الساب والسيبة – بقلم عبد الرسول الغريافي

على إثر سؤال ورد من أحد المهتمين قد وجهه لأحد الأصدقاء والذي قام بدوره ب(تجَييره) إليَّ والذي كان يدور حول مدى صحة التسمية إن كانت ساب أم سيبة وكذلك إن كانت سابات أم سيبان أم سِيَبَ (إسيب)؟

في هذه الأيام وخصوصاً بعد أن ارتحل عن عالمنا الحديث الفلاحون (النخالوة) الأصليون القدماء بعد التحاقهم بالرفيق الأعلى وقد سبقهم إندثار نظام الري القديم الذي كان يعم البلاد -أعني بلد القطيف من سيهات جنوباً وحتى صفوى وجاوان شمالاً- فضاعت مع رحيلهما أغلبية تلك المسميات والمصطلحات إذ لم يعد لتلك المسميات أي أهمية تُذكر بعد ذهاب الأثر والمؤثر فقد دخل الخلط بين التسميات حتى أصبحت من الأخطاء الشائعة عند من يجهلون حقيقة الأمر حين اختلطت عليهم الأمور بعد أن ابتعد بنا الزمان فأنسانا الكثير منها، فحقيقة الأمر إن أردنا التحدث عن هذا النظام في الري القطيقي فإن لفظتي الساب والسيبة مختلفتان ليس من حيث التذكير والتأنيث فحسب، وإنما أيضاً من حيث المعنى فالسيبه تختلف عن الساب اختلاف كبير وإن كان كلاهما تجويفان ممتدان في باطن الأرض ليضمان بين ضفافهما المياه! فمن المفترض أن جمع لفظة ساب هي سابات، وأما السيبة فجمعها سِيَبْ أو بالعامية (إسْيَبْ) وأما لفظة سيبان فهي بشكل عام يطلقها البعض للتعميم أحيانا على جميع تلك الجداول التي تنساب بين جنباتها المياه، وأما الساب فكما أسلفت جمعه سابات -هذا في الأصل!

فلنبدأ بتسليط الأضواء أولاً على توضيح مفهوم السيبة وقبل البدء أود أن أشير إلى أن جميع هذه الألفاظ والمصطلحات يرجع أصلها إلى جذور عربية:

السيبة هي ضلع صغير (كالجدول المائي) يتراوح عرضه من الأعلى بين متر ومترين وتسمى احيانا عند الأغلبيه مرمى وتكون عادة في داخل البساتين وقد يتواجد بعضها خارج البساتين وهي عميقة إذا ماقورنت بالجداول فقد يصل عمقها إلى متر أو اكثر فتكون على طول امتداد ما يسمى الباب في بساتين النخيل فتفصل هذه السيبة بين بابين لتؤدي دور مشترك المنافع بينهما، والباب هو مجموعة من الضواحي أو الضاحيات (مفرد ضاحية) والمشاريب (مفرد شُرْبْ أو مشروب وهو أضيق بكثير من الضاحية فعرضه لايتجاوز نصف متر)،،،

فتمثل كل من الضاحية والمشروب أحواض ضحلة جداً ولكن الضاحية أوسع بكثير فمعدل طولها يصل إلى خمسة أمتار وعرضها ثلاثة أمتار تقريباً يتم اعدادهما للزراعة فيهما، ويفصل بين الضاحية والأخرى ممر ضيق يسمح للمشاة بالعبور بين كل ضاحيتين وهذا الممر يسمى الجابور، كما أن هذه المجموعة من الضواحي أو الضاحيات المُرَتَّبه في شكل صف واحد تسمى باب وكل بستان في العادة يحتوي على عدة أبواب (بيبان) كما يسمى محلياً وهذا الباب يختم نهايته بهذا الضلع (الجدول) العميق الذي يمتد من بداية الباب حتى نهايته ويكون مختوم من الجهتين فلا تجري فيه المياه وأنما تظل فيه راكده لانحصارها من الجهتين وترى الماء فيه لايتجاوز نصف عمقه فأقل وهذا وظيفته تسرب المياه بعد سقي الزرع من الضاحيات فهي عملية تلقائية لغسل الأرض ولتخليص تلك الضاحيات المُعَدَّة للزراعة من الأملاح والمياه الزائده ومنعها من إصابة الخرس،،،

وهنا يلفت انتباهنا تراجع الكثير من المهندسين الزراعيين عن رأيهم لِما حدث مؤخراً حين أدلى الجميع منهم بتأييدهم فكرة تحويل مصارف مياه القطيف المكشوفة والمعروفة محلياً بالسدود إلى مجاري عبر مواسير مدفونة رغم تنبيه جميع الفلاحين لهم عن مدى الضرر الذي سيلحق بالمزارع مستقبلاً ولكنهم لم يستبينوا النصح إلا في ضحى الغد وذلك بعد أن أدركوا صحة كلامهم حين ظهرت النتيجة واضحة للعيان ولكن بعد فوات الأوان فقد تحققوا أن من مهام المصارف والسابات في الماضي هو تخليص المزارع والبساتين من الأملاح وتسرب المياه الزائدة التي تضر بالزرع وقد بان الضرر في الزارعة واضحاً بعد أن بان الخرس وبقيت بأملاحها.

