضية تربط بين المدى الذي تؤثر فيه القوة والكتل الحاملة لهذه القوة. فكلما كان المدى كبير كانت الكتلة صغيرة والعكس صحيح. فالقوة التي يكون مداها لا نهائيا لا يكون للحامل لها كتلة. فالقوة الكهرومغناطيسية تمتد إلى مالا نهاية ولذا فإن الفوتون الضوئي الحامل لهذه القوة ليس له كتلة. وإذا كان المدى الذي تؤثر فيه القوة معروفا فإن هناك طريقة لحساب الكتلة الحاملة له. وبهذه الطريقة تمكن العالم الياباني هايديكي يوكاوا Hideki Yukawa في العام 1932 أن يحسب الكتلة الحاملة للقوة النووية strong force بين النويات ( البروتنات والنيوترونات)، وقد وجد أن هذه الكتلة الحاملة عبارة عن سبع كتلة البروتون ويمكن أن تكون موجبة أو سالبة أو متعادلة وسمي هذا الجسيم الحامل للقوة النووية بالـ (البايون pion  π). وفي العام 1950 إكتشف سيسل باول Cecil Powell البايون المشحون والبايون المتعادل و بنسب الكتل ذاتها التي تنبأ بها يوكاوا.

في أثناء البحث عن البايون إكتشف العلماء بالمصادفة جسيما له تسع كتلة البروتون! ، ويعرف هذا الجسيم بـ (الميون muon  µ). ويأتي الميون على نوعين الموجب و السالب، و من المعروف أن البايون ينحل إلى الميون.

كانت ظاهرة إنحلال أشعة بيتا النووية في العشرينيات من القرن العشرين محيرة للعلماء لأنها تتناقض مع قانون “حفظ الطاقة” و قانون “كمية الحركة”. فعندما ينحل النيوترون إلى البروتون والإلكترون فإن طاقة النواتج لا تساوي طاقة النيوترون المنحل كما أن قانون حفظ كمية الحركة يفترض أن تكون حركة البرتون و الإلكترون في إتجاهين متعاكسين ولكن الغرفة الغيمية أثبتت أن حركتهما ليست كذلك. كان العلماء أمام خيار صعب للغاية فإما أن يتخلوا عن قانون حفظ الطاقة و قانون حفظ كمية الحركة أو أن يقبلوا فرضية وولفغانغ باولي Wolfgang Pauli التي تفترض وجود جسيم له كتلة صغيرة جدا أو ربما ليس له كتلة ولم تستطع الكواشف detectors أن تلتقطه أثناء التجربة. وبالفعل تم إكتشاف هذا الجسيم الذي سمي بالـ( النيوترينو neutrino ν) في العام 1956 وتعني بالإيطالية الأجسام الصغيرة المتعادلة.

يوجد ثلاثة أنواع من النيوترينو، الإلكترون – نيوترينو ( νe )، الميون – نيوترينو (νµ )، و التاو – نيوترينو (VZ) جسيم التاو tau كان قد تم إكتشافه في العام 1975 وله كتلة البروتون ويأتي على نوعين الموجب والسالب. وبما أن الإلكترون والميون و التاو لهم خصائص متشابهة فقد وضعوهم مع النيوترونات التابعة لكل واحد منهم في مجموعة واحدة تسمى لبتونز Leptons.

كان ينظر إلى البروتونات والنيوترونات لأكثر من ثلاثين سنة على أنها جسيمات أولية بمعنى أنها جسيمات نقطية بدون أي بناء داخلي. ولكن التجارب التي تضمنت تصادم البروتونات بعضها مع بعض أو مع الإلكترونات بسرعات عالية أثبتت أنها تتكون من جسيمات صغيرة جدا سميت بالـ الكوارك quarks. وقد منح غيل مان Gullmann جائزة نوبل في العام 1969 لأبحاثه التي قام بها في هذا المجال حيث إستطاع أن يبني نظاما خاصا بهذه الكواركات quark model يفسر من خلالها كل الجسيمات المعروفة في ذلك الوقت. يوجد في العالم ستة أنواع flavors من الكوارك (up(u) ، down(d) ، strange(s) ، charm(c) ، bottom(b) ، top(t. الثلاثة أنواع الأولى أكتشفت في الستينات أما الأنواع الثلاثة المتبقية فقد أكتشفت في الأعوام 1974، 1977، 1995 على الترتيب. الكوارك u يتشابه إلى حد كبير مع الكوارك c و الكوارك t إلا أن الأخيرين لهما كتلة أكبر. ويتشابة كذلك الكوراك d مع الكواركين الـ s والـ b. وتصنف الكواركات مع البروتونات إلى ثلاثة عوائل أو أجيال. ويقوم هذا التصنيف على أساس التشابه الكبير بين الجسيمات المكونة للعوائل الثلاث إلى الحد الذي يمكن أن نقول أن هذه الجسيمات مستنسخة ولكن الإختلاف بينهم في تصاعد قيمة الكتلة. العائلة الأولى تتكون من (u, d, e, νe) والعائلة الثانية تتكون من (c,s,µµ) والعائلة الثالثة تتكون من (t,b, ῐ , VZ ).

