ترَّملَ عفيف؛ كبر أبناؤه وبناته وتزوجوا وانشغلوا بحياتهم. لم يعد عنده ما يشغله سوى ذكريات الماضي.
يتذكر آلامه فتعطيه القدرة التي امتلكها في حينها، للتغلب عليها وعبورها والانتقال إلى مرحلة ما بعدها، احساس بقوة انسانيته وتزيد من قناعته في قدرة الزمن اللامتناهية على طي آلام الأنفس والأبدان ونسيان الأحزان.
أما ذكريات افراحه فيها فترسم على محياه ابتسامة صامتة، تُقرأ ولا تُسمع لكنها تعطيه شعور بجمال الحياة ونظارة رونقها. إلا إن الوحدة قاتلة خاصة مع تعلق الأرواح ببعضها واصرارها على الاستمرار في تعانقها رغم تباعدها المادي. بين الحين والآخر، يزور عفيف صديقه ابو سعيد.
زيارة الأصدقاء، الذين حافظوا على العهد ولم يتلبسوا بفعل الغش والتلاعب بالخداع وأبقوا الود صافيا والحب شفافا، هي بلسم يزيل ثقل مضنيات الحياة وأدرانها وسبيل لتخفيف الآم الوحدة ومعاناتها.
وهكذا، بعد كل مرة يجلس فيها عفيف مع أبي سعيد؛ يعود إلى بيته بجرعة من الأرتياح تعطيه طمأنينة رائقة تساعده على التعايش مع ظروف وحدته البيتية متأملًا لقاء أبي سعيد متى ما شعر بحاجة ملحة لملء فراغ حاجته الاجتماعيه، وهي طبيعة إنسانية فطرية.
“أقرأك من وجهك وأفهمك من كلماتك” .. عبارة يرددها ابو سعيد كلما تجاذب الصديقان اطراف الحديث أو خطرت ببالهما نكتة أو حاولا تلطيف اجواءهما بالفكاهة. ما اكثر القصص والحكايات بين الأصدقاء القدامى؛ تجارب مشتركة وصور مرسومة في الذاكرة ومفاهيم متناغمة وأسرار دفينة.
يبتسم عفيف ويقول “ما بين الأخوان اسرار” فيعقب ابو سعيد “ولد بطني يعرف رطني”، فيتضاحكا كطفلين بريئين، وينشد ابو سعيد:
وضحكنا ضحك طفلين معاً .. وعدوّنا فسبقنا ظلنا
ليجيبه عفيف:
وانتبهنا بعد ما زال الرحيق .. وأفقنا ليت أنّا لا نفيق
يتردد صدى “لا نفيق” في اسماع ابو سعيد فلا يستطيع تمالك نفسه دون أن يرددها بصوت عال على مسامع صديقه عفيف الذي يؤكد “نعم لا نفيق”.
افترقا وذهب عفيف إلى بيته سارحا، وذهب أبو سعيد إلى أم سعيد واجما. ما بك يا أبا سعيد؟
آه يا أم سعيد — قست الوحدة على صديقي عفيف. يبدو عليه خوفه من الحاضر وتوجسه من المستقبل، واستسلامه للمجهول. هذا شيئُ مريع.
لا اريد لصديق عمري أن يعتصر قلبه بآلام صبره؛ طيب القلب عفيف طالما ضحك وأضحك، وأعان وعاون، وأعطى قبل يُسأل، ولبى قبل أن يُدعى، وفزع دون أن يُرجى؛ عفيف كله حلاوة ولا يستحق هذه المرارة. عفيف يستحق الخير لأنه من صناع المعروف.
فكرت أم سعيد في الموضوع، فطالما شغلتها هي الأخرى وحدة قريبتها ورفيقة طفولتها “طيبة”. من فرط حبهما لبعضهما وقوة رابطة علاقتيهما، كانتا تناديا بعضهما “خيوه” بدلًا من اسميهما. رب أخٍ لك لم تلده أمك.
ترملت طيبة منذ سنوات عديدة وبقت مع ولديها في بلدة زوجها تعيش في دار اهله. كبر الولد وتزوج، وبقت طيبة مع ابنتها صفاء يؤنسا بعضهما في حياة هادئة رتيبه.
اقنعت أم سعيد رفيقتها طيبة بالرجوع إلى بلدة اهلها بدل من بقائها مع ابنتها في بلدة زوجها، فولدها اصبح مشغول بحاله، يكدُ ويصرف على عياله، وبقاؤها مع ابنتها قد يثير حفيظة “بناوتها” إذا ما انتابتها الغيرة من تقرب زوجها إلى اخته ومشاركتها عطفه وحنانة، وما اشد غيرة الزوجة من اهل زوجها الذي ملك عليها فتسعى إلى أن تملكه مقابلة بالمثل.
ولما كانت طيبة تحب ولدها حب الأم الحنون، رأت في مشورة أم سعيد سبيلًا إلى عدم اثقال ولدها بما قد يأخذ من سعادته مع عروسته.
بعد فترة وجيزة من رجوعهما اقترنت صفاء بشاب من شباب بلدة امها، لكنها رحلت، وبقت طيبة في إحدى دور بيت العائلة الكبير يزورها ولدها بين فترة وأخرى حاملًا لها من المال والهدايا ما استطاع. كما كانت أم سعيد تتعاهد طيبة أيضا بكل ما يلزمها وتشاركها فيما يكون لها فيه نصيب من مال أو مأكل أو ملبس.
بعد غياب صفاء دخلت طيبة رغم صلابتها وشدة ايمانها فيما يشبه الكآبة، غابت الابتسامة عن وجهها وبدت طوال الوقت شاحبة الوجه سارحة الفكر قليلة الأكل، مفضلة العزلة على العشرة التي عرفت بها.
كل هذا أقلق ام سعيد التي شاركتها حالتها النفسية كما تشاركها في حاجاتها المادية.
تمنت أم سعيد لو إن عفيف اقترن بطيبة حتى ولو أن قطار العمر قد مضى بعمريهما بعيدًا في سكة الحياة. اقترانهما على كبر سنهما سيحل مشكلة معاناتهما من الوحدة ويبدد كآبتهما النفسية.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) الروم}
فاتحت أم سعيد أبا سعيد في فكرة زواج عفيف من طيبة ففرح بها وأيدها وسعى إليها إلى أن تمت.
كان سعيد يلاحظ احداث القصة التي يشاهدها عيانًا ويتعاطف مع جزئيات احداثها بكل مشاعر كيانه.
يفرح سعيد عندما تندبه أمه الى بيت خالته طيبة ليصل بعض الحاجيات إليها فيستأنس بحديثها وقصصها المليئة بالحكمة والعبر وعبق الماضي الجميل لتاريخ البلدة والعائلة كما يفرح ببعض النقود والهدايا التي تحرص أن تعطيهم إياه في كل مرة يأتي اليها فهو ولدها القريب منها، لكن أكثر ما كان يفرح سعيد رؤية اشراقة وجه عمه عفيف والاسترخاء في اجواء هدوئه وسكينته، ورؤية الأبتسامة المرسومة على محيا خالته التي خلقها عظيم اهتمام ورعاية عمه عفيف بها، حتى إن سعيد صار يقيم حسن الرجل بحسن معاملته لامرأته، وكما في الأثر عن سيد البشر صلوات الله عليه وعلى آله: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”.