رغم أن الزجاجة الأمامية للسيارة في محلها وأنت تدرك مدى صلابتها وعدم قدرة أي عصفور على اختراقها إلا أن دماغك يربكك في حال اصطدمت بعصفور بريء لأنك انخدعت أنه يوشك أن يصطدم بك!
في مراحل من العمر وفي أوضاع معينة لا يميز الدماغ الكثير من الفروقات بل يعتمد على قواعد سلوكية غريزية مرتبطة بأعظم الأهداف البيولوجية: هدف البقاء.
هدف البقاء هو محور الكثير مما يليه من قواعد سلوكية تنتظم بين عدد من الأهداف المتوسطة وعلى رأسها هدف الأمن. هذا الهدف تم تحويله إلى احتياج فصرنا نعبر عنه بأحد أولويات الاحتياج البشري.
قلنا أن الدماغ البشري في مراحل معينة لا يميز الفروقات التفصيلية بين المثيرات كما حدث مع العصفور الذي ما أن ارتطم بالزجاجة الأمامية إلا وقد أحنينا رؤوسنا للأسفل رغم العلم أنه لا يمكن له اختراق الزجاجة!
ثمة مؤشرات حسية تنقل للدماغ أن هناك تهديد وخطر قد يزعزع الأمن من بين أيدينا وبالتالي فإن ردة فعل الأدمغة البشرية لا سيما لدى الأطفال عامة وصغارهم خاصة ستكون استجابة حادة لسلب الأمن كمثل ذلك البكاء الشديد حال انتزاع طفل ذي 12 شهراً من حضن أمه قسراً.
في المقال الماضي(1) نظرنا للإطار العالمي ومدى توفيره للأمن لأمة الأطفال على الكرة الأرضية. وكلنا شهود على فشل النظام العالمي وقواعده القانونية في تحقيق ذلك. دعونا الآن نقفز للإطار المنزلي والذي يشكل لكل طفل حتى حين ، العالم كله. أليس كذلك؟ المنزل هو عالم الطفل.
برونفينبرنر ، العالم النفسي الروسي الأمريكي والذي اشتهر بنظرية النظم للتأثير على الإنسان له مقولة عظيمة إذ نقل عنه: حتى يتطور الطفل بنحو طبيعي فهو يتطلب تفاعل ثنائي يتدرج في تفاصيله وتعقيداته مع شخص أو أكثر من البالغين الذين يرتبطون عاطفياً بذلك الطفل بشكل جنوني! أن يكون أحد الكبار مجنوناً بهذا الطفل هو المطلب رقم واحد وأخيراً ودائماً.
كلنا نعرف مجنون ليلى. فهل نحن كذلك مع أطفالنا في منازلنا؟ لم يكن برونفينبرنر شاعراً حين أطلق تلك العبارة لكنه كان يعي تماماً أن ثمة دور عظيم للكبار لاسيما الوالدين يجب القيام به لتحييد العوامل المهددة للأمن تجاه كل طفل. المنزل هو محيط وسطي من شأنه وأبرز وظائفه “العزل الوازن” كترجمة تقريبية لكلمة (buffer) بالانجليزية. هذا العزل الذي يجب أن يكفل توازناً معينا ً في البيئة المنزلية حتى لا تتعكر أو لا تتلوث أو لا ترتبك أو لا تنقلب رأساً على عقب مسارات من الفكر والعواطف والأفعال التي يجب ان تُصان صيانة تامة لتنقل رسالة رئيسية لدماغ كل طفل: أنت محمي، أنت في أمان.
تحدثت كثيراً العالمة النفسية ربيكا بيلي في مشروعها العملاق (conscious discipline) عن المراحل الثلاث لتحقيق الهدف التربوي . تنظر د. بيلي إلى أن الطفولة لها وظيفية رئيسية ولا أعتقد اننا نختلف معها في هذا النظر:
{وظيفة الطفولة هي التعلم}
التعلم هو المرحلة الثالثة في عملية التربية. إلا أن التعلم كعملية دماغية لا يمكن أن تتيسر إلا بعد تحقق مرحلتين قبله: (1) الشعور بالأمن، (2) الشعور بالحب.
يعني ، دماغ كل طفل يقول بلسانه الناطق بشكل عمليات عصبية في خلاياه المليارية ، أعطني أمن وأعطني حب أصبح المتعلم الأمثل.
إن المشهد المتطرف ولكنه واقعي بذات الوقت، ويبدو أنه في ازدياد هو مشهد النزاع الزوجي في المنازل والمنتهي إلى نبذ أحد الوالدين للآخر وصولاً للطلاق الذي لا يحيد الأطفال فيه بل يظلون عالقين في وحول العدوانية والقسوة التي تمتد طويلاً.
نشر موقع مركز هارفارد للطفل النامي (https://developingchild.harvard.edu/) الكثير مما يتعلق بحساسية الطفولة المبكرة للاضطرابات العاطفية الناشئة من خلل بالمحيط المنزلي والتعامل المباشر وغير المباشر مع كل طفل. وفق أدبيات الطب النفسي يعتبر الطلاق في كل مراحله ما قبل الصك القانوني وما بعده حدثاً جسيماً مؤثراً في كل طفل.
أعظم ما يسلبه هذا الحدث من الطفل ، أنه يسلب الأمن. وغالباً ما يمتد ليسلب أيضاً الحب أو على الأقل يتقطع تيار الحب مراراً حيث أن محطة توليد الحب قد اختلت مع انهيار المنظومة المنزلية ناهيك عما يلي انفصال الزوجين من اضطراب معيشي مترتب على الانتقال للمعيشة هنا أو هناك وظهور أنماط جديدة من العيش والمقارنات كثيراً ما يواجهها الطفل لوحده دون إيضاح كاف ودائما تحت عنوان بغيض: إنه طفل ولا يفهم.
نعم هو لا يفهم لكنه يشعر. يشعر بقوة وكل عنفوان وصدق ودون تردد. منطق فهم الأطفال للعالم هو المنطق الحسي ، ليس اللغوي. للاطفال بصائر ومسامع تراقب كل تغيير حدث في ملامح وأصوات ولغات أجساد الآباء والأمهات. الويل لهم إن كانت هذه اللغة الحسية لا تخبرهم إلا أنه الأمن قد رحل. هذه حروب منزلية لا تقل شناعة عن الحروب العسكرية في العالم الكبير. دعونا نتذكر:
منازلنا هي العالم بالنسبة لأطفالنا، فلتكن آمنة،،،
مقال رائع دكتور
لفتات مهمة جدا قد نغفل عنها
بإنتظار المزيد من لفتاتك و خبرتك
سيكون جميلًا لو كانت الموضوعات بين مقالات وفيديوهات حيث في وقتنا الحالي تنتقل الفديوهات عبر مواقع التواصل بشكل أسهل وأسرع لتعم الفائدة.
شكرًا لكم على جهودكم المباركة