وكما أشرت أن البعض يطلق على السيبة مسمى آخر وهو المرمى وفي بعض المناطق يفرقون بين السيبة والمرمى بأن المرمى تكون عادة أكبر من السيبة وقد تكون مركزية يتشارك فيها أكثر من بستان فأهالي تاروت -مثلا- يستخدمون لفظة مرمى أما لفظة سيبه فهم يقصدون بها الجدول المائي المعروف بالضلع.

هناك نوع ثالث يختلف عن السيبة أو المرمى فهو يقوم بنفس الأداء ولكنه يختلف عنهما بأنه غير مختوم الجانبين فهو يحمل مازاد من مياه الري من تلك الضواحي والمشاريب لينقلها خارج البستان ويصبها في السابات أو غيرها، وهذا النوع يسمى المنجى، فالمنجى تكون المياه فيه جارية فهو من ناحية كالسيبة أو المرمى من حيث الوظيفة ومن ناحية أخرى فهو كالساب أو الجدول في الشكل حيث تجري فيه ما فضل من المياه لتبعده عن البستان وليصب في أحد السابات أو المصارف.

لاشك أن عامة الناس الغير متخصصين في هذا الشأن وحتى المتخصصين منهم أحياناً يطلقونها بشكل عام على أي جدول مائي مصطلح (الضلع) أي كان نوعه سواء أكان ساقية أو ساب أو سيبة أو مرمى او منشله أو خريس أو طبع أو منجى أو حتى الفريض وهو القناة المصنوعة من فلقة جذع النخلة والمجوفة في وسطها والمعلقة فوق جدول أسفلها بشكل متقاطع لتحمل الماء لتعبر به من ضفة إل ضفة فوق الساب بل وحتى المسطحات المائية الواسعة بأنواعها كالجمة والشريعة والتنقاب والجصة وحتى الخور أيضاً يطلق عليهم عند عامة الناس ضلع.

أما السابات وهي من أصل عربي أيضاً ومنها انسياب المياه أي جريانه فهي عباره عن جداول مائية واسعة شبه نهرية أحياناً يكون الماء فيها جاريا جارفاً قوياً نظيفاً قد تدفق من باطن الأرض من خلال العيون لتصب فيها، وقد كان بعض هذه السابات يصل عرضه لمئة متر أحيانا وأما اطوالها فتصل إلى عدة كيلومترات تمر من قرية إلى قرية وهي متفرعة لعدة أفرع أو العكس أحياناً إذ تلتقي عدة سابات لتصب في ساب واحد يكون أكثر اتساعاً وقوة في دفع المياه، ومن أشهرها في وسط القطيف ساب أبو خمسة وقد سمي بهذا الإسم نسبة لتفرعه إلى خمسة سابات وتلك السابات هي ساب أبو اكحيل وساب ابو دانك (دانق) وساب أبو قطنه وساب المغلي وساب أبو خيسه.

ومن أشهر السابات أيضاً في صفوى -مثلاً- ساب اقميح وساب المليح الذي رأيت جزءا منه باقيا حتى يوم ٢٠ /٦ / ١٤٣٤ هجري، بالإضافة إلى الكثير من سابات صفوى كالسرج والعزاز واتريشي وغيرها مما لايتسع ذكره هنا، وفي العوامية هناك العديد منها أيضاً كسابات عين الطيبه وغيرها، ومن سابات سيهات الساب الكبير والساب الصغير، ففي كل بقعة من أراضي محافظة القطيف كانت هذه السابات قبل الستينات متوزعة في أنحائها أينما ذهبت تجدها متناثرة ومياهها تنساب في بطونها فوق أرضها من الغرب إلى الشرق حتى تصب في النهاية في البحر وذلك بعد أن تروي جميع أراضيها، وهي متواجدة في صفوفها من الشمال إلى الجنوب.

وجدير بالملاحظة أن سابات صفوى لم يشملها التحويل إلى مصارف (سدود) في مشروع الري وبقيت ساباتها على ماهي عليه حتى الأخير لدرجة ان بعضها قد استمر بقاء آثاره حتي أيامنا هذه ولعل السبب في ذلك هو قوة اندفاع وغزارة مياهها الذي يصعب التحكم في تضييق مجازاته فهو يحتاج إلى اتساع كبير.