إذن البروتونات والنيوترونات ليست جسيمات أولية أساسية في بناء الطبيعة. فالبروتون يتكون من ثلاث كواركات، إثنين منهما من النوع u وواحد من النوع d (البروتون uud) أما النيوترون فيتكون أيضا من ثلاثة كواركات، إثنين منهم من النوع d وواحد من النوع u ( النيوترون udd ). وباستخدام مسارعات الجسيمات particle accelerators يمكن أن نحصل على جسيمات أخرى تدخل في مكوناتها الأنواع الاخرى من الكوارك (strange, charm, bottom top) ولكن هذه الجسيمات تكون لها كتل كبيرة وغير مستقرة وسرعان ما تنحل إلى البروتونات و النيوترونات.

لكل جسيم دوران مغزلي محدد القيمة – كوانتي quantized – كما أثبتت الميكانيكا الكوانتية quantum mechanics ذلك وبحسب قيمة الدوران تصنف الجسيمات إلى مجموعتين ( ويجب أن لا نفهم الدوران المغزلي بالطريقة التقليدية، بل إن المعنى يكتنفه الغموض. في المفهوم التقليدي يحصل الدوران الكامل عندما يدور الجسم 360 درجة ولكن في الفيزياء الكوانتية quantum physics كل شي يبدو غريبا ولا يتوافق مع بديهيات أفكارنا فقد يحصل الدوران الكامل عندما يتحرك الجسم 270 درجة أو 180 درجة أو 90 درجة ) المجموعة الأولى تتكون من الجسيمات التي قيمة دورانها المغزلي أنصاف الأعداد الصحيحة ( 1/2, 3/2, 5/2,… ) وتسمى بـ فيرميونز fermions والمجموعة الثانية تتكون من الجسيمات التي يكون دورانها المغزلي من مضاعفات الأعداد الصحيحة (0,1,2,… ) وتسمى بـ بوزونز bosons. إن جسيمات البوزونز هي المسؤولة عن حمل القوى التي تتفاعل من خلالها المنظومات الكوانتية المختلفة، بينما الفيرميونز هي الجسيمات التي تؤلف مادة الكون.

النظرية الكونتية quantum theory تختلف في تفسيرها للقوة عن رؤية اينشتين المبنية على الشكل الهندسي والتي حققت نجاحا كبيرا في المنظومات الكبيرة كالكواكب والنجوم والمجرات ولكنها أخفقت على صعيد الذرات والجسيمات الدقيقة. وتعرض النظرية الكوانتية رؤية بديلة وشمولية للقوى أو التفاعلات التي تحدث فيما بين المنظومات الصغيرة والكبيرة فيما يعرف بنظرية التوحيد الكبيرة grand unification theory. فالقوى بحسب هذه النظرية تتكون نتيجة تبادل كميات محددة من الطاقة تسمى كوانتا. وتختلف القوى باختلاف نوع الكوانتا المتبادلة، فالقوى الضعيفة weak force سببها تبادل نوعية من الكوانتا هي جسيمات w و z ، والقوة النووية strong force التي تربط بين الكواركات المؤلفة للبروتون أو النيوترون تتبادل نوعية من الكوانت هي الغلاوون gluons ويمتد تأثيرهذه القوة الناتجة من تبادل الغلاوون ليحفظ البروتونات والنيوترونات في النواة الواحدة ضد قوة التنافر الكهربائية بين البروتونات فتتبادل جسيم البايون كما ذكرنا آنفا. أما القوة الكهرومغناطيسية التي تحدث بين الشحنات الكهربائية فتتبادل الفوتون. والبحث العلمي قائم في الكشف عن الغرافتون بإعتباره الجسيم الوسيط الناقل لقوة الجاذبية بين الأجسام.

وبعد هذا السرد التاريخي نعود إلى السؤال الأساسي ما هي الجسيمات التي تمثل اللبنات الأولى في بناء المادة؟ بالطبع ليس في إستطاعتنا أن نقدم الدليل الحسي المباشر على هذا السؤال الكبير لأن الفوتون الضوئي الذي يقع تردده في مدى الرؤية البشرية أكبر بكثير من حجم الذرة وبالتالي فإننا لا نستطيع من خلال النظر التعرف على مكونات الذرة. الحس بوحده بمعزل عن العقل وقوانينه المستقلة لا يمكن أن يقودنا إلى هم الطبيعة و أسرارها. وبالعقل والحس معا دلت الأبحاث على أن هناك ثلاثة جسيمات أساسية مسؤولة عن بناء المادة التي نراها من الكون وهي الإلكترون والـ up كوارك و الـ down كوارك. ولكن هل هذه هي نهاية المطاف والبحث المضني الذي أخذ الكثير من جهود العلماء والفلاسفة على إمتداد عمر الإنسان على هذه الارض! هل هذه الجسيمات الثلاثة هي البذور التي تنمو منها الطبيعة و تتشكل؟ هل هي ذرات ديمقراطيس التي لا تقبل الإنقسام كما تصورها قبل 2500 سنة أم أن البحث لا يزال قائما وأن النهاية القطعية لم تلح في الأفق بعد؟

بالطبع لم يكن هذا الجواب ولا تلك الأسئلة نهاية فصول الرواية ولكن في مقالة قادمة إن شاء الله نستعرض ما يدور في مخيلة علماء الفيزياءالنظرية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *