[وقفة مع الفاظ إتفقت في المبنى وإختلفت في المعنى]
وهذا باب واسع في اللغة العربية لا غنى عنه لكل دارس لها أو مهتم بها وبآدابها.
* غلى، يغلي، من باب قضى يقضي وكفى يكفي:
والإسم منه غَلْي ك سَعْي وغَلَيَان. والغَلْيُ رفع درحة حرارة السائل حتى تبلغ الدرجة التي يبدأ عندها بالغليان وهي ما تسمى بدرجة الغليان.. والغَلَيَان على وزن فَعَلَان بفتح الأول والثاني والثالث وهي صيغة تفيد الحركة المستمرة لمدة من الزمن، ك ذوبان وطيران وفلتان ودوران وغيرها من الألفاظ الدالة على الحركة المستمرة.
ومن ما جاء في الذكر الحكيم على هذا الوزن كلمة “حَيَوَان” بفتح الحاء والياء والواو في قوله تعالى في سورة العنكبوت المباركة في وصف الحياة في الأخرة “وَمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا لَهۡوٞ وَلَعِبٞۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ لَهِيَ ٱلۡحَيَوَانُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ (64)” ، فحيوان في هذه الآية الكريمة وصف للحياة الآخرة بأنها حياة نشاط وحيوية لا يعتريها فتور لملل أو ضجر ولا يصاب صاحبها بتعب ولا نصب ولا مرض ولا نوم ولا كسل بل هي حياة متجددة النشاط والفتوة (حيوان).
والغليان عملية تحول المادة من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية عند درجة حرارة محددة وضغط محدد. ولكل مادة سائلة درجة غليان خاصة بها وهي إحدى خصائصها الفيزيائية. ويختلف الغليان عن التبخر، فحدوث تبخر الماء ليس مقيدًا بدرجة حرارة معينة بل هو يحدث في كل درجات الحرارة من الصفر المئوي وما فوق ويزداد بزيادة سرعة الريح او الحرارة. والتبخر يحدث في السطح فقط أما الغليان فلا.
* غلا، يغلو غلاء، من باب سما، يسمو، سماء:
والغلاء إرتفاع اسعار السلع والخدمات. والغلاء ظاهرة إقتصادية تشير إلى بدء مرحلة من التضخم. وترجع اسباب الغلاء في الغالب إلى زيادة الطلب أو شحة المعروض. ومن ابرز اسباب الغلاء زيادة عدد البشر (النمو السكاني) ويبلغ عدد البشر اليوم ما يقرب من 8 مليار نسمة كما أن عدم ترشيد إستهلاك البشر لموارد الطبيعة تسبب في تعاسة حياة الكثير من الناس كما تسبب في ضنك المعيشة. وقد يأتي اليوم الذي يصبح فيه الهواء سلعة إستهلاكية كما أصبح الماء اليوم.
* غلا، يغلو غلو، ك علا يعلو علو. ودنا. يدنو دنو:
وغالى مغالاة وهو مغالي. وأصل الغلو رمي القناص صيدًا قريبًا نسبيًا ظانًا أنه بعيد فيخطؤه ويقع السهم بعيدًا عنه. فيقال غلا في رميه أي تجاوز حد الإصابة. وفي اللغة مجاوزة الحد . وفي الدين هو إعتقاد في بعض البشر بما يتجاوز بهم طبيعتهم البشرية فيشركهم مع الله عز وجل في صفاته وافعاله. والطبيعة البشرية هي واحدة في الجميع وإن تفاوتت في صفة ما فتفاوتها يقع في نطاق بين أقصى طرفي تلك الصفة.
ومن أمثلة الغلو كأن يعتقد أحدهم في شخص معين أنه يستطيع السير على قدميه بسرعة تتجاوز 120كم/س أو أنه يستطيع ان يرفع جسمًا يزن أكثر من طن فوق رأسه دون الحاجة إلى أي مساعدة. وهكذا في كل الأمور الخارقة والتي تكذبها طبيعة الإنسان. ومن الغلو ما دأب عليه الأمريكان من تصويرهم شخصية الأمريكي بالرجل الخارق (super man). وإن كان الغلو كله مذمومًا إلا أن بعضه كفر وبعضه ليس بكفر.
وقد صاحب الغلو تأريخ البشرية منذ القدم وفي كل المجتمعات والثقافات والأديان، فعُبِدَ الملوكُ وعُظِّمَ الجبابرةُ والطواغيتُ. وقد علقت لوثة الغلو بالتشيع لأهل البيت. وعلى الأرجح أن بداية ظهوره كانت في الكوفة أيام أبي جعفر المنصور في مدة إمامة الإمام جعفر الصادق عليه السلام. وأرجح أن للبلاط العباسي يد في ظهوره وترعرعه بغية ضرب حركة العلويين المطالبة بالخلافة ضربها من الداخل وتنفير الناس منها وإحداث الشقاق في صفوفها. ولا يزال ما تركه الغلاة الأوائل من تراث تظهر له أثار في الحياة الشيعية بنحو أو آخر منذ ذالك التأريخ إلى يومنا هذا، تبرز أزمانًا وتخبو أزمانًا أخرى.
قال تعالى “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ” فكل غلو هو غير الحق، وهذا من قبيل قوله تعالى “فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ” فلا يوجد قتل للأنبياء بحق، فكل قتل الأنبياء هو بغير حق فهذا من باب التوصيف و ليس من باب التصنيف.
*الأستاذ حسين جاسم الدبيسي ، أحد رواد العمل التطوعي ، له إهتمامات في التاريخ العميق واللغة وألفاظ الذكر الحكيم.