ومن المناطق التي لم يشملها التحويل أيضاً الآجام وماجاورها من القرى الغربية كأم الساهك وأبو معن وغيرهم وذلك لصعوبة التحكم في توجيه مسارات مياهها نحو البحر الواقع شرقي المنطقة فهي بحسب طبيعة إنخفاض أرضها تسير وفق إتجاه معاكس للبحر فمياهها المتدفقة تتجه بشكل عام بحسب الميول نحو الغرب فهي تجري بعكس التيار المراد حيث تصب في منخفضات غربية مشكلة الأخوار كخوري تويريت الشمالي والجنوبي في الآجام وكذلك خور أم البردي الواقع حول أبو معن والذي تحيطه من الشرق والشمال كثبان رملية ومن الغرب تحيطه المزارع التي تصب مازاد عن كفايتها فيه.


وأما سابات جزيرة تاروت التي أيضاً لم يشملها مشروع الصرف فقد بقيت على ما هي عليه دون أن يشملها مشروع الصرف والسبب واضح أنه من الأنسب لجزيرة منفصلة عن اليابسة محدودة المساحة وتحيط بها مياه البحر من جميع الجهات أن تبقى بنظامها القديم لكي لاتضيع مساحات كبيرة في مثل هذا المشروع فيسبب لها اختناقات في المساحة وكذلك أن عيونها كحمام تاروت وما جاوره من العيون كعين العوينه ومعها عين هرهر أو ام كلوه والعين الصغيره وعين أم الفرسان وداروش تاروت وغيرها بالإضافة إلى العيون الإرتوازية التي ظهرت في بداية القرن العشرين فمياهها تروي جميع مزارعها وبساتينها وتصب في البحر الذي لا يبعد عنها فجميع المزارع والبساتين متاخمة للبحر فتصب فيه مباشرة دون الحاجة إلى مصارف.

أما بقية السابات ابتداءً من سابات العوامية شمالاً حتى الجنوب في سيهات فقد حُوِلت جميعها إلى مصارف عرفها الأهالي بالسدود (ولسبب تسميتها بالسد هذه قصة طويلة ذكرتها في مقال سابق لي بعنوان – السد العالي في قطيف السعودية أم في أسوان مصر؟)(1) حيث كانت بداية المشروع في عام ١٣٨٠ هجري /١٩٦١م وقد جاء متزامناً مع بداية مشروع السد العالي في اسوان مصر والذي تعطل حتى نهاية الستينات.


لقد أصبح لهذه المصارف خمسة مصبات رئيسية في البحر كانت في الأساس هي مصبات السابات والتي كان يتفرع منها مصبات صغيرة أخرى أما بعد الستينات فقد أصبحت خمسة مصبات فقط كل مجموعة من المصارف في منطقة ما تلتقي لتصب في البحر عبر مصرف واحد يتجه إلى الشرق،،،

وأول مصب من جهة الشمال هو الذي يشق بساتين شمال العوامية إلى البحر عند المنطقة السكنية الحديثة بين الناصرة والزهراء (الشبيلي) والثاني الذي يتدفق من بين بساتين بداية القديح الشمالية ومصبه واقع في منتصف الناصرة اليوم.،،

وأما المصب الثالث فهو الواقع جنوب الشويكة الذي يلتقي قبلها بعدة مصارف قادمة من الخناق والتوبي والخويلدية وحلة محيش مع ملاحظة أنه يسبقه مصبّان رئيسيان في قلب مدينة القطيف يتفرعان من ساب الدوبج وباب الساب أحدهما قادم من الكريدي الذي يشق جنوب المدارس ويخترق السكة وهو مغطى بفروش احجار البحر ليسقي دوالي حي القلعة فيصب في البحر من جهة الدرويشية وهذان المصبان لم يشملهما مشروع الصرف أيضاً لصعوبة شقه في وسط أسواق القطيف،،،

وأما المصب الثاني فهو المتفرع صوب الجنوب ليمر جنوب حدود الشريعة بين حي الشريعة وحي الكويكب من جهة الشريعة والمعروف بساب أبو اكحيل والذي سمي الفريق الجنوبي من الشريعة الذي يمر عليه بإسمه أي فريق أبو اكحيل حيث يتجه هذا الساب شرقاً مروراً ببديعة البصري ويستمر إلى أن يصب في البحر عند منطقة السمادة وهي اليوم عند تقاطع شارع بدر بشارع الجزيرة ليصب هناك.

