لا أحسب إني بحاجة إلى ديباجة ، توضح أهمية العلم وتوفر العقلية العلمية ، في تقدم الأمم والشعوب وأنه لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق التقدم والتطور ، الا على قاعدة العلم والمعرفة ..
فالجهل بأشكاله المختلفة وعناوينه المتعددة ، لا يصنع الا المزيد من الارتكاس فيه وتتكرس من جراء ذلك كل آليات التخلف وجذور الانحطاط ومظاهره في المجتمع ، لذا فأن توسع قاعدة العلم في المجتمع يعني المزيد من توفر العوامل الخالقة والحاضنة لأطر التقدم في المجتمع ، ولم يحدثنا التاريخ الإنساني كله عن مجتمع وصل إلى درجات معينة من التقدم والحضارة بدون العلم فهو أس الحضارات ومنبع التقدم وملهمه ، وبدونه يبقى المجتمع ركاماً بشرياً ، يتنازع مع بعضه لأتفه الأسباب ويصرف طاقاته وإمكاناته في أمور أقل ما يقال عنها أنها خارج التاريخ وبعيدة عن ضروريات المجتمع الإنساني.
فالعلم حينما يسود مجتمعاً ما فإنه يضبط سلوكه بضوابط منهجية علمية ويدفعه باتجاه التوظيف الأمثل لإمكاناته وقدراته الذاتية ويبلور له المواقع المفضلة لصرفها، ويخلق لديه حوافز العمل والبناء وإنهاء كل العوامل المحيطة والكابحة لعمليات التطور والبناء.
فالعلم مقوّم أساسي من مقومات المجتمع الإنساني المتقدم ، حيث أنه بضوابطه الأخلاقية يعيد للإنسان إنسانيته المسلوبة .. والاتكاء على الخرافة ، والعمل وفق معتقداتها لا يؤدي إلا إلى المزيد من التقهقر الاجتماعي والجمود الثقافي والتحجر الذهني والفكري.
وفي الدائرة العربية والإسلامية وبفعل الاضطراب المنهجي والفوضى المفهومية التي حدثت من جراء الصراعات الفكرية الوافدة وعمليات الاستغراب الثقافية والحضارية والتي حدثت على المستوى النظري والعملي في المحيط العربي والإسلامي تشكلت بنية فكرية ومجتمعية مشوهة. وتتجلى هذه البنية المشوهة في العقلية وطريقة التفكير. حيث يعيش المرء الانفصام بين ما يظهره من أفكار وتصورات وبين ما يبطنه ويحتفظ به لنفسه. “بين المفكر به عبر نصوص يغلب عليها التشويش في استعمال المفاهيم والمصطلحات والا مفكر به” . على حد تعبير الدكتور سهيل فرح.
وأمام هذا الواقع المشوه والمزدوج تأتي أهمية وضرورة توفر العقلية العلمية القادرة على تنقية منظورنا المعرفي والفكري من أجزاءه الأسطورية واللاعلمية والتي لا تنسجم حين التدقيق فيها وروح لقاصد المنظور المعرفي والفكري نفسه.
وهذه العملية ليست سهلة وبسيطة ، بل تكتنفها الكثير من الصعوبات والمشاكل التي من مصلحتها بقاء تلك العناصر والأجزاء في منظوماتنا المعرفية والفكرية.
وينبغي التذكير في هذا المجال بحقيقة أساسية وهي إن الانطلاقة الحضارية والتقنية والصناعية الهائلة التي حدثت في الغرب كان بدايتها ونواتها الاصلية. تحرر العقلية الغربية ، من بعض المفاهيم والموروثات ، التي كانت تعيق الفكر الإنساني وتكبح تقدمه ، وتحارب آفاقه ، وتقمع تصوراته ونظراته.. لهذا بقي الفكر الإنساني ( في الدائرة الغربية ) مهمشاً حتى استطاع أقطاب الحركة التنويرية في أوروبا من إعادة الاعتبار إلى الفكر الإنساني ومنتوجاته المختلفة.
وهذه كانت بداية لانطلاقة الحضارية في الغرب لأنه لا يعقل أن مجتمعا يستطيع أن يبني حضارة ويشيد مدنية ضخمة ، وهو أسير بعض الموروثات الفكرية التقليدية التي لا تنتمي أصلا إلى المنابع الفكرية والفلسفية الأصلية ، بل هي وافدة من عصور الانحطاط والتخلف والجهل التي دخلت أوروبا في نفقها مدة زمنية طويلة.
لهذا فقد حورب العلماء ، واضطهد المخترعون ، وأضحى كل نفر يشكك في المسلمات ويحارب الطقوسات الوثنية خارجاً من التاريخ والناموس العام ويجب محاربته.
والإشكالية المنهجية العميقة ، التي ابتليت بها بلداننا العربية والإسلامية ، هو أنها تلهث وراء اقتناء أحدث المعدات التكنولوجية ، واستيراد آخر ما أنتجته المصانع والشركات والمؤسسات ، على اعتبار أن هذا الاقتناء والحضور السريع لهذه المعلومات ، هو الذي سيحقق القفزة النوعية المطلوبة في العالم العربي والإسلامي… متغافلين عن حقيقة أساسية وهي أن قاعدة الانطلاقة الحضارية والصناعية ، ليس اللهاث وراء منتجات الغير ، بل هو تحقيق قفزة نوعية في طريقة تفكيرنا ونظامنا الفكري وقيمنا السائدة.
أن عملية العقل العربي والإسلامي ، هو حجر الزاوية في كل عملية نهوض حضاري ، ويخطأ الطريق ويجانب الصواب .. من يبحث عن الحضارة والتقدم بدون تحقيق العلمية في طريقة تفكيرنا وعقولنا ونظراتنا إلى الأشياء والأمور .. ولعل الآية القرآنية التي تشير إلى ذي القرنين وقصته تؤكد على العقلية العلمية السببية إذ يقول القرآن الحكيم (ويسالونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا ، إنا مكنا له في الارض واتيناه من كل شي سببا ، فاتبع سببا ) (سورة الكهف (٨٤ – ٨٣).
وثمة أمور عديدة ينبغي استحضارها للوصول إلى شيوع العقلية العلمية في حركتنا الإجتماعية ، ويمكننا اختصارها في نقطتين أساسيتين وهما:
- احتضان وتشجيع حركة النقد المعرفية والعقلانية ، لأنها هي الاطار الفعال ، والحركة الفكرية المؤهلة ذاتيا وموضوعيا ، لتطوير حركة الإبداع والابتكار الفكري والمعرفي.
والعملية النقدية هي عبارة عن ممارسة نقدية عملية للأطر النظرية التي يبدعها العلم بصورة متواصلة من أجل فهم الواقع ومن أجل تغييره أيضاً.
وفي العالم الاوروبي نشأت قيمة النقد ، بوصفها واحدة من القيم الأساسية التي تشكل هذا العالم بموجبها وبوصفها منهاجاً عاما للتعامل الاجتماعي .. كان لهذه القيمة الفضل في تفجر العلمية الكبرى على يدي (غاليليو غاليلي) مؤسس علم الفيزياء فقد أبى غاليليو أن يكتفي بتأييد بعض الأفكار والآراء الجديدة التي كانت مطروحة آنذاك على الساحة الأوروبية (مثل نظرية كوبر نيكوس في النظام الشمسي). ويصمت عن الآراء القديمة ، وإنما شرع يختبر الأفكار القديمة واحدة تلو الأخرى بالفكر والعمل النقديين ووفق أسس عقلانية وواقعية صارمة ، حتى أتى عليها جميعاً ، مقوضا بذلك أركان ثقافة في كاملها.. (جدل الوعي العلمي – الدكتور هشام غصيب – ص ١٣١).
فالنقد الخلاق هو الروح المحرك للتطور العلمي والعقلية العلمية .. لذلك ينبغي الا ننظر إلى النقد البناء ، باعتباره معول هدم ، وإنما هو مبدأ فصل العلم الحديث وديناميته وتطوره.
- الانفتاح على الخطاب العلمي الإنساني ومحاولة الاستفادة من منجزاته المنهجية ومكاسبه العلمية والمعرفية.
فشيوع قيم العلم والحضارة في المجتمع ، لا يتأتى الا بعلمية العقول وتحديثها ، فهو السبيل تجسيد قيم العلم والمعرفة في الواقع الاجتماعي .. لأن الوعي النقدي هو الذي يحاور ويسائل ويشكك (الشك المنهجي) وكلها روافد للإبداع والتطوير.
والعقلية العلمية ، لا تعني أن يتعامل الإنسان مع القضايا الإجتماعية والإنسانية بلغة رياضية – حسابية ، بل أن يتعامل معها وفق المعطيات الواقعية والبراهين الدامغة والحقائق والقناعات الثابتة المعتمد على العلم واليقين لا الاحتمالات والظنون.
فالعلمية تعني حضور الوعي والحقائق أثناء التفكير في القضايا أو تقويم الأمور والمسائل .. وربط النتائج بالأسباب .. لأننا ما دمنا نتحدث عن حركة الإنسان ، لذلك لا يمكن أن تتبلور ظاهرة أو تبرز نتيجة بشكل عشوائي أو صدفة ، وإنما هي ظاهرة مرتبطة بالأسباب الحقيقية التي أوجدتها ، لهذا فإن العقلية العلمية تعني أن نربط المسببات بأسبابها الحقيقية.
فالحركة الإجتماعية مهما كان توجهها ومسيرتها ، فالعلاقة بين عالم الاسباب والمسببات. وحتى نفهم هذا الموضوع ينبغي ان ننهي مسألة انه لاتوجد في الواقع الاجتماعي ظواهر بدون اسباب مباشرة وبدون مانفهم هذه الاسباب لن نفهم مجموع الظواهر الاجتماعية.
هي خاضعة لجملة من القوانين الموضوعية التي لا يمكن نكران تأثيرها على مسيرة المجتمع سلباً أو إيجاباً ، وحتى تغدو هذه الحركة الإجتماعية مفهومة ، لا بد من جعلها في سياقها الموضوعي ، وربط النتائج بمقدماتها الفعلية .. لأن هذه الظواهر من صنع الإنسان نفسه . ومن الخطأ بمكان أن ننظر إلى هذه الظواهر بمنظور الصدفة أو الفوارق والمعجزات.
كما أن العقلية العلمية تقتضي منا أن ننظر إلى آمالنا وتطلعاتنا بمنظور أن عملنا وجهدنا ، هو الكفيل الوحيد بتحقيقها في الواقع الخارجي ..
فالطالب في المدرسة هو المسئول الأول عن تحقيق تطلعاته العلمية والمدرسية ، كما أن رجل المال والاقتصاد ، هو المسئول الأول عن إدارة مشاريعه وإنجاز أعماله ..
فالعقلية العلمية تعني: ان تطلعاتك الفردية والجمعية أنت المسؤول الأول الذي ينبغي أن تعمل وتكافح من أجل الوصول إليها كما أن سيئات الواقع وكوابحه أنت المسؤول الأول عن إنهاء مفعولها وإنهاء تأثيرها .. فهي عقلية تدفعنا باتجاه أن نتحمل مسؤولياتنا على أكمل وجه في أتجاهين تكاملين:
الاتجاه الأول ، العمل الدؤوب لتحقيق التطلعات والآمال ..
الاتجاه الثاني ، العمل على إنهاء كوابح الواقع وسيئاته ومنع تأثيرها على واقعنا الخاص والعام ..
وفي الختام: أننا وأمام هذه التحولات السريعة التي تجري في العالم كله ، أحوج ما نكون إلى العقلية العلمية ، وتتجسد قيمها في إدارة أمورنا والنظر إلى قضايانا وقضايا الآخرين ..
*الأستاذ محمد جاسم المحفوظ – مفكر وكاتب في الإنسانيات له العديد من المؤلفات والدراسات.