وأما المصب الرابع فهو الذي يشق ساحة العياشي الزراعية جنوب الشويكة وشمال عنك والقادم من الغرب من ساحات الجارودية وأم الحمام وجزء من الجش.

والمصب الخامس: هو القادم من الغرب والمار بين جنوب عنك و شمال سيهات (ويفصل بين ملعبي الشاطئ والخط سابقاً) وهو يحمل مياه سابات الجش والملاحة وبرزا وسيهات حيث يلتقي به من سيهات مصرف الساب الكبير القادم من الجنوب ليصب فيه.
أما المصب السادس فهو الساب الصغير أو الجنوبي الذي لم يشمله مشروع الصرف وكان يشق وسط سيهات ماراً في نفس الشارع الواقع في هذه الأيام شمال سوق السمك ومستوصف الصادق من جهة وجنوب حي الخصاب من الجهة الأخرى والذي كان غابة من النخيل، وهذا الساب قد تحول إلى مجاري مياه ولم يشمله مشروع الصرف.

أود هنا أن انوه إلى أن القطيف قد نُفِذ على أرضها فقط مشروع صرف أما الأحساء ففي نفس الوقت نفذ على أرضها مشروعي الري والصرف وذلك لأن نسبة عيون ومياه القطيف كانت أكثر من الكم المطلوب وبذلك كان لابد من تصريف الكثير من مياهها هذا بالإضافة إلى قرب القطيف مباشرة من البحر، أما الأحساء فبسبب اتساع رقعتها مقارنة بعدد عيونها وكمية مياهها فقد كان لابد من انشاء مشروع ري مساند بجانب مشروع الصرف كان يتجه إلى أخوار عرفت عند أهل الأحساء بالبحيرات وقد تم تغيير مكاناتها وتوحيدها ومن أكبرها بحيرة الأصفر.

وللسابات أكثر من مسمى في محافظة القطيف غير أن الأغلبية يعرفونها بالسابات ومفردها ساب بينما القليل من بعض أهالي قرى القطيف يسمونه (فبر) كما هو عند بعض أهالي القديح قديماً -وليس كلهم- بعد قلب الثاء إلى فاء. وهذا المسمى متداول عند جميع أهالي الأحساء دون قلب الفاء الى ثاء (ثبر).

وأما أهالي صفوى فيسمونه (مجاز) وجمعها (مجازات) وحيث أنهم يقلبون الجيم إلى ياء فأغلبهم يسمونه (مياز) وعندهم السيبان متباينه في المسمى، وأما مجتمع تاروت الحديث فبعضهم يخلط في المسمى بين سيبان وسابات فبعضهم يسمي السابات سيبان وبعضهم يسميها إسيب (سِيب) ومفردها سيبة وهذا خطأ في التسمية الحديثة، وأما أهالي سيهات فهم كأهالي وسط القطيف يسمون ذلك الجدول النهري ساب وجمعه سابات ولازالوا حتى عهد قريب جدا يطلقون على أحد المصارف مسمى الساب الكبير لكونه قد تحول الى مصرف وقد كان اشهر وأكبر ساب في سيهات وهو المتجه من الجنوب إلى الشمال والذي يلتقي بالمصرف المتجه شرقاً فيصب في البحر.

(1): https://www.qatifscience.com/?p=5042

المؤرخ الأستاذ عبد الرسول الغريافي

5 تعليقات

  1. احمد السويكت

    أحسنت يا ابو محمد على هذا الشرح والايضاح الرائع

  2. موضوع علمي بحثي تاريخي مرجعي بشرح وافي كافي. دام عطاؤك.

  3. د. جعفر القلاف

    أحسنت أستاذ عبد الرسول مقال جميل وثري بالمعلومات. ساب اقميح في صفوى يعرف عند أهاليها بشريعة قميح. تحياتي

    • عبد الرسول الغريافي

      أحسنت دكتور جعفر فهو أكبر سابات (مجازات) صفوى بل ومن أكبر سابات القطيف عامة ولذا فهو يعتقد بأنه هو المقصود بنهر الصفا العريق فهو يسقي العديد من البساتين كنخيل سيحة الزعافرينات ولصبيحيات وبارزان فمن اتساعه في بعض الجهات كما تفضلت يعرف بشريعة قميح وسوف نخصص مستقبلاً ان شاء الله بحثاً خاصا بسابات المحافظة

  4. الف شكر استاذنا العزيز ابو محمد على هذا الشرح الجميل استمتع دائما في طروحاتك التاريخية و جهود جبارة منك لحفظ ارث الاباء و الأجداد وتاريخ منطقة القطيف وماجاورها بارك الله في جهودك وتعبك لحفظ تااريخ ومسميات هذة البلاد المعطاء إلى الأجيال القادمة بإذن الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *